إذا كانت السلبية تعني التشاؤم والخمول واللامبالاة، فلا شكّ أن الإيجابية تعني التفاؤل والنشاط وتحمّل المسؤولية. وإذا كان للسلبية أسبابها ومشجعاتها فإن للإيجابية كذلك أسبابها ومشجعاتها، وكثيراً ما يجد الإنسان نفسه محلاً لتنازع الجهتين، والقرار يعود له أولاً وأخيراً في الانحياز لهذه أو تلك.
إن سُلّم الحاجات التي يشعر بها الإنسان يعدّ المحرك الأول نحو الإيجابية، ولكل إنسان سلّمه بحسب همته وثقافته والبيئة المحيطة به؛ فالجائع يتحرك للبحث عن الطعام، والمريض يتحرك للبحث عن الدواء، وعاشق المعرفة يتحرك للبحث عن مظانّها ومصادرها، وطالب الشهرة يبحث عن مدارجها، وطالب الآخرة يبحث عن معارجها.. وهكذا، فكل هؤلاء الذين يتحركون على الأرض إنما يتحركون لسدّ حاجة في داخلهم، سواء أكانت هذه الحاجة مادية أم معنوية، دنيوية أم أخروية، فردية أم جماعية.
إن لاعب الكرة يبذل الجهود الاستثنائية في ميادين الإعداد والتدريب حتى ميادين المباراة وصناعة الأهداف، كذلك ترى التاجر الذي لا يكاد ينام أو يرتاح إلا والحسابات المتشابكة تضغط على مخيّلته، ومثلهما أو يزيد ذلك المرشّح لكرسي الرئاسة أو حتى لمقعد برلماني، وهكذا ترى الداعية الصادق المبشّر بعقيدته ودينه كيف يجوب المدن والقرى في السهول والجبال وما وراء الأنهار ويتحمل الأذى والصدود ليُسمع الناس كلمته وليبلّغهم رسالته.. فما الذي يجمع بين هؤلاء؟ وما الذي جعلهم يستهينون بالصعب ويستلذّون المر؟ إنها الإيجابية التي تكوّنت عندهم ففجّرت طاقاتهم ودفعتهم في هذه الميادين على اختلاف غاياتهم واختلاف مشاربهم.
إن الشعور الذاتي بالحاجة إلى تحقيق إنجاز ما، مع وجود النشاط الذاتي أيضاً والقادر على تحويل الشعور إلى حركة، يضاف إلى ذلك روح العناد والمطاولة وتكرار المحاولة؛ فهذه هي أركان الإيجابية. فإذا وجدنا انخفاضاً في مستوى الإيجابية في مجتمع ما فما علينا إلا فحص هذه الأركان ركناً ركناً على طريقة السبر والتقسيم، أو الاحتمال والفرض؛ حتى نصل إلى نقطة الخلل.
إن الطالب الذي يتغيّب عن المحاضرات ويُكثر من الأعذار و»التقارير الطبية»، فإذا حضر الدرس حضر متأخراً، وإذا جلس على كرسيه لم يلبث حتى يُخرج جواله لينظر فيه ولو لم يكن بحاجة إليه.
وقُل مثل ذلك في الموظف الذي دأب على التسويف والتأجيل حتى تتراكم الأوراق على مكتبه وكأنه ينتظر من ينجزها غيره، والأم التي تُحيل كل شيء في بيتها إلى خادمتها حتى اللقمة التي تدخل في جوفها أو جوف أبنائها وبناتها!
وذلك الأب الذي يؤثر السهر مع أصدقائه في كل ليلة إلى الثلث الأخير فيقصّر مع أهله في البيت ويقصّر مع زملائه في العمل، وربما يقصّر مع ربه في صلاة الفجر..
هؤلاء يشكّلون صورة من صور السلبية القاتلة في المجتمع، والتي تتطلب قدراً كبيراً من الاهتمام والمعالجة.
إن البحث في المؤثّرات والعوامل الخارجية لا يمكن أن يحل المشكلة قبل البحث في ذاتية الإنسان والعمل على صناعة الدافعية في تكوينه الداخلي، فكم من شتلة وفّرت لها كل عوامل النمو فماتت، وكم من بذرة شقّت طريقها بنفسها بين الصخور حتى غدت شجرة مثمرة وارفة الظلال.;
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق