وقفة مع مقولة «للبيت رب يحميه»
ليست هذه المقولة آية ولا حديثاً نبوياً، لكنها حلّت في ثقافتنا المجتمعية وكأنها وحي منزّل، يحفظها الصغار والكبار، ويستشهد بها الخطباء والوعاظ بكل ما تحمله من معانٍ مختلفة ودلالات غير محسوبة وغير مدروسة.
تُنسب المقولة إلى عبدالمطلب كبير مكة وجدّ رسول الله ﷺ، حيث واجه بها غطرسة أبرهة الحبشي، الذي جاء من اليمن قاصداً هدم الكعبة.
المقولة -بلا شك- تحمل بعداً إيمانياً لعله من بقايا الإبراهيمية، لكنها تحمل كذلك دلالات خطيرة وكبيرة؛ فالمسافة التي قطعها أبرهة كافية بأن تنبه العرب إلى هذا الخطر الداهم، وليس صحيحاً أنهم كانوا عاجزين تماماً عن صده أو عرقلة مسيره على الأقل، لكن الذي يدرس طبيعة المجتمع العربي يدرك أنهم ومن عمق التاريخ أقدر على إظهار معاني البطولة والتضحية والاستبسال في حروبهم الداخلية، فهم هنا أباة الضيم وأباة الهوان ولو فنيت القبيلة عن بكرة أبيها، أما مع العدو الأجنبي فلا يُظهر العرب هذا المستوى من الحماس إلا قليلاً، ويقيناً أن ما قدّمه العرب من تضحيات في حرب البسوس مثلاً كانت كفيلة بصد أبرهة وثنيه عن مراده.
لقد وصل أبرهة إلى مكة دون عوائق، واستفرد بقريش دون أن يجد معها أحداً من قبائل العرب؛ مما جعل حكماء قريش يدعون إلى تجنّب المواجهة خشية على نسائهم وذراريهم، وقرروا بالفعل الخروج من مكة وتسليمها للأحباش.
وفي هذه الأجواء البائسة، تأتي مقولة عبدالمطلب تعبيراً واضحاً عن هذا الاستسلام مع خيط من الرجاء الغيبي الموصول بالسماء بعد أن انقطعت أسباب الأرض، وهذه حالة متكررة ومعهودة في السلوك البشري لم يبتدعها عبدالمطلب؛ فليس أمام المغلوب والمقهور إلا التطلع إلى الغيب مهما كان ذلك الغيب.
إشاعة هذه المقولة في مجتمعاتنا اليوم تحمل بلا شك هذه المعاني الثقيلة؛ فالشعوب المقهورة التي تعيش حالة من اليأس والإحباط ربما لا تجد أمامها إلا انتظار القدر ونزول المعجزات.
إن الطير الأبابيل ليست سنّة كونية، بمعنى أنها ليست قابلة للقياس لندخلها في حساباتنا واستراتيجياتنا، بل لقد تعرضت الكعبة في ما بعد للقصف والحرق والاستباحة التامة فلم تنزل الطير الأبابيل، ويكفي استذكار جريمة القرامطة وذبحهم للحجيج وسرقتهم للحجر الأسود ونقلهم له إلى الإحساء، وهذه الحادثة هي التي تقبل القياس والتكرار؛ لأنها منسجمة مع عالم الأسباب الأرضية والتي نحن جميعاً محكومون بها، ولذلك يحذّر الرسول صلي الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري وغيره- من هدم الكعبة ونقضها حجراً حجراً، ولم يقل صلي الله عليه وسلم أبداً وهو يتحدث عن ذلك اليوم المشؤوم: «للبيت رب يحميه»؛ فحماية البيت مسؤولية بشرية، وهي جزء من عقيدة التكليف التي سنُحاسب عليها جميعاً، وكل بحسب مكانته وإمكانياته.
إن ظاهرة التعامل السلبي مع الأحداث التي تهز كيان هذه الأمة وتزلزل أرضها من تحتها باتت ظاهرة عامة، وهي ظاهرة مقترنة بمستوى عالٍ من الحرص على المصالح الشخصية يصل إلى درجة الجشع والطمع، فهناك الأمور موكولة إلى القدر، وهنا {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسانِ إِلَّا ما سَعَى}، هكذا قال عبدالمطلب: «إنما أسألك إبلي؛ فأنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه»!;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق