مصر المحبوسة احتياطياً
وائل قنديل
تخيل لو عاد حكام مصر في القرن العشرين، من الملك فاروق مروراً بجمال عبد الناصر وحتى أنور السادات، إلى الحياة، وألقوا نظرة عليها، وتابعوا عبر الشاشات رئيس برلمان عبد الفتاح السيسي وهو يحتفل بالانتصار التاريخي على قوى الشر التي رفضت التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لولي العهد السعودي.
تخيل أنهم سمعوا رئيس البرلمان يطالب نواباً وإعلاميين، سوّلت لهم أنفسهم الأمّارة بالسوء، أن يتماهوا مع المشاعر الشعبية والوثائق التاريخية والأحكام القاضية الرافضة التخلي عن جزيرتين لهما أهمية استراتيجية كبرى في الصراع مع الكيان الصهيوني، والتنازل عنهما لإسرائيل عبر البوابة السعودية.
تخيل أيضاً عودة تلك الأجيال من الكتاب والمثقفين، ليجدوا في وجوهم السيد أسامة الغزالي حرب يعلن الآتي "إذا جاءتني دعوة من إسرائيل يمكن أن أقبلها، ولكن سأفكر كثيرا ليس لعدم اقتناعي بالسفر، ولكن خشية الصخب الذي سيحدثه السفر. ولكن ما يطلقون على أنفسهم رافضي التطبيع هم في نظري مجموعة من الجهلاء الذين يحكم تصرفاتهم مشاعر عاطفية، ليس لها أي أساس منطقي أو عقلاني". ثم يذهب أبعد من ذلك متسائلاً "أيهما أشد قسوة، ما فعلته أمريكا مع اليابان في الحرب العالمية الثانية عندما دمرتها بالقنبلة النووية، أم ما فعلته إسرائيل مع فلسطين؟.. الإجابة هي: قطعا ما فعلته أمريكا".
وتخيل كذلك صلاح جاهين وفؤاد حداد وبيرم التونسي، وغيرهم من أساطين الأغنية الوطنية، وقد عادوا فاستمعوا عبر الراديو، وشاهدوا من خلال التلفزيون، أغنية هابطة تقول "قالوا إيه علينا" تتردد كلماتها على إيقاعات أكثر ابتذالاً مما تتمايل عليه راقصات جمهور الملاهي الليلية، ثم تعمم على المدارس، بالأمر، باعتبارها نشيداً وطنياً يتغنّى ببطولات الجنود!
تخيل وقارن بين عصر كان يغني في شجن "قوم يا مصري" وزمن يصيح "نادي عالصعيدي"، وبين مرحلة "ابنك يقولك يا بطل" وفترة "مش سامع حاجة" التي يتحول فيها طنين الذباب الإلكتروني إلى أعمال وطنية، عظيمة الابتذال والإسفاف.
ماذا يمكن أن يقول العائدون، وهم يرون المحكمة الدستورية العليا، المفترض دستورياً أنها الملاذ الأخير، حين تتغول سلطة الحكم على إرادة الشعب، والملجأ للناس حين تتصادم سلطتان، والمأوى عندما يعبث أهل الحكم بسلطة التشريع، أو تفسد سلطة التشريع، ماذا سيقولون وهم يرونها أصغر من زر في سترة السلطة، تغلقه وتفتحه كيف تشاء.
عرفنا المحكمة الدستورية منذ وعينا على الحياة بأنها الكابح للسلطتين، التنفيذية والتشريعية، حين تعصفان بمقدرات الوطن وإرادة الشعب، غير أننا أفقنا على كابوسٍ مع الحكم في موضوع التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، لتقرّر الدستورية إعدام إحكام القضاء، وإعلان أن رغبات الحاكم هي القانون وهي الدستور وهي القضاء وهي القدر.. وبعد أن كنا نضحك على العبارة الشهيرة للبرلمان حين تردعه الدستورية "المجلس سيد قراره"، نبكي الآن ونحن نرى "البرلمان سيد قرارها"، وهي والبرلمان تطيعان سيداً واحداً، يعتلي دبابة، ويدهس القانون والتاريخ والجغرافيا.
وإذا رأيت دموع الأسى والدهشة في عيون العائدين من التاريخ، قل لهم، ما قلته سابقاً، إن هذه ليست مصر الحقيقية، بل نسخةٌ رخيصةٌ ومزيفة منها.
أو قل: مصر كلها محبوسةٌ داخل كهف أفلاطون، ظهرها للنور ووجهها للظلام، ومن الخلف يتلاعب السجان بالأشكال والظلال، فتصير الصور الباهتة المنعكسة على الحائط الوحيد أمام المكبلين بأغلال الخوف وقيود العجز، هي الحقائق، بالنسبة لهم، وهم على هذه الوضعية الفقيرة من الإدراك..
قل لهم إن الطغاة افترسوا وعي الناس، فصاروا ينكرون الأصل، ويؤمنون بالنسخة الباهتة المزيفة، الرخيصة، فيصبح عبد الفتاح السيسي، مثلاً، هو الزعيم الوطني، أو مثال الزعيم، ويتعاطون ليبراليةً رخيصة، وعروبةً مزيفة، ونماذج مقلدة، من الشخصيات التاريخية، فيكون يسار يرقص فرحاً لانتصار اليمين الأميركي المتطرّف، ويكون ناصريون يهتفون بالروح بالدم فداء للزعيم الذي يرفل في دفء الكيان الصهيوني، ويحاولون تسويقه للجماهير أنه النسخة الأصلية من جمال عبد الناصر.
قل لهم باختصار إن مصر الحقيقية محبوسة احتياطياً في زنزانةٍ يمر من تحتها غاز إسرائيل، ومن فوقها يمرح طيران العدو.
ولا تنس أن تدعوهم لزيارة أخرى لرؤية مصر الأصلية، فبعد الليل نهار، هكذا يقول لنا تاريخ الحضارات والشعوب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق