رسالةٌ إلى الناخب التركيّ المحافظ
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
إلى الطيبين المحافظين الذين يريدون التصويت لمرشح الطاولة السداسية، أوجه رسالتي فأقول: هل سألتم أنفسكم – قبل أن تذهبوا إلى صناديق الاقتراع – ما هو الصوابُ الموافقُ لشرع الله؟ لا تقولوا: “إنّها سياسةٌ وليس للشريعة دَخْلٌ بالسياسة”؛ لأنّكم تعلمون قبل أيّ أحد بُطلانَ هذه الْمَقُولة، فإنّ هذه الدنيا لا يقع فيها شيءٌ إلا وللإسلام فيه حكم؛ ذلك لأنّ الإسلامَ دينٌ عامٌ وشامل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء) (النحل: 89)، وجميعُ أقوالِ الإنسانِ وأفعالِهِ ومواقِفِهِ مَحَلُّ ابتلاءٍ واختبار: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان: 2).
سؤالُ الحقوقِ المنشودة
إذا كنتم تطلبون العدالةَ وتَنشُدُون الحريةَ وتَتُوقُ قلوبُكم إلى شريعةِ الإسلام؛ فهل تَرَوْنَ “كليتشدار أوغلو” هو الشخص المناسب لتحقيق هذه الأحلام؟ وبِغَضِّ النَّظرِ عن شخصه ودينه ومذهبه، وبِغَضِّ النَّظرِ كذلك عن كذبه المتتابع بغزاره وافترائه الذي لا يتوقف، وبِغَضِّ النَّظرِ أخيرا عن ضعف إمكاناته وتهافت مؤهلات شخصيته، أقول: بِغَضِّ النَّظرِ عن ذلك كله، وبالنظر فقط إلى هويته السياسية، ومدرسته التي نشأَ وتَرَعْرَعَ فيها وشاخ على تعاليمها؛ هل تَرَوْنَهُ الشخصَ والمشروعَ الذي سيحقق للشعب التركيّ ما يصبو إليه من حرية وعدالة؟! وهل تَرَوْنَهُ أقربَ إلى الإسلام وشرائعه وشعائره من الطيب أردوغان؟! إنْ كنتم ترون ذلك حقًا فامضوا في طريقكم؛ لكن اعلموا أنّ الله يعلمُ السرَّ وأخفى، ولا تُغْنِى عنده المجادلات الكلامية التي لا تَدْعَمُ إلا الشهوات الخفِيَّة، ولو كانت تُغْنِي لأغْنَت عمّن قال الله فيهم: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 42)، وفي النهاية: هي شهادةٌ، فإمّا أن تكون شهادةَ حقٍ في كفة الحسنات وإما أن تكون شهادة زور في كفة السيئات؛ فليس هناك شيءٌ ولو قليل لا يُحصيه الكتاب: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (الكهف: 49).
سؤالُ الاستراتيجيات الطموحة
مِنْ حقّ البروفيسور “أحمد داود أوغلو” أنْ يؤسس حزبًا سياسيًّا يُعَبّر فيه عن مذهبه السياسيّ، الذي أعلن أنّه يختلف عن العدالة والتنمية، ويَتَسامَى عليه برؤيته الاستراتيجية، وإنّ للرجل كُتُبٌ غاية في الأهمية، أهمّها “العمقُ الاستراتيجي”، والحقّ يقال: إنّ هذه الكتب غاية في الرقيّ العلميّ والمنهجيّ، فلقد وضع في (العمق الاستراتيجي) رؤيةً تَعْبُر فوق الرؤية الْمُتَقَزِّمَةِ إلى آفاق التوسع الجيوسياسيّ والجيوثقافيّ والجيواستراتيجيّ، وتربط جغرافيا البلاد بعمقها التاريخيّ وبُعْدِها الثقافيّ؛ والسؤال هنا للبروفيسور “داود أوغلو” وكذلك للسيد الهمام “علي بابا جان” ولقواعدهما الشبابية:
هل أنتم اليوم – بانضمامِكم إلى الطاوله السداسية ودعمِكم لزعيم حزب الشعب الجمهوري “كليتشدار أوغلو” – تَقْتَرِبون من الحلم الكبير والرؤية الراقية في كتاب العمق الاستراتيجيّ؟ وهل “كليتشدار” الذي يتبَنّى الرؤى التقليدية القديمة العقيمة، ولا يرى “الاستقلال” إلا انقباض تركيا على ذاتها، وتقوقعها داخل جغرافيتها، ولا يعطي قيمةً لاستقلال الإرادة السياسية ولا للخلاص من التبعية؛ هل هذا الشخص هو الأنسبُ لتحقيق رؤية داود أوغلو في العمق الاستراتيجيّ؟!
ها هو البروفيسور “الأربكانيّ”، يقول في (العمق الاستراتيجي): “ولذلك فإنّ النُخْبَةَ السياسية التي لا تَثِقُ بشعبها ولا تستمد قوتَها منه، ولا تتكامل مع ثقافة المجتمع الذي خرجت منه؛ لا يمكن لها الانفتاح على الآفاق العالمية في ما وراء حدودها، ولا يمكنها تحقيق أمن شعبها ووحدته”؛ فهل يَرَى وتَرَوْن معه أنّ “كليتشدار” يَثِقُ بثقافة هذا المجتمع ويتكامل معها؟ وهل تَرَوْنَهُ سينطلق من هذا العمق الثقافيّ لبناء سياسة خارجية تمضي على ثقة؟ وسيحفظ لبلده سلامًا داخليًّا ووحدة اجتماعيّة؟
وها هو المعلم “داود أوغلو” يَضَعُ في الكتاب ذاته هذه المعادلة الصعبة “معادلة قوة الدولة” على هذا النحو: قوة الدولة = المعطيات الثابتة (جغرافيا + تاريخ + عدد سكان + ثقافة) + المعطيات المتغيرة (اقتصاد + تكنولوجيا + قوة عسكرية) كل هذا مضروبًا في (ذهنية استراتيجية + خطة استراتيجية + إرادة سياسية)؛ فهل ترون أنّ الذهنية الاستراتيجية والإرادة السياسية المستقلة واستصحاب العمق الثقافي والانطلاق من العمق التاريخيّ؛ هل ترون هذه المقومات كلّها يَسْعَد بها ويَبِيت في أحضانها كليتشدار وحزبُه بينما لا يدنو من تُخومها أردوغان وجماعتُه؟! إنْ كنتم ترون ذلك حقًّا فانطلقوا إلى غايتكم غير عابئين بنا، ولا بجميع من يرون أنكم تشاركون بقوة في تسليم البلاد لأُولَى مراحل التقسيم.
سؤال الأخلاق والضمير
هناك قواعد أخلاقية كبرى تضبط السلوك والأداء في كل نشاط بشري، بما في ذلك العمل السياسيّ، وأبدأ ببيان القاعدة الأولى (قاعدة المسئولية) فإنّ الإسلام يتميز عن النظم الغربية بِجَعْلِهِ التصويتَ والاختيارَ وظيفةً سياسيةً ومسئولية أخلاقية، وليس مجرد حق يمارسه المواطن، لذلك أجمع الفقهاء على أنّ الإمامة من فروض الكفايات، أي أنّه يجب على المسلمين أن يقوموا باختيار من يحكمهم، أمّا القاعدة الثانية فهي (قاعدة الأمانة) وتقتضي تقديم مصلحة الأمّة عند الاختيار: فلا يجوز لمسلم أن يختار رئيساً لمجرد انتمائه لحزبه أو لِحِلْفِهِ، إلا إذا كان يراه الأجدر والأصلح، وإلا كان شاهدًا شهادة زُورٍ يَضُرُّ بها الخلْقَ ويعصِي بها الخالق، فليس الاختيار مجرد إبداء رغبة، وإنما هو شهادةٌ باستحقاق الشخص المختار للوظيفة المرشح لها، فهي أمانةٌ والتفريطُ فيها تضييعٌ للأمانة، فإذا عَلِمَ المسلم أن المرشح لولاية عامة سيكون سببًا في عودة الظلم، وذريعةً لاستطالة المجرمين على أهل الدين؛ لم يجز له الإقدام على انتخابه؛ لأنّ هذا مصادمٌ لمقاصد الحكم، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (إذا ضُيِّعَت الأمانةُ فانتظر الساعة) ثم ضرب مثالا لتضييع الأمانة فقال: (إذا وُسِّدَ الأمر لغير أهله فانتظر الساعة).
وأمّا القاعدة الثالثة فهي (قاعدة العدل) وأَعْنِي هنا العدلَ في وَزْنِ الرجال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: 152) فإنَّ الرجل يُوزَنُ بجملة أقواله وأفعاله، ومُجْمَل تاريخه وإنجازاته، فلا يصح أن نَحْصُرَ النظر في بعض مواقف أردوغان التي نخالفها فيها؛ ثم ننْسِف له جميع فضائله، أو نُسَوّي بينه وبين من لا يَرْقى إلى عُشْر منزلته، وعَمَلُ السياسيّ هو تغليبُ الخير على الشر بقدر الإمكان؛ وكما يقول الإمام الموصلي: “مَدارُ الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} المفسر لقوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) وعلى قوله صلى الله عليه وسلم: (اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)”.
أمّا القاعدة الرابعة فهي (قاعدة الميزان) أي إِعْمال القواعد الفقهية الكلية عند الالتباس؛ وقد استخرج العلماء – بطريق الاستقراء التام – قواعد كلية تهدي المسلم عندما تَلْتَبِسُ عليه السُّبُل، من هذه القواعد قاعدة: “إذا تعارضت مفسدتان رُوعِيَ أعظمهما ضررًا بارتكاب أَخَفِّهما” وقاعدة: “اختيارُ أهْوَن الشرَّين وارتكاب أَخَفِّ الضررين”، ومُجْمَلُ ما تهدي إليه هذه القواعد: أن ينظر المسلم إلى ما يؤول إليه اختياره، وإلى ما تؤول إليه الأوضاع إذا وقع وتحقق هذا الخيار، فإن غَلَبَ على ظنِّه أنَّ هذا سيؤول إلى عودةِ ظلمٍ كان قد زال وانقضى، وإثارة فتن نعْرفُ المستفيد منها؛ فعندئذ لا يجوز له أن تَحْمِلَهُ عصبيةٌ أو يَسْتَفِزَّهُ غضبٌ أو يُثيره شيء في نفسه إلى ذلك الاختيار: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).
أمّا القاعدة الخامسة فهي (قاعدة الرشد) ويتجلى أثر الرشد في الاستعصاء على تأثير الإعلام الخبيث، والدعاية الكاذبة المغرضة؛ فإنّ كثيرا من الناس تَسْتَفِزُّهم الحملات الإعلامية لارتكاب جريمة التصويت العقابيّ، وهي جريمة انتخابية لا يدرك الناس حقيقتها إلا بعد أن يُسْلِمُهم التصويت العقابيّ المتشنج – الذي يسميه “ألان تورين” تصويت الرفض – إلى الكارثة، وقد وقع هذا في بعض دول الغرب، فقد أسلمها التصويت العقابيّ المتشنج إلى قبضة اليمين المتطرف الذي صار يهدد الحريات وحقوق الإنسان وجميع المكتسبات التي تحققت للغرب، وإنّ الكذب الذي تمارسه السوشيال ميديا اليوم يصيب الناس باضطراب الرؤية، لذلك حَذَّرَ منه كثير من مفكري الغرب، مثل “موريس دوفرجيه” الذي يقول إنّه يؤدي إلى “تَبْلِيْهِ الجمهور” أي إصابتهم بالبلاهة؛ فلا يخدعنك المنافقون.
سؤال الأخلاق السياسية
قد يصيبك الذهول عندما تعلم أنّ المساحات المشتركة بين العدالة والتنمية من جهة وبين كل مُكَوّن من مُكَوّنات الطاولة السداسية من جهة أخرى أوسعُ بكثير من المساحة المشتركة بين أحزاب تلك الطاولة البائسة، إنّك لا تكاد تجد بينها ما يمكن أن تتفق عليه إلا مجرد إسقاط أردوغان، وهل هذه بِحَدِّ ذاتها غايةٌ سياسية نبيلة أو رشيدة؟! وماذا بعد تحقق هذه الغاية؟ هل سينجح الحلف في الاستمرار وهو يجمع هذه التناقضات؟! وماذا لو وقع الخُلْفُ بينهم، وهو أقرب إليهم جميعا من أرجل الطاولة التي يجلسون عليها؟! أيمكن أن تمضي سفينة المجتمع في وسط هذا الخضم الهائج من التدافعات الدولية ورُبّانُها شركاء متشاكسون بأجندات متناقضة؟! إنّه أنموذج في السياسة لما يمكن تسميته: (حلف الضرار).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق