قمة جدة.. قمة الغول والخلّان الأوفياء
جرت العادة في تسميات القمم العربية، أن تسمى بِدَالّتَين هما؛ الترتيب العددي لها في حلقاتها المتشابهة الكوميدية، أو بمكان عقدها. وتقوم أقلام الصحافة وصيحات الإعلام بواجبات التحسين والتجميل من جهة الموالين، أو خدمات التقبيح والتقديح من جهة المعارضين.
فقمة جدة الثانية والثلاثين في أحد أشهر التسميات هي قمة: عودة الأسد إلى الحضن العربي، أو قمة جدة السورية، أو قمة الأسد وزيلنسكي، أو قمة "عودة رجل شجاع"، باستعارة من عنوان رواية سورية كما ورد في صحيفة إيرانية ناطقة بالعربية. وفي تسميات إعلام النظام السوري هي قمة عودة العرب إلى الحضن السوري، ولقاء الأحبّة، وهي قمة الحضن والأحضان، و"سوريا قلب يلم ويضم"، أو عائلة تسع نجوم، وهي قمة الفيلم الهندي الميلودرامي "التوائم العشرون".. قطر هي الوحيدة التي غضبت، ففي كل قطيع أَسْود لا بد من خروف أبيض.
الأسد حليف موسكو وطهران، وزيلنسكي عدو موسكو وطهران، ضدان وعدوّان، لكن للعرب خصيصة الجمع بين الضرائر في عصمة واحدة، فسبحان من جمع الشتيتين على أعتاب الديار المقدسة. وكان الأسد نجم القمة، وطفلها المعجزة، وضيف الشرف فيها، وأول الأسماء حسب الظهور، وبطلها العائد من بحر الضياع بعد رحلة أوديسية. وظهرت شجاعته عند نزعه سماعات الترجمة من أذنه إبان إلقاء زيلنسكي كلمته، حرصا على رضى حليفه الروسي.
وقد زعم الزعماء العرب أنهم محايدون في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، لكنهم تلبية لأوامر أمريكا؛ دعوا زيلنسكي إلى الجامعة العربية التي أنشأها الإنجليز سدّا لفراغ الجامعة الإسلامية، فالفراغ السياسي إن لم يُملأ بالحصى امتلأ بالهواء. وتسمية جامعة الحكام العرب، أو جامعة الأنظمة العربية أَولى من جامعة الدول العربية وأكرم وأعدل.
وقد أطرب قادة الجامعة في بيانهم الختامي شعوبهم وأشفوا صدروهم وأبردوا غليلهم، ليس بتحطيم الجدر والحدود بين البلاد العربية، وهي حدود مصطنعة على ما قرأنا في الأدبيات السياسية، ولا بتوحيد العملة، أو بإنهاء الحرب في السودان، أو إنقاذ لبنان من الهاوية، أو وبوقف حفر النفق تحت المسجد الأقصى، فتلك أحلام خيالية مثل الغول والعنقاء والخِل الوفي، عندما نصّوا في البيان الختامي على مركزية القضية الفلسطينية. وكان رئيس الحكومة الفلسطينية "الْحَمِيت الدّسِم الْأَحْمَس" في الأمم المتحدة، قد دعا باكيا إلى حماية الشعب الفلسطيني، "مش بشر، حتى الحيوانات يحمونها".. يا ناس، دعوه يؤدي نمرة سيرك الجامعة العربية.
وكنا نسمع بوصف القضية المركزية لفلسطين في مسرحيات السبعينيات الكوميدية، فنضحك، ولم تخلُ القمة من المضحكات المبكيات، مثل ظهور وزير لبناني يستعين على سماع الخطب العصماء بمناورة طحن العلكة تحت أضراسه القوية، فالعلكة طريقة أمريكية مخترعة لتصريف الغضب والضيق. ولم يكن العالك الوحيد، فقد كانت مستشارة الأسد الحسناء تطحن العلكة، لكن ليس لتصريف الغضب، وإنما للتشفي والنصر، فرقصة العلكة الأمريكية بين الفكين علامة على النصر والاستخفاف أيضا.
قد صحَّ وصف الجامعة العربية بنادي الزعماء العرب "الاسبتارية"، وهو نادٍ فخري يمشي فيه الزعماء العرب على السجد الحمراء، ويلتقطون الصور التذكارية، وينددون ببعض الأعمال الصهيونية، وترجمة التنديد هي: المباركة، وقد أذنت أمريكا على لسان رئيسها بايدن حسب ظننا واعتقادنا، ووصيفتها أوروبا، بعودة الأسد الميمونة على أن تحتفظ أمريكا ووصيفتها أوروبا بشرف معارضة الطاغية، الذي تلطخت يداه بدماء السوريين، فقتل مليونا وشرد عشرة ملايين سوري أو يزيد، أو معاوية.
والغرض الثاني من القمة بعد لمِّ الشمل، والبرهان على حفاظ الزعماء العرب على الخبز والملح، هو مباركة احتلال إيران لخمس عواصم عربية، وإباحة مذهبها، وليس في تاريخ فارس حروب سوى مع السنّة. فبايدن يريد تجميد الصراعات بين الأخوة الأعداء، والتبويئ لها، والتفرغ لمقارعة الصين.
لقد لخّص بشار الأسد، الابن العائد إلى العائلة العربية، الغاية من القمة، وهي محاربة التوسع العثماني وحلفائه من الإخوان المسلمين، وهما هدفان إيرانيان، وغربيان أيضا. العثمانيون والإخوان عدوان للأنظمة العربية كلها، ويجاهد إعلام الأنظمة العربية على المساواة، ليس بين مواطنيها، وإنما بين الإسلام وداعش، وبين داعش والإخوان المسلمين. وقد أظهر الزعماء العرب حلما لم يُظهروه سوى مع إسرائيل، فغفروا للأسد شتائمه كلها، ومخدراته، وطائفيته، وقتله لشعبه بالبراميل النارية، كما غفروا لإسرائيل افتراس قضية فلسطين المركزية واقتحام المسجد الأقصى يوميا تمهيدا لتقويضه.
يبالغ بعض المتفائلين في تبخيس مكاسب الأسد المنتصر، والقمة ردٌ من عواصم الثورة المضادة تقودها أمريكا على عدم فوز صاحبهم العلماني كمال "كالجدار" أوغلو في الجولة الأولى من الانتخابات التي وصفت بانتخابات القرن، فقد اعتمدت القمة الخطة باء ردا على احتمال فوز أردوغان بعد أسبوع، وهي محاصرته من سوريا، وإكمال قوس الحصار الشيعي لتركيا السنية، والقوس يضم إيران والعراق ولبنان وسوريا، بل بلغ نفوذ إيران حتى غزة، فهي تحت احتلالين؛ إسرائيلي فعلي، وإيراني رمزي، يغلق قوس الحصار في اليمن بالحوثيين.
القمة هي قمة تبييت الأسد لحمايته، ومحاصرة أردوغان.
لقد رأينا في هذه القمة مستحيلين من المستحيلات العربية الثلاث، وهما: الغول العائد إلى الحضن وقد أمضّه الشوق وأضناه الهوى، والخِلُّ الوفي، وعسى أن نرى عنقاء الأمة تنبعث من الرماد.
twitter.com/OmarImaromar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق