مهما كانت فجاجة المبالغات في التماهي مع عملية الانتخابات التركية، إلى الحدّ الذي بدا فيها بعضُهم تركيًا أكثر من الأتراك أنفسهم، وأردوغانيًا أشرس من أعضاء حزبه، فإنّ كلّ ذلك التعلّق بالمسألة التركية يمثل عناصر إدانة لأنظمة عربية، دفعت مواطنيها إلى الارتحال، ومن ثم انتحال وطن آخر.
لم تقتصر مسألة التعلّق بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على "الأتراك العرب" ممن وجدوا في تركيا (الأردوغانية) ملاذاً من استبدادٍ يسحق العظام، ويدهس معنى الوجود الإنساني، ويضرم النار في المفهوم الصحيح للمواطنة، ويخترع تعريفًا فاسدًا للوطن والوطنية، بل امتدّت هذه الحالة من التوّحد مع الشأن التركي إلى قطاعاتٍ ليست قليلة في دولٍ عديدة.
والوضع كذلك، بالغ بعضهم في اعتبار أردوغان مرشّح الأمة، وفوزه فوز للإسلام، فيما تطرّف آخرون في رمي كلّ من يخالف هذه الحالة العاطفية بأنّ لديه موقفًا سلبيًا من الإسلام السياسي، بل من الإسلام نفسه، لينتقل الأمر من إعجابٍ بتجربةٍ ديمقراطيةٍ تركية، أذهلت حتى المتربّصين بها، إلى امتحانٍ في مادة الدين.
لا أحد يستطيع أن يتجاهل، بمعايير براغماتية خالصة، أنّ إعادة انتخاب أردوغان وانتصاره على مرشّح دار برنامجه الانتخابي على محور واحد مُفرط في العنصرية، كانت ضرورية للغاية، ومهمّة بالنسبة لملايين من اللاجئين إلى تركيا، نزوحًا من مناطق عربية ضربها زلزال الاستبداد العنيف، ومن القسوة أن يطلب أحدٌ منهم أن يكون على الحياد مكتفيًا بالفرجة على تجلّيات التجربة الديمقراطية المبدعة. ومن الناحية الأخرى، تبدو مسألة الابتزاز باسم الدين ومصلحة الأمة التي تمارسها نخبٌ عربيةٌ تدور في فلك الرئاسة التركية شيئًا باعثًا على الدهشة الممزوجة بالرثاء أمام هذه القدرة، بل الجرأة، على كيل الاتهامات السهلة للمخالفين بالانسلاخ من قضايا الأمة.
نعم، بالمعيار الإنساني والسياسي، ليس بعيدًا عن الحقيقة أنّ انتصار أردوغان أفضل بالنسبة لملايين المستضعفين، غير أنّ ذلك لا ينبغي أن يكون وقودًا لحالة من الاستعلاء والغطرسة التي يبدو عليها أبواق الوطنية المستعارة، أو المهجنة، ممن لا يتسامحون مع كلّ من لا يرى مثلهم أنّ معركة الانتخابات التركية هي معركة الأمة، وليست شأنًا تركيًا داخليًا، مع الوضع في الاعتبار أنّ تأثيراته تمتد، كغيره من استحقاقات انتخابية في دول ذات أهمية استراتيجية، إلى خارجها.
على أن من الأهمية بمكان هنا التوّقف عند الأسباب التي أنتجت هذه الحالة داخل الشعوب العربية، والتي لا تقتصر على ذلك الجوع الشديد للديمقراطية لدى جماهير عريضة كانت على موعدٍ مع حياة ديمقراطية حقيقية، على غرار المجتمعات الحرّة، لولا أنّ أسرابًا من الأوغاد انقضّت عليها وعليهم، فاختطفتها منهم وطردتهم بعيدًا عنها.
ربما كان التصحر الإنساني الذي اجتاح دول طوق الاستبداد العربي هو الدافع الأكبر لحالة انتحال وطن آخر، على الرغم من أنه لا يخلو من قطاعاتٍ عنصريةٍ تطرح خطابًا ضد الإنسانية يجتذب جمهورًا غفيرًا (نحو 47%) من المصوّتين، ولك أن تتخيّل نازحًا عربيًا يرى في بلدٍ فيه هذه النسبة العنصرية المعادية للأجانب، مكانًا أفضل وأكثر أمانًا من وطنه الأصلي! هذا يعني بوضوح أنّ الأوطان المنكوبة بالطغاة هبطت إلى ما تحت مستوى المجتمعات الإنسانية، بحيث تبدو معها تركيا، حتى لو كان منافس أردوغان قد فاز، أكثر ملاءمةً للحياة من بلدانهم، وهنا البؤس الحقيقي في الموضوع.
ويمكن الزعم هنا إنّ خطاب خصوم أردوغان الذي ازداد عنصريةً ضد اللاجئين، ربما أسهم في شعور مجموعاتٍ من الشعب التركي، حتى من غير مناصري أردوغان، بالخوف من الذهاب إلى أزمةٍ اجتماعيةٍ تهدّد استقرار المجتمع كله، وهو ما انعكس في اتّساع فارق النسب بجولة الإعادة لمصلحة الرئيس التركي، والذي يصبح هنا مدينًا ببعض الفضل للنازحين السوريين، الذين كانوا ورقةً مهمةً في معركة الانتخابات.
وتبقى التهنئة واجبة للشعب التركي على تفوّقه في مضمار الممارسة الديمقراطية، وقبل ذلك على انحيازه للإنسانية ضد العنصرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق