ابتذال القضية وقضية الابتذال
ليست الصدمة في الصور التي تجمع بين ممثلٍ هو عنوان للابتذال في الفن ورئيس سلطةٍ هو عنوان للابتذال في السياسة، بل الصدمة الحقيقية في حديث ذلك الذي يسمّي نفسه زعيمًا لمشروع التحرّر الفلسطيني أمام الأمم المتحدة، حيث قال السيد محمود عباس مخاطبًا العالم "احمونا .. احمونا.. احمونا، لو كان عندك حيوان ما بتحميه؟".
لا أظن أنّ هناك فلسطينيًا واحدًا، في الأرض المحتلة أو بالخارج، فوّض محمود عبّاس لكي يتحدّث باسم الشعب الفلسطيني مستخدمًا هذه اللغة التي لا تليق إلا بمحترفي التسوّل والمدمنين للاستجداء المذل، وخصوصًا في هذه اللحظة التي أنهى معها الشعب الفلسطيني للتوّ معركة من أنبل معاركه ضدّ الاحتلال، وخرج منها مرفوع الرأس، بعد أن أجبر الاحتلال على طلب التهدئة.
ليس ثمّة معنىً لهذه اللغة التي استخدمها عبّاس في ذكرى النكبة، وكذلك لهذه اللقطات الخادشة للاحترام التي جمعته بالممثل المصري، محمد رمضان، مضرب المثل في الإسفاف الفنّي، سوى أننا بصدد عملية ابتذالٍ مدروسةٍ ومحسوبةٍ للقضية الفلسطينية، بحيث تُفرّغ من مضمونها الحقيقي بوصفها نضالًا وطنيًا من أجل تحرير الأرض والإنسان، إلى مسألة مطالب بتحسين الوضع المعيشي في كنف الاحتلال، الذي لا يترك عباس مناسبة، إلا ويؤكّد فيها التزامه بأمنه وأمانه، في الحاضر والمستقبل.
لا أحد يُنكر أهمية دور الفن في نضال الشعوب المكافحة من أجل التحرّر، لكن أيّ فن، وأيّ فنانين، يمكن أن يقدّموا إسهامًا في هذه المعركة؟ محمد رمضان تحديدًا يقدّم أردأ أنواع الفن، فضلًا عن كونه ورقةً تطبيعيةً تستخدم في القاهرة وأبو ظبي وقت اللزوم، ولا تزال صور عناقه مع ممثلين صهاينة ورقصه على إيقاعاتٍ إسرائيليةٍ في احتفال دبي عالقة بالأذهان، نموذجًا لاستخدام الفن في مهام تطبيعية.
حسب المنشور عمّا دار في لقاء عباس ورمضان، فإنّ الطرفين اتفقا على إقامة حفل للممثل المصري في رام الله، مقرّ سلطة عبّاس، سيتم لاحقاً الإعلان عن التفاصيل الخاصة به، لنكون بصدد اختراق تطبيعيٍّ آخر من بوابة الفن، إذ لا وصول إلى رام الله إلا عن طريق الاحتلال وبإذنه وموافقته، غير أنّ السؤال الأهم هنا: هل حصل الشعب الفلسطيني في رام الله،على حقوقه كلها، ولم يعد ينقصُه سوى حفلات محمد رمضان؟ وهل الشعب الذي خاطب عبّاس العالم بشأنه، مطالبًا بحمايته "احمونا.. لو كان عندك حيوان ما بتحميه؟"، لديه من الرفاهية ما يجعله سعيدًا، وبأنّ الرجل الذي يترأسه وقّع اتفاقًا مع ممثل بهذه المواصفات؟
أغلب الظن أنه لا رام الله ولا غيرها من مدن فلسطين المحتلة يمكن أن تكون راضيةً بالإنجازات الفنية الهائلة لرئيسها، الافتراضي، الذي يسخر من مقاومتها ويحرّض عليها.
رام الله نفسها، حيث مقرّ عباس، هتفت في وجهه بشعاراتٍ تستخدمها الشعوب العربية ضدّ حكّامها المستبدّين، وخرجت في تظاهراتٍ ضده عقب اغتيال الشهيد، نزار بنات، في منزله، وسط زوجته وأطفاله، على يد قوات أمن السلطة، تقول له: "ارحل ..."، وتردّد كلمات أغنية الثورات العربية التي كتبها أحمد فؤاد نجم، وتغنّى بها الشيخ إمام عيسى، قبل نصف قرن: "اطلق كلابك في الشوارع واقفل زنازينك علينا".
لا يمكن تصوّر أنّ هذا الشعب يمكن أن يستجيب لرئيس سلطة التنسيق الأمني إذا دعاه لحضور حفل محمد رمضان، بل يمكن لمحمود عبّاس أن يملأ مسرحه الترفيهي بآلافٍ من الشباب الصهيوني الذي يعلن دائمًا أنه ملتزمٌ بأمنه وراحته، كما فعل حين سئل عقب خروجه من المستشفى الإسرائيلي في العام 2019.
وقتها قال عباس بالحرف الواحد: "أريد أن ألتقي مع جيل الشباب في إسرائيل، الجيل الذي نعمل هذه الأيام من أجل مستقبله، من أجل أن يعيش بأمن واستقرار في هذه المنطقة والعالم ... ثم في قضية اللاجئين الدعاية والبروباغندا تقول إن أبو مازن يريد أن يعيد إلى إسرائيل خمسة ملايين لاجئ ليدمر دولة إسرائيل ... لم يحصل هذا الكلام إطلاقًا كلّ الذي قلناه تعالوا نضع ملف اللاجئين على الطاولة ولكن لا نسعى ولن نعمل على أن نغرق إسرائيل بالملايين لنغيّر تركيبتها الاجتماعية هذا كلام هراء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق