هل نحن في عصر الفتنة؟
سؤال يتردد بكثرة هذه الأيام، خاصة في الأوساط الدينية ومجالس الذكر والوعظ؛ هل نحن في عصر الفتنة؟
السؤال يعبّر عن حالة من الإحباط والشعور باللا جدوى، وربما الرغبة في التنصّل من المسؤولية، وإن بدا متمسحاً بالعبارات والمصطلحات الدينية.
تكرر لفظ الفتنة كثيراً في القرآن الكريم والسنة النبوية، ليحمل في الغالب دلالتين اثنتين:
الاختبار، وهذا عام في كل المكلفين «خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»، وبهذا المعنى يأتي قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فتنة أَتَصْبِرُونَ»، وقوله: «أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فتنة»، وهذا المعنى ليس فيه مدح أو ذم، وإنما يأتي المدح أو الذم تبعاً لسلوك المكلّف في هذا الاختبار أو الامتحان.
أما المعنى الثاني فهو الفتنة عن الدين والردة عنه، وبهذا المعنى جاء قوله تعالى: «وَالْفتنة أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ»، وقوله أيضاً في التحذير من مكائد المشركين: «وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ».
وموقف المسلم من هذه الفتنة على كلا المعنيين ليس هو محل التساؤل، وإنما الناس يتساءلون عن الفتنة التي تجيز لهم الاعتزال والقعود، وترك الدعوة والإصلاح وانتظار الأقدار، والاكتفاء بتتبع أحاديث الملاحم ورواياتها، ومحاولة تنزيلها على كل حدث، وترقب خروج الدجال، أو ظهور المهدي.
إن هذه الطريقة في التفكير تقود في النهاية إلى الاستسلام التام للأحداث، ومعناه الاستسلام التام لمشاريع الآخرين، ولو كانت تستهدف ديننا وأرضنا ووجودنا، فالأحداث التي نشهدها ليست أحداثاً قدرية معزولة عن تخطيط البشر، وعملهم المتواصل للوصول إلى ما يبتغون، ومن هنا ندرك خطورة هذا التفكير، والذي يغذّيه في كثير من الأحيان الخطاب الديني الضعيف والمرتبك، والذي يستند إلى المعلومات المقطّعة، والأساليب العاطفية البعيدة عن التحقيق العلمي الرصين في دراسة الدين، ونصوصه، أو في فهم الواقع وملابساته.
كان أحدهم يحدّث بحديث البخاري: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن»، ليصل في استنباطاته إلى مركّب غريب من التناقضات التي لا ينظمها ناظم، ولا يربطها رابط، فمن ذاك الذي يستطيع أن يهجر الحياة بكل تفاصيلها، وكم سيلتحق به من المؤمنين الذين يفرّون بهذه الطريقة من الفتن، وكيف سيربّون أبناءهم وبناتهم، وكيف سيقيمون شعائرهم الدينية من جماعة وجمعة وعمرة وحج.. الخ وإذا كان هذا يناسب عشرة أو عشرين أو ألفاً أو ألفين، فأين ستذهب هذه الأمة التي تربو على المليار والنصف؟
مثل هذا الحديث أيضاً حديث «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».
لقد قطعت هذه الأحاديث من سياقها، ووضعت في غير ما وضعت له، حتى غدت كأنها تنسخ ثوابت الإسلام، ومقاصده الكبرى، ومنهجه في إصلاح هذه الحياة، فالله جعل الإنسان خليفة في الأرض، وليس ليعتزل في الكهوف، وأمره بنشر الخير ومكافحة الفساد «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»، وفي الحديث «الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة»، وفي حديث آخر: «إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها»، فالإسلام دين علم وعمل وجد واجتهاد وصلاح وإصلاح، وليس دين تواكل وتقاعس وهروب من الواقع.;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق