السبت، 27 مايو 2023

بين الدنيا والدين

بين الدنيا والدين

إحسان الفقيه

يقول الزعيم البوسنوي علي عزت بيجوفيتش: «نتحدث كثيرا عن الهزائم التي ألحقها بنا الآخرون، وحان الوقت لكي نبدأ بالحديث عن الهزائم والخسائر التي ألحقناها بأنفسنا».

وإن من أشد الهزائم التي ألحقناها بأنفسنا: الإخلال بالتصورات الإسلامية الصحيحة، وإحلال تصورات أخرى ليست من الدين في شيء.

من أبرز صور هذا الإخلال، الفصام النكد بين الدنيا والآخرة، وتوهم التعارض بينهما، ونتاجا لهذا التصور الدخيل على المنهج الإسلامي، صار هناك فريقان في الأمة، فريقٌ غارق في المادية والرضا بالدنيا واعتبارها الغاية، فاقدًا بذلك أهم مقومات وجوده، وأهمل الغاية التي من أجلها خلقه الله، وهي العبادة بمفهومها الواسع، وعاش في خواء روحي.

وفريقٌ آخر ترك العمل للدنيا وإصلاحها وإعمارها، بحجة إيثار الآخرة، وهذا الفريق أسهم من حيث لا يدري في إضعاف الأمة، ونأيها عن السباق الحضاري، حتى صارت ينسب إليها التخلف، بعد أن كان الغرب ينهل من علومها ويستضيء بازدهارها، باعتراف المنصفين من الغرب أمثال جوستاف لوبون.


والذي يعنيني في هذا المقام هو الفريق الأخير، الذي ترك العمل للدنيا بحجة أنه اختار الدار الآخرة، وإنما نشأ هذا التوجه جراء الفهم الخاطئ لنصوص الوحيين.

تشكلت هذه التصورات لديهم من خلال نظرتهم القاصرة للنصوص التي تذم الدنيا، كقوله تعالى {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، وفاتهم أن الله لم يذم الدنيا مجردة، والدليل على ذلك أن الله تعالى فطر الناس على حب الأموال والزروع والشهوة، كما في قوله عز وجل {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.


فمن المحال أن يفطر الله عباده على شيء قبيح، ونلاحظ في تتمة الآية {ذلك مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}، وهذا بيان شافٍ في أن زينة هذه الدنيا وإن كانت لا تُذم لذاتها، إلا أنها مقارنة بالآخرة لا شيء، لذلك نقول إن القرآن يذم الدنيا مقارنة بالآخرة، ويذمّ الاغترار بها والرضا بها وجعْلها غاية، ويذمّها تقديم تحصيل ملذاتها على حساب التزود للآخرة.


وقد أسهم في تشكيل هذه النظرة القاصرة لدى أصحابها، تأثّرهم بمسالك بعض الزهّاد في القرون التي أعقبت القرون المفضلة، الذين تركوا العمل للدنيا بحجة التفرغ للعبادة، كرد فعل لانصراف الناس إلى اللهو، فكان التطرف مقابل التطرف، فرأوا الافتقار فضيلة، والجوع منقبة، والانزواء في الزوايا تزكية، وأن الرجل لا يبلغ منزلة الصديقين حتى يأوي إلى مزابل الكلاب ويترك زوجته كالأرملة.


وهذه آفة الانصراف عن الاقتداء بالقرون التي زكاها النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فلو أنهم نظروا في سيرتهم لما وجدوا هذا الإعراض عن الدنيا، فكما قال الإمام الشاطبي عنهم، كانوا «بين عامل في سوقه، وعامل في أرضه، ومسافر يبتغي من فضل الله، وهم القدوة لمن سواهم، ولم يكونوا يتحاشون من ذلك، ولا يلحقهم فيه كسل. وكان الغنى من مقاصدهم، والتكسب من شأنهم».


ولم ينقل عنهم أن الافتقار وترك العمل من الزهد والتقوى، بل إن بعضهم كانوا تجارا أثرياء، كأبي بكر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص.

ولم يتخذوا التجهّم دينا، كانوا يمرحون ولم يتعارض ذلك مع صلاحهم، فلما سئل ابن عمر: هل كان الصحابة يمزحون؟ قال: «نعم، والإيمان في قلوبهم كالجبال».


الزهد لا يعني طلب الافتقار، وإلا اتهمنا النبي سليمان بأنه لم يكن زاهدا عندما سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وهذا محال، فالأنبياء سادة الزهد، لكنه الزهد بالمفهوم الصحيح، أن تكون الأموال في اليد، والإيمان في القلب، يسخرها في مرضاة الله، من نفقة على نفسه وأهله والمحتاجين، وإعمار هذه الأرض وإصلاحها.

هو طريق واحد، أوله في الدنيا ونهايته في الآخرة، فليسا طريقين متضادين، والله قد استخلف الإنسان على الأرض، ومن مهام هذا الاستخلاف إعمار الكون، والأخذ بأسباب القوة، وهو المنهج الذي اتبعه المسلمون فأصبحوا درة الأمم، ولم يداهمهم التخلف إلا في الحقب التاريخية التي ولّت الأمة ظهرها للتصور الإسلامي الصحيح، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق