أنت مدهش، أنت عجيب أيها الإنسان
الشيخ كمال الخطيب
إمام مسجد عمر بن الخطاب في كفركنا، وأحد قادة العمل الإسلامي بفلسطين المحتلة
إنه الإنسان خليفة الله في أرضه ومن نفخ الله فيه من روحه وأسجد له ملائكته، ومن لأجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب الذي ما خلقه الله سبحانه إلا لعبادته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} آية 56 سورة الذاريات. كم هي ملامح ودلالات الإبداع في خلق الإنسان، كم هي صارخة معاني الحكمة الربانية في كل شيء فيك أيها الإنسان، أنت وأنا وهو وهي ونحن جميعًا {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكّبَك} آية 6-8 سورة الانفطار.
فأنت عندما تولد يؤذّن فيك من غير صلاة، وعندما تموت يُصلّى عليك من غير أذان، وعندما تولد لا تعرف من أخرجك من بطن أمك، وعندما تموت لا تعرف من أدخلك في بطن الأرض، وعندما تولد فأنت تغسّل وتنظف وتغطي بالقماش ليستروك، وعندما تموت فإنك يغسّلوك وبالقماش الأبيض يكفّنوك، وعندما تولد فإنك تخرج إلى الدنيا باكيًا وعندما تموت فإنك تخرج من الدنيا ويبكون عليك، وعندما تكبر يسألك الناس عن حسبك ونسبك وشهاداتك وخبراتك وعندما تموت فإنك لا تسأل إلّا عن أعمالك.
أنت مدهش أنت عجيب أيها الإنسان، أنت خلقت من التراب وأنت إلى التراب تعود. لمّا تكون طفلًا تتمنى أن تكبر سريعًا لتصبح مثل الرجال، وأنت لمّا تكبر وتصبح شيخًا عجوزًا تتمنى أن تعود أيام الطفولة والشباب كما قال الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يومًا لأخبره بما فعل المشيب
أنت تضيع صحتك وترهق نفسك من أجل المال، فإذا مرضت فأنت على استعداد لدفع كل مالك من أجل أن تشفى وتعود إليك صحتك. أنا وأنت والناس جميعًا نقلق من أجل المستقبل وننسى الحاضر، فلا الحاضر نعيشه ولا المستقبل نبلغه ولا نأمن عواقبه. نعيش كأننا لن نموت أبدًا وإذا متنا فكأننا لم نعش أبدًا، ولعله يوم أو بعض يوم {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} آية 112-113 سورة المؤمنون. نوسّع بيوتنا بزيادة الغرف والأمتار ولا نوسع قبورنا بالعمل الصالح، كلنا سنذهب إلى الله بعد موتنا ولكن العاقل والسعيد هو من ذهب إلى الله في حياته، نفرّ من كل شيء فنبتعد عنه ونفرّ إلى الله فنتقرب منه سبحانه، فتذكر أنه مهما ضاقت بك الحياة وتعثرت بك السبل فإن سعادتك ليس فيما تملك وإنما بمقدار قربك من ربك سبحانه.
انظر بعيون النحلة لا بعيون الذبابة
إن من الناس من ينظر إلى الواقع وإلى المستقبل نظرة سوداوية متشائمة، حتى لكأنه لا ينظر إلى الدنيا إلّا من خلال نظارة سوداء قاتمة، بعكس صاحب النظرة المتفائلة المستبشرة الذي يرى الواقع زاهيًا مشرقًا. وبنفس ميزان النظر إلى الواقع والمستقبل فإنه النظر وميزان الناس بعيون بعضنا البعض.
وكم هي معبرة تلك العبارة التي قال الدكتور حسان شمسي باشا: “عوّد نفسك أن تنظر إلى الناس بعيون النحلة التي ترى كل شيء طيبًا فيمن حولها، ولا تنظر إلى الآخرين بعيون الذبابة التي لا ترى إلّا الأوساخ وأنتن الأشياء”. نعم إنها النحلة لا تقع إلا على طيب ولا يخرج منها إلّا طيب وإذا وقعت على شيء لم تخدشه ولم تكسره، وإنها الذبابة لا تقع إلّا على القاذورات.
إن النظر إلى الناس بعيون النحلة يجعلك تنظر إلى الايجابيات في غيرك وليس إلى السلبيات وإن كانت موجودة، بينما النظر والتعامل مع الناس وفق منطق عيون الذبابة فإنه يجعلك تنظر إلى السلبيات في غيرك لتكون هذه محطة فاصلة بينك وبين هؤلاء.
إنها قصة السيد المسيح عليه السلام يوم مرّ وتلاميذه على جيفة كلب فقال أحدهم: ما أشد سواد شعره. وقال الآخر: ما أنتن رائحته. وقال عيسى عليه السلام: ولكن انظروا كم هي بيضاء أسنانه.
إن النظر والتعامل وفق منطق عيون النحلة يجعلك إيجابيًا وواقعيًا كما قيل: كن جميلًا ترى الوجود جميلًا”. وما أعظم الحاجة لميزان ومنطق عيون النحلة عند الخصومة حيث يبقي هذا المنطق في خصومك مساحات خضراء ونقاطًا إيجابية يمكن إعادة البناء عليها لترميم العلاقة، بينما النظر وفق منطق عيون الذبابة فإنك تصبح لا ترى في خصمك إلّا المساحات السوداء والصفات السلبية الموجودة فيك أنت أيضًا. وكما قيل لا تنظر إلى القشة في عين أخيك ولكن انظر إلى الخشبة في عينك أنت.
مرّ رجل على رجل فقير تظهر عليه علامات البؤس فوقف عنده وأعطاه مالًا تصدّق به. مضى الرجل في طريقه ثم ما لبث أن نظر إلى الخلف فإذا بالرجل الفقير يسير خلفه من بعيد، فراح يقول في نفسه ما بال هؤلاء لا يشبعون كلما أعطيتهم طلبوا منك أكثر، وأسرع الخطى مبتعدًا. وما لبث الرجل أن سمع صوت الفقير يناديه فأسرع الخطى، فرفع الفقير صوته أكثر فتوقف الغني ليقول له، مالك يا هذا؟ فقال: يا سيدي لما تصدّقت عليّ ومشيت خطوات فإن محفظة نقودك سقطت من جيبك ولحقت بك لأردها إليك ثم ناوله إياها!!!
فما أجمل حسن الظن في تعاملنا مع غيرنا والنظر إلى الآخرين بعين النحلة لا بعين الذبابة.
أنت والميزان
قال أحدهم: كنت بدينًا وأصبحت بدانتي تضايقني في منامي وعملي وجلوسي، فأصبحت أتردد على الطبيب المتخصص فأوصاني بممارسة حمية تساعدني في تخفيف الوزن، لكن سرعان ما كانت تغلبني شهوة البطن فأعود إلى الطعام والشراب، حتى إذا رجعت إلى الطبيب فكان وزني يزداد ويزداد وتزداد معها متاعبي ثم يعود الطبيب للتأكيد على أن الأمر منوط بتخفيف الوزن وإنقاصه والالتزام بالحمية، ولأن الأمر تكرر أكثر من مرة قال لي الطبيب لا ترجع إليّ إلا وقد انخفض وزنك!!!
يقول الرجل التزمت بالحمية شهرًا كاملًا وقد جاء موعد زيارتي للطبيب الذي قال لي لا ترجع إليّ إلا وقد أنقصت وزنك. فصعدت على الميزان وقلبي يخفق ونظرت إلى الشاشة خشية أن يكون وزني ما زال كما هو أو أنه زاد. انفرجت أساريري لمّا رأيت وزني قد نقص كيلو غرامًا واحدًا، وشعرت بسعادة الإنجاز.
يقول الرجل كانت هذه محطة فارقة في حياتي وكنت صاحب ذنوب ومعاصي فقلت في نفسي “ماذا لو كان هذا الميزان هو ميزان الأعمال يوم القيامة وأنا أنظر وأنتظر بقلق هل وزن حسناتي أكبر أم سيئاتي”. إنه الميزان الدقيق الذي يزن أقل من الغرامات {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ} آية 47 سورة الأنبياء. لكن يومها لن تنتظر ورقة معطيات تخرج من الميزان أو شاشة تظهر عليها النتيجة، وإنما هي كتب تتطاير {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ،وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} آية 27 سورة الحاقة.
إنك إذا كنت تعاني من زيادة الوزن وتتبع حمية ولكنك ترى أن وزنك قد زاد فعندها تتحسر وتقول: يا ليتني لم أتهاون في ضبط شهوة الطعام، ليتني توقفت عن أكل تلك الأنواع من الطعام ومن الحلوى، ثم تعزم على ألّا تتهاون في المحافظة على الحمية بل أن تزيد في الرياضة البدنية في الأيام القادمة.
وهكذا يكون الحال يوم القيامة يوم تكون أمام الميزان وتطاير الكتب ويثقل الميزان بصالح الأعمال، فعندها تقول {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وإلا فإنك عندما يطيش ميزانك فإنك ستصرخ وتقول {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} آية 25-26 سورة الحاقة. وتقول {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} آية 24 سورة الفجر. ليتني لم أستهن بالمعاصي، ليتني داومت على محو ذنوبي، ليتني راقبت لساني ويدي وعيني وكل جوارحي فجعلتها تكفّ عن محارم الله.
وكان عند الله وجيهًا
قال الشيخ الشعراوي رحمه الله: “لا تعبدوا الله ليعطيكم بل اعبدوه ليرضى عنكم، لأنه إن رضي سبحانه أدهشكم بعطائه”. إنه سر الأسرار لا يعلمه أحد غيرك وهو حقيقة علاقتك بربك سبحانه. فإياك أن تنسى حاجتك إليه سبحانه ووجوب أن تصلح ما بينك وبين الله. فلا يغرك المادحون لأنك أعلم بنفسك منهم، ولا يضرك القادحون لأنك أعلم بنفسك منهم. {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَه} آية 14-15 سورة القيامة.
كثيرون منا يغفلون عن الموقع الأفضل لهم فيبحثون عن موقعهم بين الخلق وينسون موقعهم عند الخالق، مع أن الذي يبحث عن رضى الخالق آتاه رضى الخلق رغم أنوفهم. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أسخط الله في رضى الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه، ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه”.
ها هو الشاعر أبو العتاهية في أيام مرضه يستغفر الله عن ذنوبه ويقرّ بحاجته لله تعالى واستغنائه عن الناس، ولا يطلب إلا أن يرضى عنه سبحانه:
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
وَما لي حيلَةٌ إِلا رَجائي وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي
فَكَم مِن زِلَّةٍ لي في البَرايا وَأَنتَ عَلَيَّ ذو فَضلٍ وَمَنِّ
يَظُنُّ الناسُ بي خَيراً وَإِنّي لَشَرُّ الناس إِن لَم تَعفُ عَنّي
لقد تحدث القرآن الكريم عن موسى عليه السلام بقوله تعالى عنه {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} آية 69 سورة الأحزاب. إنه لم يقل سبحانه وكان عند الناس وجيهًا، فالوجاهة الحقيقية هي عند الله ومن الله وليست عند الناس ولا منهم. فالمهم أن تسعى لتكون وجيهًا في عين الله وميزان الله وليس في عين الناس ولا ميزانهم. ولن تكون وجيهًا عند الله إلا بصلاح قلبك وصلاح أعمالك. وما أجمل تلك الحكمة قالها أحد الصالحين: “اياك أن تغتر بمدح الناس لك لأنهم في الحقيقة يمدحون نِعم الله فيك، ولو انكشف ستر الله لك لهربوا منك كما يهرب الإنسان من الجيفة”.
فاذا مدحوك لوسامة وجهك فهذا من الله وليس منك، وإذا مدحوك لكرمك وإنفاق مالك فإن المال رزق من الله آتاك إياه، وإذا مدحوك لعلمك فإنما هو فضل الله آتاك إياه {وما بكم من نعمه فمن الله}. إذن فإياك أن تغترّ بمدح الناس لك، وإنما اشكر الله الذي أنعم عليك وإلا فلولا ستر الله عليك لذنوبك وخطايا أعمالك لانكشف أمرك على الناس، ولهربوا منك، وكما قال الرجل الصالح: “لو كانت لذنوبنا رائحة لافتضح أمرنا، ولكنه ستر الله علينا”.
فيا من سترت فيما مضى، استرنا فيما بقي ولا تفضحنا يوم الحساب. اللهم إن لم نكن نحن أهل لأن نُستر فأنت أهل لأن تَستُر، لأنك أنت الله الستار.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق