العودة إلى رابعة
د. محمد الجوادي
للصوفية ثلاثة معاني مختلفة وإن بدت متقاربة:
* لها معنى فلسفي معروف يرتبط بتاريخها ومضمونها.
* ولها معنى سياسي يرتبط بالدور الذي نجح مفكرو الإنجليز ومستشرقوهم (ومن تبعوهم من الأمريكان والمتأمركين) بتلبيسه مع الصوفية ولا نقول بإلباسه للصوفية.
* لكن المعنى الأعظم للصوفية هو معناها المجازي الذي يستخدمه علماء الدنيا (بأكثر من علماء الدين) للدلالة على التجرد الكلى للفكرة وقضاء وقت طويل معها حتى تخرج النظرية أو الطريقة أو التطبيق أو القراءة أو المقاربة، وقد تتطور هذا الامر في المدارس العلمية الغربية إلى فكرة صوامع العلماء في المكتبات الجامعية وإلى فكرة التفرغ البحثي ...الخ).
نقفز إلى حقيقة مهمة من الحقائق التي لا يتصورها المشتغلون بالسياسة عن جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتها الإخوان المسلمين. هذه الحقيقة هي أن هذه الجماعات تمارس الصوفية بمعنى التجرد وان كانت بعيدة عن التصوف بمعنى الطرق الصوفية ودلالاتها، يقولون إنني صاحب هذه الفكرة والمنفرد بالقول بها، ولا أمانع بل أتشرف، لكني أزيد هذه الفكرة توسيعا وتعميقا بأن أقول إن من شرائط نجاح زعماء الفكر الإسلامي والفكر الاسلامي السياسي (بل والفكر السياسي عموما) أن يمروا في شبابهم بتجربة صوفية عميقة تكسبهم المران النفسي والعقلي على التجرد. وهو ما حدث لكثيرين ممن سجلت سيرهم، ومنهم الإمام محمد عبده والإمام حسن البنا.
ولا يفسر هذا الأمر بمثل ما كتبته منذ سنوات طويلة عن رابعة العدوية وأدبها وتصوفها معا. فقد تغني الصوفية بالعشق الإلهي بعد رابعة واعتبروه مقاما أو حالا للسلوك، ومن هؤلاء: ذو النون ويحيي بن معاذ والرازي والحلاج وابن سبعين، وقد حفلت كتب الطبقات بأقوال كثيرة وبديعة منسوبة إليها. وقد كان جوهر المعاني البديعة التي سبقت إليها رابعة متصلا بفكرة "الزهد في الدنيا"، فقد روي أن رجلا من أهل الدنيا قال لرابعة: "سليني حاجتك؟ فقالت: "إني لأستحي أن أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها ممن لا يملكها؟". ويروي أنها كانت تقول في مناجاتها: "إلهي أتحرق بالنار قلبا يحبك!"، فهتف بها هاتف: "ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء".
كانت رابعة كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانا، ويروي أن موضع سجودها كان كهيئة الماء من كثرة دموعها |
وهي التي وصفت إيمانها وتعبدها لله بقولها: "ما عبدته خوفا من ناره، ولا حبا في جنته، فأكون كالأجير السوء، إن خاف عمل، بل عبدته حبا له وشوقا إليه". وإلى رابعة يعود الفضل في الربط بين الحب والكشف. وكانت، فيما تركت من شعر تعبر عن فكرة انفصالها عن ذاتها بسبب حضورها مع الله تعالي:
إني جعلتك في الفـؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجســم مني للجليس مؤانس وحبيـب قلبي في الــفؤاد أنيسي
ولأن الآثار المنسوبة إلى رابعة متعددة، فإن تحليل مضمون هذه الآثار قد يظهر بعض الاختلاف بين بعضها البعض، وكذلك الحال في كل قضايا الفكر الإسلامي، وبخاصة إذا ما اختلطت مع السياسة، وعلى سبيل المثال فإن البعض يقولون إنها شغلت عن النبي صلي الله عليه وسلم بحب الله جل جلاله، ويستدلون على هذا بما نسب إليها من قولها: إني والله أحبه (أي النبي صلي الله عليه وسلم) حبا شديدا لكن حب الخالق شغلني عن حب المخلوقين، على حين يري آخرون أن محبة النبي صلي الله عليه وسلم لم تفتها لأنها لا تنفصل عن محبة الله تعالي.
كانت رابعة كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها زمانا، ويروي أن موضع سجودها كان كهيئة الماء من كثرة دموعها. وقال سفيان الثوري يوما أمامها: "واحزناه"! فقالت: "لا تكذب، بل قل: وا قلة حزناه، لو كنت محزونا ما تهيأ لك أن تتنفس". وكانت تري أن التوبة عموما واجبة بأمر من الله تعالي، وكذلك تري أن توبة العاصي خاضعة أولا وأخيرا لإرادة الله تعالي وللفضل الإلهي، وليست بإرادة الإنسان، فلو شاء الله لتاب علي العاصي. وقد قال رجل لرابعة: إني أكثرت من الذنوب والمعاصي، فهل يتوب علي إن أنا تبت؟ قالت: لا بل لو تاب عليك لتبت.
كانت رابعة تحذر الناس من الرياء،، وكانت ترى ألا يستكثر العبد أي عمل أو عبادة قام بها، فهو لا يدري مدى قبولها أو رفضها
كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر نامت في مصلاها نومة خفيفة حتى يسفر الفجر، وكانت إذا هبت من مرقدها تقول: "يا نفس كم تنامين، وإلى كم تنامين! يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور". وظل هذا دأبها حتى ماتت. وكانت رابعة ترى الرضا في أعلى درجات الأهمية، ويروي أن سفيان الثوري قال عندها: "اللهم ارض عني" فقالت له: "أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض".
كانت رابعة تحذر الناس من الرياء، إذ تقول: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم"، وكانت ترى ألا يستكثر العبد أي عمل أو عبادة قام بها، فهو لا يدري مدى قبولها أو رفضها. وكانت رابعة تقول: "ما ظهر من أعمال فلا أعده شيئا"، أي ما عرفه الناس من عبادتها فهو مشكوك في قبوله. "وقيل لها: هل عملت عملا قط تري أنه يقبل منك؟ فقالت: إن كان شيء فخوفي من أن يرد علي". وكانت توجه إلى البعد عن تتبع عيوب الناس، لأن السالك إلي الله تعالي، لابد أن يكون مشتغلا بالتعرف على عيوب نفسه: "إذا نصح الإنسان لله، أطلعه الله تعالي على مساوئ عمله، فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق