الخميس، 15 مارس 2018

هوامش من دفتر الدهشة

هوامش من دفتر الدهشة

 وائل قنديل

هامش أول:
في عام 2011، ذات ليلة شتوية باردة من ليالي أحداث شارع محمد محمود، المطل على ميدان التحرير في القاهرة، قالوا إن الشباب في لجان تأمين مداخل الميدان بحاجة إلى مياه وعصائر وبعض الطعام.

ذهبت مع أحد القضاة المعروفين (من جيل الوسط) وإعلامية مشهورة (من جيل الوسط أيضاً) وبعض الأصدقاء من شباب الثورة.

اشترينا كل ما يلزم، وتوجهنا لتسليمه للواقفين على المداخل، فقال صوت من الأصدقاء بمنتهى الحماس: من الأفضل أن نسلم كل شيء للدكتور أشرف حتى نضمن وصولها لمن يستحق.
تساءلت من الدكتور أشرف؟ ردت هو من أطباء الميدان ومعروف بقدراته في التأمين والتنظيم، فقلنا لا بأس. 


فيما بعد، وعقب انتهاء أحداث مجلس الوزراء، جاءني اتصال من أحد شباب الميدان: الدكتور أشرف ليس دكتوراً وإنما ضابط مخابرات.

كيف؟ تساءلت في دهشة.. قال إن شكوكاً كثيرة حامت حوله، إذ فتح أحد الأطباء الحقيقيين، في مجال تخصصه، حواراً علمياً معه، تبين من خلاله أن علاقته بالطب منعدمة، وهنا تم استدراجه إلى مكتب في إحدى العمارات المطلة على الميدان ومواجهته ومطالبته بأن يثبت أنه دكتور، وتطور الأمر إلى اشتباك عنيف بالأيدي كاد ينهي حياته، وفي تلك اللحظة أخرج لهم كارنيه من جهة سيادية يحمل صورته للردع والتخويف.

ربما كان ذلك الدكتور المزعوم رجل أمن بالفعل، وقد يكون مزيفاً واستخدم هذه الصفة لزوم الترهيب والنصب، لكن المؤكد أن هذا الموقف علمني ألا أسرف في الاندهاش.

غير أنني أتذكره، وعشرات المواقف مثله، وأضحك على نفسي، لكني لم أندم على ما فعلت من حماقات، كانت تبدو لي أعمالاً عظيمة في وقتها.

هامش ثانٍ
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، كنت أعمل محرراً للأدب والثقافة بأسبوعية "روز اليوسف" الشهيرة، تربطني علاقات عمل جيدة بمعظم الأسماء الكبيرة في دنيا الإبداع، وفي ذلك الوقت حكى لي أحد المصادر عن شاعر عامية من جيل الستينيات، اسمه نبيه سرحان، انشقت الأرض وابتلعته، ثم ظهر في الكيان الصهيوني بعد ذلك بسنوات.

بذلت كل الجهد اللازم للوقوف على الحكاية، وعلمت أنه كان شاباً فقيراً من محافظة الشرقية، من بلد يوسف إدريس الأديب اللامع في ذلك الوقت، والذي تحمس له وساعده في النشر، وكان لافتاً لي أن معظم مجايليه الذين سألتهم عنه كانوا يتهربون من الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بأصله وفصله، ومن تحدث منهم أجاب باقتضاب، موحياً لي بأنه لم يكن ذا أهمية.

من ضمن ما توفر لدي من معلومات أنه كان بالفعل شاعر عامية واعداً، غير أن الفقر طحنه، والإحساس العميق بالتجاهل وانعدام القيمة دفعه للهجرة إلى الكيان الصهيوني، ليفاجأ به الوفد المصاحب لأنور السادات في زيارته لإسرائيل ضمن مستقبليهم في مطار بن غوريون، مقدماً نفسه صحافياً في إذاعة العدو.

لم يعرف التحقيق الصحافي الذي أعددته عنه طريقاً إلى النشر، لأسباب لا أعلمها حتى الآن، غير أنه بعد سنوات نشرت الصحافة العبرية عن مطربة إسرائيلية، مصرية الأصل، كانت ابنة شاعر العامية نبيه سرحان، الذي صار اسمه الإسرائيلي يوسف سمير.

وفي عام 2003، أجرى موقع "دنيا الوطن" الفلسطيني حواراً مع إحدى زوجتيه، وهي مصرية الأصل، قالت فيه إنه عندما وقعت حرب حزيران 1967 كنت متزوجة من "يوسف سمير" منذ أسبوعين، و شارك في الحرب كمتطوع من الجيش الشعبي، وكنا نسكن في حي روض الفرج في منزل خاله، وأذكر تلك المرحلة المؤلمة بعد النكسة، فقد تحولت القاهرة لمدينة أشباح؛ الجميع صامت والسواد في كل مكان، واستشهد في الحرب أعداد كبيرة من المصريين، وانتظرت عودته و لم يرجع، ومرت الشهور، واعتقدت بأنه استشهد في الحرب، و بعد تسعة أشهر، وعند الساعة الخامسة صباحاً، جاء إلى منزل والدي، حيث عدت لمنزل الأسرة طبعاً في تلك الظروف، و كان عمري 14 عاماً، وسمعته يقول لوالدي بأنه كان في سجن "أبو زعبل" بمصر، وأخذ يتحدث عن اعتقاله.

وأخيراً:
لن تتوقف الحياة عن صفعك بحكايات تشبه قصة طبيب الميدان الوهمي، وشاعر العامية الذي تصهين حتى الموت؛ فحاول أن تبحث عن وسيلة لترشيد دهشتك مما هو آت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق