إسلاميون في خدمة العلمانية
شريف عبد العزيز الزهيري
بعد مرور قرابة العامين على اندلاع ثورات الربيع العربي في محيطنا العربي والإسلامي والذي أطاح بالعروش القديمة والديكتاتوريات الكلاسيكية في المنطقة، نستطيع أن نلخِّص المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في دول الربيع العربي في جملة واحدة وهي “صراع الأيدلوجيات”، فما جرى ويجري في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا والأردن والسودان وغيرهم عبارة عن مواجهة صريحة وواضحة بين الإسلام والعلمانية.
ليس الإسلام كدين وعقيدة فحسب، بل كمحتوى حضاري وأخلاقي وثقافي ومنهج قيمي وأخلاقي واجتماعي يصوغ الحياة كاملة غير منقوصة الجوانب بنور الوحيين وتراث الأمة العميقة تاريخيًّا وتطبيقاتها الواسعة والثرية على شتى المستويات وفي كل المجالات وعلى اختلاف الأحوال والأوضاع، وهو المنهج الذي حقق به المسلمون الأوائل نجاحات باهرة وانجازات فاخرة، ولمعت به الأمة لقرون وسادت العالم لعهود، وحفظت به جنابها وحياضها من العبث والعدوان الخارجي لفترات طويلة، وما إن تخلت عنه حتى أفل نجمها، وذهب سعدها، وضاع مجدها، وتسلط عليها عدوها، وصارت مطية كل باغي، ومحطة كل غازي.
وبين العلمانية هذا المنتج الثقافي المستورد من أوروبا الغربية والذي ولد ونشأ في أوضاع وظروف سياسية ودينية واجتماعية خاصة بالبيئة الأوروبية، وكانت بمثابة انتفاضة النخب العلمية والثقافية ضد الطغيان الكنسي الذي فاق كل التصورات وجاوز كل الحدود في تحدي المعقولات ومعاداة الكشوف العلمية في شتى مجالات الحياة، والإصرار على الوصاية على العقول والضمائر، والخلط بين الموروث والمكشوف، حتى أصبحت الكنيسة كابوسًا يؤرق كل العقلاء، لذلك جاءت العلمانية متماهية مع العقلية والنفسية الأوروبية وقتها، فحققت العلمانية نجاحات كبيرة في بيئتها التي نشأت فيها، نجاحات علمية واقتصادية وسياسية، وإن كانت فشلت تمامًا على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي. هذه العلمانية عبرت إلي العالم الإسلامي مع الاحتلال الأوروبي الشامل الذي أصاب بلاد المسلمين بأسرها، حملت إلينا على ظهور الدبابات والطائرات ، وفرضت علينا فرضًا ورغمًا عنا، ولأنها منتج غربي وليد بيئته وابن ظروفه، فقد كان مثل السم الزعاف الذي سار في جسد الأمة، فلم يجلب عليها إلا الخراب والدمار وطمس الهوية وضياع الخصوصية، والتعلق بأذيال الغرب، والاقتداء بآثاره والسير على خطاه، حتى ولو على حساب ثوابتنا الدينية وهويتنا الوطنية وخصوصيتنا القومية.
والصراع الحادث اليوم في منطقتنا العربية والإسلامية هو صراع بين المنهج الإسلامي الذي اختارته الجماهير ورضيته الشعوب التي نالت حريتها وفكت أغلالها ليكون حكمًا وحاكمًا ومنهجًا وطريقًا، وبين المنهج العلماني الذي ظل يحكم منطقتنا العربية والإسلامية منذ أكثر من قرنين من الزمان بعد أن تسلط الاحتلال الأوروبي على المنطقة وفرض عليها التحاكم إليها فكان الخراب والضياع والتخلف هو حصاد هذه العلمانية.
وأشد صور الصراع بين الإسلام والعلمانية يقع الآن في مصر قلب العالم الإسلامي والعربي، وأهم دول المنطقة قاطبة.
وكل ما وقع في مصر خلال الفترة الانتقالية من تجاذبات سياسية وثقافية واجتماعية، ما هو إلا صورة من صور الصراع بين الإسلام والعلمانية، فعلمانية مصر تختلف عن غيرها من علمانيات دول المنطقة، فعلمانية مصر علمانية رائدة اقتدت بها سائر العلمانيات المجاورة، ورواد العلمانية في مصر هم الأشهر والأكثر تأثيرًا في الثقافة والفن والاجتماع والسياسة والقانون.
وأشد صور الصراع بين الإسلام والعلمانية يقع الآن في مصر قلب العالم الإسلامي والعربي، وأهم دول المنطقة قاطبة.
وكل ما وقع في مصر خلال الفترة الانتقالية من تجاذبات سياسية وثقافية واجتماعية، ما هو إلا صورة من صور الصراع بين الإسلام والعلمانية، فعلمانية مصر تختلف عن غيرها من علمانيات دول المنطقة، فعلمانية مصر علمانية رائدة اقتدت بها سائر العلمانيات المجاورة، ورواد العلمانية في مصر هم الأشهر والأكثر تأثيرًا في الثقافة والفن والاجتماع والسياسة والقانون.
ومن خلال هذا السياق نستطيع أن نفهم هذه الحرب الضروس الطاحنة التي يشنها العلمانيون بشتى أطيافهم؛ ليبراليون، يساريون، شيوعيون، اشتراكيون، ناصريون، مباركيون، على التيار الإسلامي الذي استلم زمام الحكم في أول انتخابات حرة ونزيهة، من أجل الحفاظ على العلمانية كمنهج للحكم والحياة في مصر، فالمشاحنات الإعلامية والسياسية حول قضايا من عينة الشواطئ والسياحة والاختلاط والحجاب واللحية والبنوك والاقتراض والفن والحريات الشخصية إلى آخر هذه القضايا التي تتفجر في مصر كل يوم مثل القنابل الانشطارية مخلفة وراءها حالة من الجدل العقيم وحوار الطرشان، هي أمور يراد منها في الأساس تعطيل حركة التمكين للمنهج الإسلامي والشغب عليه بأي وسيلة، والحفاظ على السمت الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للبلاد كما كان أيام حكم العلمانية.
لكن الأمر المحزن حقًّا أن يكون من بين الإسلاميين من يخدم المشروع العلماني ويعمل على تمكينه من حيث لا يدري، فثمة أنماط فكرية من بعض المنتسبين إلى التيار الإسلامي تسهم بقوة في تعطيل حركة المنهج الإسلامي، وتعمل على ترسيخ وبقاء العلمانية في مصر كما كانت من قبل، بل وأشد، وهؤلاء الإسلاميون لا ينتمون جميعًا لنفس المدرسة الفكرية أو نفس التيار، بل أطياف شتى داخل عباءة التيار الإسلامي الكبير، منهم على سبيل المثال:
بعض المنتسبين للتيار السلفي الذي انبهروا بالثورة أيما انبهار، وحدث عندهم رفض داخلي للمنهج الذي كانوا عليه، وفتنوا بالحركات الثورية الجديدة ورموزها مثل البرادعي وصباحي، فانقلبوا يهاجمون الرئيس مرسي وكل ما يصدر من المؤسسة الحاكمة التي جاءت على خلفية إسلامية وتحت لافتة تطبيق الشريعة، وانضموا فعلاً للأحزاب العلمانية واجتهدوا في تشويه صورة الحكم الإسلامي ظنًّا منهم أنهم يمكنون لحزبهم الجديد، ولعل نموذج يسري سلامة ـ البرادعي ـ حزب الدستور أجلى مثال على ما أقول.
مثال آخر للإسلاميين الذين في خدمة العلمانية من حيث لا يشعرون، كثير من الشباب المتحمس الثائر الذي يفيض قلبه غيرة وحبًّا للدين ورغبة في نصرته، والذي لا يؤمن بفكرة الإصلاح التدريجي ويريد إصلاحًا ثوريًّا راديكاليًّا لا يبقي ولا يذر من الفساد القديم، وهو الشباب المتعجل الذي ينشد إقامة الحكم الإسلامي كاملاً غير منقوص، ونسي أننا نواجه فسادًا متجذرًا منذ عشرات السنين لا يطاح به في أسابيع أو شهور، وهذا الشباب يشد النكير على الرئيس مرسي في العديد من إجراءاته ويعيب عليه البطء في قراراته، وينازعه في كل ما يقول ويفعل، وهو لم يسأل نفسه ولو مرة واحدة؛ من المستفيد من هدم الرئيس مرسي؟ ومن الذي سيخلفه؟ وهل هناك البديل الجاهز لخلافته؟ وما هي آلياته ومؤسساته وكوادره التي ينتمي إليها وسيعتمد عليها؟ وهم بذلك يعملون على تحطيم الرئيس دون إيجاد البديل، فيقدمون خدمة عظيمة للعلمانية المتربصة والتي تنتظر الفرصة لتنقض من جديد على حكم البلاد، فالإصلاح الثوري إذا جاء سريعًا وغير مدروس أنتج مؤسسات حكم هشة تسمح بموجات ارتدادية للثورة المضادة.
ومثال ثالث للإسلاميين الذين يقدمون خدمة للعلمانية من طرف خفي، وهم المسبِّحون بمآثر الرئيس، والمبررون للرئيس كل خطواته، والمباركون له كل قراراته، والمصفقون له كل إجراءاته، والرافضون على طول الخط أي انتقادات توجه إليه، وهم بالطبع من ينتمي للتيار الذي ينتمي إليه الرئيس وهم الإخوان بقاعدتهم الشعبية الكبيرة، وكثير من هؤلاء الشباب يقدم مثالاً سيئًا لصناعة الحاكم الذي لا يسأل عما يفعل، ويفتحون قاعدة عريضة لخصوم التيار الإسلامي في النيل منهم وتشبيههم بالنظام البائد، وصناعة الفراعين على حد زعمهم، وبجولة سريعة على المنتج الإعلامي للإخوان تجده تأييدًا مطلقًا لكل ما يصدر من مؤسسة الرئاسة، والتبرير الدائم لكل ما يراه الناس غير مقبول أو مخالفًا لما كان عليه الإخوان أنفسهم من قبل، مما يؤثر سلبًا على شعبية التيار الإسلامي عمومًا والحاكم خصوصًا، ويفتح المجال أمام تساؤلات محرجة.
مثال رابع أَعتبرُه من وجهة نظري هو الأخطر في هؤلاء جميعًا، وهم مجموعة من المحللين السياسيين الإسلاميين الذين يروجون لفكرة “المستبد العادل” وهي الفكرة التي وجدنا لها تطبيقات عملية عديدة في التاريخ الإسلامي أبرزها ما كان في الأندلس مثل عبد الرحمن الداخل، وحفيده عبد الرحمن الناصر، والمنصور بن أبي عامر، والمستبد العادل فكرة يحلو لهؤلاء المحللين ترويجها بين الشباب بحجة عدم أهلية الشعوب لممارسة الديمقراطية، وكثرة الأهواء والفتن، واختلاف الآراء والطبائع، وعدم صلاحية معظم الشعوب لممارسة دورهم الرقابي كمصدر للسلطات في الأنظمة المعاصرة، وهؤلاء المحللون يحاولون قطع الطريق على فكرة ممارسة حرية إبداء الرأي وتقديم المشورة والاقتراحات أو توجيه النقد بحجج عديدة أكثرها متهافت، فالاستبداد مذموم مطلقًا من ظالم كان أم من فاسد.
والذي أريد أن أقوله: إن في تجربة الحكم القائمة الآن في مصر هي تجربة وليدة تحتاج إلى الصبر والهدوء والتناصح بين مكونات الشعب كله، تحتاج إلى النقد البنَّاء البعيد عن الأهواء والآراء المسبقة والتهم المعلبة والخلفيات التاريخية، النقد الذي يقدم حلولاً وإجراءات ورؤى وأفكارًا، تحتاج لمعرفة أن الجميع في خندق واحد في قبالة علمانية ضارية جريحة تدافع من أجل بقائها، وعلى استعداد لفعل أي شيء من أجل استعادة نفوذها وعرشها في مصر، فهل يصح أن يكون بقاؤها بيد بعض المنتسبين إلى المشروع الإسلامي؟!
نشر في أكتوبر 2012
نشر في أكتوبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق