بين طيات الكتاب تقبع سلسلة خطابات ألقاها د. علي شريعتي في قاعة: حسينية الإرشاد، بطهران، سجلت على أشرطة ثم نقلت كتابة على الورق دون زيادة أو نقصان فجمعت بين دفتي كتاب أتى تحت عنوان: (النباهة والاستحمار).
فعلى الرغم من غزارة الإنتاج الفكري لشريعتي وتعدد مصطلحاته الملهمة، إلا أن مصطلح (النباهة والاستحمار) يبقى أكثرها انتشاراً بينها وأعظمها نفعاً وأجداها قيمة.
ويرى شريعتي أن محور التغيير يدور حول الوعي، الذي عبر عنه في هذا الكتاب بالنباهة، والذي قسمها بدوره إلى نباهة فردية واجتماعية بينها كما يلي:
النباهة الفردية (الوعي النفسي):
أراد بالنباهة الفردية الشئ الذي يدفع الإنسان إلى معرفة نفسه داخلياً بعيداً عن أجواءه المحيطة، فهي شئ فوق الفلسفة والعلم والصنعة، وقد اعتبر أن مفهوم النباهة النفسية يشكل ارتكازاً رئيسياً لصيرورة الإنسان وتكامله وإدراك ذاته ، فهي التي تعطي الإنسان شعوراً بذاته ووعياً بقيمته وقدره، ضمن إيمانه بنفسه، فالإنسان مهما ارتقى في مدارج العلم والصنعة والفن وأحرز تقدماً مهماً في نبوغه العلمي لا يمكن أن ينال صيرورته الإنسانية من دون هذه المعرفة التي تفوق الفلسفة والصنعة والعلم والفن، حيث أن هذه المقولة تأتي في سياق الفكر والشعور لا العلم (أي أنها مسألة تقع تحت إطار مقولة الوعي لا مقولة العلم، إذ الأولى أعم من الثانية لدى شريعتي، إضافة إلى أنها معيارية قبل أن تكون وصفية ……. أي أن مدارها التغيير لا التفسير، و بالتالي يكون الوعي الدينامية المركزية لصيرورة الفرد والمجتمع في التاريخ).
كما يوضح أن مسألة العقيدة والإيمان يجب أن تسبق الحضارة. وهو أحد طريقين يجدر بالمجتمعات السير بإثرهما (طريق الفكر والعقيدة وطريق المال والرأسمالية والعصرية) فإذا لم تكن المجتمعات التي تنشد الحضارة متجهة نحو غاية محددة أو ضمن عقيدة راسخة فإنه لا يمكن أن تأسس لحضارة مستقلة، لأن النباهة لابد وأن تسبق الحضارة، وجميع المجتمعات التي سعت إلى إنشاء حضارة دون المرور بمرحلة الفكر والعقيدة فشلت في ذلك ولم تنجز سوى عصرية تقوم على الإستهلاك فحسب ضمن تبعيةٍ كاملة للحضارة التي تستقي منها (حيث فرق شريعتي بين العصرية والحضارة).
والواقع يؤكد أن كل المجتمعات التي بدأت من نقطة عقائدية و تحركت بعد تحقيق وعيها الفردي والاجتماعي يمكنها بناء الحضارة أما المجتمعات التي اقتدت بحضارات أخرى – مهما كانت تلك الحضارات – من دون وعي وشعور ظلت مسخرة لتلك الحضارة مستهلكة على الدوام .. (فمثلاً ألمانيا التي تمتلك الفكر، تمكنت بعد الحرب العالمية الثانية من تدارك وجودها الحضاري، أما دول الخليج – مثلاً – ظلت مستهلكة على الدوام، رغم مرور أكثر من نصف قرن وهي في عالم الاستهلاك والتمدن…).
النباهة الاجتماعية (مجتمع النباهة):
وقد عبر عنه شريعتي بشعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع وعلاقته به، علاقته بأبناء شعبه وأمته والشعور بانضمامه وانتمائه للمجتمع وبمسئوليته كرائد وقائد في الطليعة من أجل الهداية والقيادة والتحرير، وتعتبر هذه بمثابة مسؤولية ثانية للإنسان حيث ثقافته في ثباته وتحصنه ضد الاستلاب.
وبالتالي فأي دعوة أو دعاية، ثقافة أو حضارة، خارجة عن إطار النباهة النفسية والاجتماعية ليست إلا نوعاً من التخدير للإنسان للانصراف عن مطالبه بإنسانيته وحريته واستقلاله، هذا التخدير يهدف إلي تسخير طاقات الإنسان فيما ليس في مصلحته ولكن في مصلحة الآخرين، فهي كتسخير الحمار ونطلق عليه “الاستحمار”.
هذا التسخير يندرج تحت كثير من الصور التي نراها ونظنها هي الفكر والتقدم حيث أصبحت اليوم معززة بالعلم، وبالإذاعة والتلفزيون، وبالتربية والتعليم، وغيرها من الصور التي نرآها ملاذنا الأوحد من هذا الإستحمار مع أنها هي الإستحمار بعينه.
فأصبح العدو يستلب منا الوعي ويعوضنا عنه بجهل وفقر أو معرفة فلسفية فنية وعلمية عوضاً عن النباهة النفسية والاجتماعية، فالمعركة إذاً ليست بالقوة والسلاح بل أصبحت بسحب الفكر والتوجيه نحو ما يريدون منا القيام به بما يتوافق مع رغباتهم في سلبنا تراثنا وحضارتنا ووعينا فهم يصنعون الإنسان كما تصنع الأواني بقوالبها التي يريدون.
لذا فإن الشيء الأساس الذي ينجي الإنسان من الاستحمار بكل وجوهه وصوره هي تلك النباهة بقسميها الذاتي والاجتماعي..!
الاستحمار:
(الاستغلال،الاستعمار،الاستبداد، الاستعباد)
اتضح فيما سبق أن كل دافع أو عامل يقف أمام الوعي والنباهة بكلا قسميها ويعطلهما، فإنه يدخل ضمن مقولة الاستحمار برباعيته سواءً كان هذا الدافع علماً أو فناً أوحضارة أوأي شيء مقدس، إذن فمعنى الاستحمار: تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره وحرف مساره عن تلك النباهة الفردية والاجتماعية.
وينقسم الاستحمار إلى (مباشر وغير مباشر) و(حديث وقديم):
فأما المباشر منه فهو: عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال والانحراف.
أما غير المباشر فهو: عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللافورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة الفورية.
وقد يستخدام الدين كإحدي طرق التخدير والتزييف، ذلك الدين الحاكم شريك المال والقوة، الذي تتولاه فئة من الرسميين، هذا الدين (دين ضد دين) يستخدم في عمله الاستحماري ذات الأدوات والمفاهيم للدين الحقيقي، دين الوعي والأيديولوجيا، إلا أنه قام بتشويهها وإعادة صياغتها بما يلائم دوره الاستحماري، فكل العناوين التي تملك دلالات سامقة في الوجود الإنساني تم إفراغها من محتواها ومؤداها وفاعليتها الاجتماعية لتبقى عناوين ذات أبعاد غيبية أو فلسفية، بحيث تسلب من الإنسان إرادته وقدرته في صنع مصيره وكماله ومجتمعه، أوتلهيه عن ذلك.
فعندما يشب حريق في بيتك، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلي الله عز و جل، ينبغي أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق والانصراف عنه إلي أي عمل آخر حتي لو كان مقدسا “هو الاستحمار الذي يمارسه علي من يعظه.”
الاستحمار القديم (العتيق) والحديث:
يعتمد الاستحمار القديم غالباً على الدين بينما يعتمد الاستحمار الحديث على الإلهاء والتشاجر والتناحر على قضايا فرعية بغرض التمويه والتشتيت عن المحاور الأساسية للمجتمعات – على حد تعبير شريعتي – كإثارة الخلافات الطائفية والمذهبية والنزاعات الدينية من أجل تمرير مشاريع الاستعمار والنهب، إلا أنه يبقى لكل نوع منهما أدواته ووسائله التي استخدمها قديماً وحديثاً لتنفيذ مشروعاته، نذكر بعضها:
أدوات الاستحمار القديم:
- الزهد حينما يوظف كأداة تخدير وتجاهل لكل الواقع المعاش وترك الحقوق والتخلص من حطام الدنيا لصالح الأعداء.
- الشكر حينما يتحول لوسيلة للقبول بكل الواقع بعلاته وسيئاته وعدم محاولة تغييره.
- الشعر حينما يبتعد عن رسالته الاجتماعية والإنسانية ويبقى في إطار مقولة الفن للفن التي ينتقدها شريعتي، لأنه يؤمن بأن قيمة الشيء بمؤداه لا بذاته.
- القومية.
- الفخر والاعتزاز بالماضي والتراث القومي.
أدوات الاستحمار الحديث:
- التخصص حينما يسبب انغماس الإنسان في إطار محدود وصغير جداً مجرداً عن كل المجتمع بصورة يهمش فيه أبعاده الإنسانية الوجودية الأخرى، ولا يعني هذا إلغاء أهمية التخصص كتفريع للعلوم المختلفة كما هو معروف في التطورات الأكاديمية للمنهج البحثي بمنح أكثر عدد من الأقسام للعلم الواحد، كما لا يلغي أهمية تخصص الإنسان ونموه في جانب معين واكتسابه مهارة معينة، وإنما المقصود هو حفظ ومراعاة شمولية الإنسان وتعدد أبعاده بحيث ينظر للحقيقة بكلها لا بجزئها كبقرة أفلاطون.
- التجدد والحضارة والمدنية، حيث تكون دافعاً استحمارياً عندما تفسر بإطارها الاستهلاكي دون الإنتاجي، فيظن المجتمع باستهلاكه أنه تمكن من اللحاق بركب الحضارة والتقدم بينما الواقع يظهر أنه مازال متخلفاً تابعاً لا يجيد سوى الاستهلاك، وشراء البضائع و استيراد الخبرات الأجنبية التي وفرتها الحضارة الغربية.
- الحريات الفردية: عندما تتحول لعائق أمام الوعي الاجتماعي وعندما ينغمس كل منا في حريته الفردية المتوهمة ويتغافل تدريجياً عن الحرية الاجتماعية.
- حرية الجنس: التي كانت بمثابة الهبة عوضاً عن الثروات التي نهبها الغرب منا، فقدم الحرية الجنسية للجيل الذي يعاني من تشويش واضطراب ناتج من الأزمة الجنسية في ذروة حاجته الجنسية حتى يلهو عن مسؤولياته ودوره الاجتماعي في سن النشاط والحيوية.
- حرية المرأة والتبعية والتقليد الأعمى.
والخلاصة، أن كلا النوعين من الاستحمار يؤديان إلى غياب النباهة الفردية والاجتماعية حتى يتم التمكن من صناعة الأفراد التي توافق مقاييسهم.
خاتمة:
من هنا تقف المجتمعات التي تريد أن تختار طريقها أمام طريقين:
طريق العلم والرأسمالية أو طريق الفكر والعقيدة، فالمجتمع الفاقد للوعي الشخصي والاجتماعي فاقد بالتبعية لنموذج يهدف إليه وفاقداً للإيمان، فسيكون همه في أحسن حالاته الإنتاج فقط لا غير ولا يدرك أنه سيقع في الاستهلاك، أما المجتمع المتسلح بالوعي، فيختار طريق الفكر والعقيدة، فيرتبط بهدف عال ويبدأ الدخول في دورة حضارية تضعه في الريادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق