الديمقراطية التركية حين تحمي نفسها ووطنها
هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية الممتد لمئة عام التي تجري فيها جولة إعادة للانتخابات الرئاسية، وربما هي المرة الأولى عالميا التي تعاد فيها الانتخابات بسبب “نصف نقطة مئوية” كان يحتاج إليها للفوز من الجولة الأولى الرئيس أردوغان الذي حكم لما يزيد على عشرين عاما حقق خلالها الكثير من الإنجازات والطفرات، ووصل ببلده اقتصاديا إلى المركز السادس عشر عالميا.
هذا الفارق الضئيل (0.5%) حدث في ظل أكبر نسبة مشاركة على مستوى تركيا وعلى مستوى العالم (89%)، وهي تتجاوز أعلى نسب المشاركة في الدول العريقة ديمقراطيا مثل ألمانيا (76%) والولايات المتحدة (66.8%) وكل من فرنسا وإيطاليا (63%) وكندا (44.5%)، وهذا يعني رسوخ الممارسة الديمقراطية في تركيا، وتمسّك الشعب بالخيار الديمقراطي.
معارك الديمقراطية الممتدة
ما حدث في الانتخابات التركية التي جرت الأحد 14 مايو/أيار، وأسفرت عن فوز حزب العدالة والتنمية بأغلبية مريحة في البرلمان، لكنها فرضت على المرشحين الرئيسيين -الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان وزعيم المعارضة كمال كليجدار أوغلو- جولة إعادة بعد أسبوعين، هو أحدث تجليات الديمقراطية التركية التي مرت بمنعطفات واختبارات قاسية خلال العقود الماضية، وواجهت 4 انقلابات عسكرية كان أولها في العام 1960 ثم 1971 و1980 و1997، وكان آخرها المحاولة الفاشلة صيف 2016. كان كل انقلاب يُمثل انتكاسة ديمقراطية، لكنه لا يصمد كثيرا أمام إصرار الشعب على نيل حقه في الحرية والديمقراطية، حتى كانت المحاولة الفاشلة في 2016 التي فتحت الباب للإجهاز على ما تبقى من مظاهر الحكم العسكري الذي حكم تركيا سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لعدة عقود، كما فتح الباب لتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، يصبح فيه الرئيس هو مركز السلطة.
وكما نجحت الديمقراطية التركية في مواجهة المحاولة الانقلابية صيف 2016 حين تصدى الشعب والأحزاب والمجتمع المدني لتلك المحاولة ووأدها في مهدها، فإن هذه الديمقراطية نجحت مجددا في الانتخابات الأخيرة في حماية نفسها، وتجنيب وطنها فتنة كانت تطل برأسها، ولم يكن أحد يعرف مسارات تحركها حال وقوعها، والمقصود هنا هو التوقعات الكبرى بحدوث احتجاجات صاخبة قد تصل إلى مستوى التمرد والعصيان، وربما ما هو أكثر من ذلك لو أسفرت الانتخابات عن فوز الرئيس أردوغان من الجولة الأولى مع فوز حزبه وحلفائه أيضا بالأغلبية البرلمانية، كان ذلك سيُحدث صدمة كبرى لقوى المعارضة التي بالغت في تقدير قوتها، وعاشت وهم الانتصار الساحق لمرشحها الرئاسي التوافقي، ولقوائمها البرلمانية مبكرا، وأوهمت الكثيرين بروايتها وقناعاتها، وسارت معها على هذه الموجة أو ربما خططت لها قوى دولية، ووسائل إعلام عالمية كبرى دعت بشكل سافر إلى انتخاب مرشح المعارضة وعدم التصويت للرئيس أردوغان الذي وصفته بالديكتاتور والمستبد، وقالت إن الانتخابات “ستكون فرصة للتخلص منه، وستفتح باب الأمل لكل من يعانون الاستبداد في العالم” إلخ.
تجنب فتنة متوقعة
نتيجة الانتخابات التي حرمت كلا المتنافسين من الحصول على نسبة الخمسين في المئة المؤهلة للفوز، ودفعتهما إلى جولة إعادة، جنبت تركيا تلك الفتنة التي كانت متوقعة على نطاق واسع حتى أن السلطات الرسمية قررت عطلة رسمية في اليوم التالي للانتخابات تحسّبا لذلك، كما أن هذه النتيجة التي مثلت نصف انتصار، أو حتى نصف هزيمة لكلا المرشحين الرئاسيين، شغلت المعارضة المحتقنة عن نتائج الانتخابات البرلمانية التي منحت حزب العدالة والتنمية وحلفاءه الأغلبية النيابية، وهو انتصار كبير للحزب لم يكن يتوقعه، ولم يكن غيره يتوقعه أيضا، ناهيك عن أن المعارضة كانت تُمنّي نفسها بأغلبية كاسحة وزعتها على أحزابها مسبقا، باعتبارها تحصيل حاصل، وكأن العملية الانتخابية أرادت تمرير النتائج خطوة خطوة ، فها هي نتائج الانتخابات البرلمانية مرّت بسلام، ولدينا أسبوعان تهدأ فيهما الأعصاب قليلا استعدادا لنتيجة أخرى لن تكون على هوى المعارضة وفقا لأغلب التوقعات، وحتى إذا جاءت لصالح المعارضة -وفقا لتوقعاتها- فإن التحالف الحاكم سيَعُد فوزه بالأغلبية البرلمانية كافيا لمناكفة الرئيس الجديد ودفعه إلى انتخابات مبكرة.
من تجليات هذه الديمقراطية التركية أيضا أنها دفعت حزب الشعب الحارس الأمين على مبادئ العلمانية التركية إلى تعديل بعض قناعاته، والاعتذار عن سالف سياساته المعادية للدين مثل موقفه من المحجبات، كما أن هذه الديمقراطية وإن منحت مرشحا قوميا نسبة 5% من الأصوات، وجعلته الحصان الأسود لهذه المنافسة، إلا أنها حرمت رمز العنصرية التركية، عدو اللاجئين رئيس حزب الظفر أوميت أوزداغ من مقعده البرلماني، وبمناسبة الحديث عن اللاجئين فقد وفرت نتائج هذه الانتخابات قدرا من الطمأنينة لهم، إذ لم تتمكن المعارضة من حصد أغلبية برلمانية تمكنها من سن تشريعات معادية لهم، وهو ما اعترف به أوزداغ نفسه.
نقطة مضيئة في الظلام
كما أن هذه الانتخابات سمحت بتجديد تركيبة البرلمان حيث دخلته أحزاب جديدة، أو كانت تصطدم بالعتبة الانتخابية من قبل (7%) مثل العمال الشيوعي والمستقبل والتقدم والرفاه الجديد والسعادة والهدى، والمثير للانتباه هنا أن أغلبية هذه الأحزاب إسلامية أو محافظة، وقد فازت ضمن القائمتين الكبيرتين “تحالف الجمهور” الحاكم أو “تحالف الأمة” المعارض.
تُمثل الديمقراطية التركية المتنامية نقطة مضيئة وسط عتمة استبدادية في منطقة الشرق الأوسط تغذيها دوائر صنع القرار الغربية التي استخدمت العديد من أسلحتها للتأثير في الانتخابات التركية، بهدف التخلص من الرئيس أردوغان، بينما كانت تلك الدوائر عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 تسوّق التجربة التركية “الأردوغانية” ذاتها في المنطقة بديلا ديمقراطيا آمنا للتغيير، وهو ما يؤكد أن تلك الدول تتغنى بالديمقراطية فقط، ولا تحترمها إلا داخل حدودها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق