الانتكاس: ما هي أسبابه وكيف ننجو منه؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما يفعل من كان يدلّ الناس على الله ويكون سبب لهدايتهم ويدعي ليل نهار أن يفتح الله على يديه، ثم ضلّ الطريق فلا عاد يعرف قلبه!
ما يفعل المرء إن كانت هذه الفترة ثقيلة على قلبه والناس ينتظرون منه ردًا وإسترشادًا لكن هو لا يقدر لثقل قلبه وحزنه على حاله!
كيف ينجو المرء من الانتكاس؟
كيف يثبت المرء في طريق طلب العلم؟ وكيف يواجه الغوايات والعوائق التي تقف أمامه؟
كيف يغلق المرء على قلبه فلا يلتفت لفتنة ولا ينتظر حبًا من أحد – رغم حاجته الشديدة للاحتواء والدفء وإخراج جيل ينصر الأمة ويزيدها ثباتًا – كيف يتجنب ذلك رغم مجاهدته، وهل سؤال الله ذلك فيه سوء أدب مثلًا لأنه لم يعرف الله حق المعرفة أو لم يتمكنّ حب الله في قلبه؟
ما يفعل المرء ليثبت حفظه تدبرًا وعملًا ليس فقط إقامة حروفه بل حتى حدوده، كيف يكون من أهل القرآن حقًا؟
لو أن الأسئلة كثيرة، أعتذر يكفي أن تدلونا على استرشاد لسؤال واحد كتب الله أجركم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبارك بكم.
هنا جمع من الأسئلة تتكرر، بين الشكوى من الانتكاس وبين الخشية من الوقوع فيه، والحديث يفرض نفسه مع واقع المسلمين اليوم، فالوسط غير مشجع والعقبات والعوائق والعلائق وقطاع الطريق أشكال وأنواع، والثبات قصة ملحمة..!
لماذا الانتكاس خطير؟
لأن الإنسان كان على جادة الطريق، عرف معنى الاستقامة، وبلغ مرتبة القدوة وحسب نفسه اجتاز الامتحان وأمن، ثم وجد نفسه في الحضيض، يتخبط ولا يعرف من أين يخرج من مستنقع ومتاهة، وتتلاشى في تلك اللحظات والمواقف كل العلوم والمفاهيم التي كان منبرا لها في زمن مضى ليس ببعيد.
ولأن الانتكاس أكثر ما يخشاه الصالحون فهو نقض للغزل وهو خسارة وفشل، ومن ذا يحب الفشل ويفرط في الفوز العظيم؟!
ولأن الانتكاس أضحى كثير الحدوث في زماننا، لانتشار عوامل الهدم والتثبيط والإرجاف، ولكثرة الفتن ثم ذلك النفاق والضلال والتفكك في عمق غربة الدين والفضل.
ولأن المنتكس يستحق المساعدة ولأنها حالة تصيب الكثيرين وتتباين شدتها بحسب قلب كل واحد منهم وبحسب وسطه وظروفه، ولأن الحديث عنها واجب .. لإبقاء اليقظة والوعي اللازم.
عَرَفتُ الشَرَّ لا لِلشَر ِ لَكِن لِتَوَقّيهِ
وَمَن لَم يَعرِفِ الشَرَّ مِنَ الخَيرِ يَقَع فيهِ
لماذا يحدث الانتكاس؟
يقول الله جل في علاه (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)
لقد جعل الله تعالى للحصانة من الانتكاس أسبابا أولها “اتباع هدى الله” جل جلاله. فمن تبع هداه سبحانه لا يضل ولا يشقى، ولا ينتكس ولا يضيع ولا يصيبه التيه.
ولم يستثن الله تعالى أحدا من هذه الوصية حتى نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى مذكرا بفضل تثبيت الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)، وقال سبحانه (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ).
وعلى هذه المعاني كان يثبت الأنبياء عليهم السلام، فهذا يوسف عليه السلام يمر بفتنة عظيمة، فيقول مستعينا بربه ومتبرئا من كل حول وقوة (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ).
وفي السنة نجد النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على كل ما يثبت قلوبنا ويحصنها قال صلى الله عليه وسلم:”ما من قلبٍ إلاَّ بين أصبعينِ من أصابعِ ربِّ العالمين، إن شاءَ أن يقيمهُ أقامه، وإن شاءَ أن يزيغهُ أزاغه”.
وعلمنا صلى الله عليه وسلم الدعاء بقول :”يا مثبتَ القلوبِ: ثبت قلوبنا على دينك”.
وهي قاعدة يعرفها كل منتكس، بلغ مرتبة الصلاح ثم تراجع ونقض غزله وكل من عرف الضعف ثم استرجع، إنها قاعدة: من زاغ أزاع الله قلبه، قال تعالى (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ).
كيف يزيغ القلب؟
يزيغ القلب حين يدخله كبر أو حسد، فتعمى بصيرته، قال تعالى : (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: “القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجِّسه من الكبر والحسد” مجموع الفتاوى (242/13).
ففي كل نفس من الكبر والحسد أثر أو كمّ، ولكن الفرق بين نفس ونفس، هو أن النفس السوية قهرت هذه الصفات القبيحة الهدامة، وقطعت أسباب تضخمها في القلب وغلبتها عليه، فحاربت المعاصي والمنكرات، أما إذا غفلت عن ذلك، فإن الذنوب تتراكم حتى تصل حال المنتكس كما جاء الوصف في كتاب الله تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم).
ويؤدي لهذه الحال من زيغ القلب معاندة الحق واتباع الهوى، وقد يقع فيها العالم، الذي قدم هواه على خشية الله تعالى، إرضاء لنفسه أو إرضاء لسلطان أو لمصلحة دنيوية بائسة، قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ).
ويؤدي لهذه الحال الاستهانة، سواء بالظلم أو بالذنب، فقد يكون الظلم أو الذنب صغيرا في عين صاحبه لكنه عند الله عظيم قال تعالى (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إيَّاكُم ومحقَّراتِ الذُّنوبِ فإنَّهنَّ يجتمِعنَ على الرَّجلِ حتَّى يُهلِكنَهُ كرجلٍ كانَ بأرضِ فلاةٍ فحضرَ صنيعُ القومِ فجعلَ الرَّجلُ يجيءُ بالعودِ والرَّجلُ يجيءُ بالعودِ حتَّى جمعوا من ذلِكَ سوادًا وأجَّجوا نارًا فأنضجوا ما فيها”. صحيح الجامع.
ومما يساعد في الاستهانة بها، كونها تقع في الخلوات ولا يطلع عليها عامة الناس فيأمن المذنب مكر الله تعالى، ولكنها من أسباب الضلال والخسران!
عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِى يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» (صحيح ابن ماجه).
وينسب لابن القيم رحمه الله قوله:” أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات “. ويقول رحمه الله في الجواب الكافي :”والمقصود أن العبد إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والإنابة إليه والجمعية عليه والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر الذكر، ولا ينحبس القلب واللسان على الذكر، بل إن ذكر أو دعا ذكر بقلب لاه ساه غافل، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه.
وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي كمن له جند يدفع عنه الأعداء، فأهمل جنده، وضيعهم، وأضعفهم، وقطع أخبارهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة.
هذا، وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمر، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند [ ص: 91 ] الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك، حتى قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فقال: آه آه، لا أستطيع أن أقولها”. (الجواب الكافي: 90/1)
ويحصل الانتكاس، لغش القلوب، وهو من أكثر أسباب الانتكاس، حيث يقبل المرء متحمسا ويقطع الأشواط دون تفقد لحال قلبه مع ربه، دون تربية لنفسه على الخشية والتقوى، فتراه يحمل لقبا علميا، ولكنه بلسان سليط متفحش في القول، أو تراه من الذين لا يخافون الله في قولهم ولا تصرفاتهم، فيعجب المرء كيف يكون هذا حاملا للعلم.
ومن أمثلة ذلك، سهولة التصدر لمنابر النصح والوعظ، وسهولة البروز في الشاشات ومواقع الذكر، ثم القلب هش، والبضاعة مزجاة، والغش قد بلغ منتهاه، والاستهانة يحار لها ذوو الألباب، فما أن تضرب أول رياح فتنة حتى تسقط أوراقه وتنكسر أغصانه وتقتلع جذوره بحسب شدة الفتنة وينتكس، فلا يفرق بين الخير والشر ولا بين الحق والباطل!
ومن أسباب الانتكاس، الصحبة الفاسدة المفسدة التي يستهين المرء بداية بتأثيرها لكنها تسحبه لما فيه ظلم أو فتنة، لما فيه شهوات أو شبهات، فيغرق لضعف فيه أو لفقدان ناصح أمين.
ومن أسباب الانتكاس الانشغال بسفاسف الأمور والجدالات وما تضيق له النفس عن إصلاح القلوب وعن تزكيتها وعن العمل الصالح، ويدخل في ذلك تحذير الله تعالى (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) فتجد العبد يظهر الصلاح ولكنه بعيد عن العمل لهذا الصلاح وبه. والقلب إن لم تشغله بالحق شغله الباطل.
ومن أسباب الانتكاس، خذلان الحق، وهذا مقام عظيم له وزره، فمن خذل مسلما في مقام حق، حتى لو كان الخذلان بكلمة أو بالقلب، فإن له عواقب ومنها الانتكاس.
ومن أسباب الانتكاس الاستهانة بصفات النفاق، من كذب وخيانة وغدر وفجور في الخصومة، أي خصلة من خصال النفاق التي حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم، إن استهان بها العبد، فإنها معول هدم. في صحيح البخاري : ” أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ”.
ومن أسباب الانتكاس جفاء القلب والانشغال عن الانكسار لله تعالى وتحقيق مقامات العبودية والاستعانة به جل جلاله، فيوكل الله العبد لنفسه فينتكس.
ومن أسباب الانتكاس، الانجرار خلف شهوات الدنيا وملذاتها، ولو كانت مباحا، فتصبح مقدمة على الزهد والورع ويختل الميزان فتختل الرؤى وتختل الأهداف وينتكس.
ومن أسباب الانتكاس، إعانة الظالم، والكيد للمؤمنين، ويدفع لذلك حب المال وحب الجاه وحب النفوذ والرياسة، وهذا استدراج مخيف ينتهي بالانتكاس.
ومن أسباب الانتكاس كتمان العلم، والبخل به، والبخل في الصدقات وحب الدنيا أكثر من حب الله تعالى . . ومقياس الحب العمل والصدق مع الله جل جلاله في مقامات الصدق.
ومن أسباب الانتكاس الاستهانة بالبدع والجهل، والإقبال على البدع بشغف وقوة ومناجزة وهي المهلكة، وشتان بين من تمسك بالسنة وبين من آثر الأهواء والمحدثات والضلالات.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:”من سار على طريق الرسول ﷺ ومنهاجه وإن اقتصد فإنه يسبق من سار على غير طريقه وإن اجتهد.
مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ
تَمْشِي رُوَيْدًا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ”. لطائف المعارف(ص/255)
ومن أسباب الانتكاس دنو الهمة وتجاوز الحد الأدنى لحظات الفتور، فلكل إنسان لحظات من الفتور، لا يجب أن ينحدر خلالها للتفريط في فرض أو لانتهاك حرمات الله تعالى والتلوث بالحرام، يقـول ابن القيم رحمه الله: ” فتخلل الفترات للسالكين أمرٌ لازم لا بد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه عن فرض ٍ، ولم تدخله في محرم ٍ، رُجي له أن يعود خيرًا مما كان، مع أن العبادة المحببة إلى الله سبحانه هي ما داوم العبـد عليها”، (مدارج السالكين 3/ 126).
وأكتفي بهذا القدر في عد أسباب الانتكاسات ليحذر المرء منها ويبقي المحاسبة حازمة، ويربي نفسه على عدم تجاوز الخط الأحمر، كي لا يصل إلى مرحلة يصعب عليه الخروج منها، لذلك كان السلف الصالح يترك بعض المباح ورعا وزهدا كجدار أمان، ومسافة أمان، يحفظ بها نفسه من ولوج حمى الحرام.
كيف يرجع المنتكس؟
عودة المنتكس لمرتبة الصلاح تتطلب بذلا للأسباب، فكما أن للانهيار عوامل، وللهدم عوامل، وللانتكاس عوامل، كذلك للتوبة أسبابا، ولعلو الهمة أسبابا، وللانبعاث أسبابا، وللتفوق والتفرد أسبابا، وكل بداية صادقة نهايتها صادقة بإذن الله تعالى .. وما دام في الإنسان نفس وقلب ينبض، فلا يزال هناك أمل ليستدرك نفسه ويتوب توبة نصوحا.
والبداية ألخصها في نقاط:
لابد من تصحيح المعرفة بالله تعالى والمعرفة بالنفس البشرية والمعرفة بالواقع، وهذا يتطلب رصيدا من العلم ونصابا منه يكفي لأن يكسب المرء منه الخشية والوجل والتقوى وكل عبادة قلبية عظيمة. ويصحح به الفهم الخاطئ ابتداء ويسد به ثغرات الجهل ويحصن نفسه بالعلم اللازم والفرض.
لابد من عربون صدق، يقدمه العبد لبداية مهيبة وإقبال قوي، ويكون ذلك بعمل صالح عظيم يقوم به، وبإقامة نفسه على الإيثار والتضحية وتفريج الكربات. فالحسنات بركات .. وهدم لرصيد السيئات.
كما يحتاج المنتكس الذي يرجو رحمة ربه، إلى مرحلة من التوبة والانكسار الشديد لله تعالى والوقوف عند بابه حتى يأذن له، وليبتعد تماما عن منابر التصدر والثناء والمدح فإنها مهلكة، وكم من منتكس كانت بدايته الانجرار خلف مدح وثناء خداع، فأصابه الغرور والعجب، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وكلما ابتلي بثناء أو مدح فليستذكر أشد ذنوبه غصاصة وليذكر حاجته لمغفرة ربه وعفوه ورحمته.
وعلى التواق للعودة لمنازل الصادقين الثابتين، أن يقرأ في كل العلوم النافعة والفوائد الملهمة والرقائق المبصرة، ليبصر نقاط ضعفه ومن أين أوتي، ويبدأ بكتاب الداء والدواء لابن القيم، وكل كتبه كنوز وذخائر.
ولابد للعازم على العودة، أن ينظر في وسطه فيقطع كل سبب يؤخره، من صحبة فاسدة أو مثبطة، من حب للشهوات ومن شبهات، من مظالم وما أدراك ما المظالم، ثم يتجه إلى ربه منيبا عجلا!
ولا يبتغي من عودته علوا في الأرض، بل رجاء رحمة ربه ونيل قبوله، وليبقى مجهولا، خير له من معرفة تجلب عليه الانتكاس، إلى أن يأذن الله والله يستعمل من يشاء.
ثم قيام الليل، وما أدراك ما قيام الليل، إنه علاج مهيب لكل مرض في القلب، وترياق وحصانة، لا يجب أن يخفى على تواق، فليكن قيام الليل خلقك ودأبك وصحبتك التي لا تستغني عنها، ولو ركعتين، تسجد فيهما وتخشع وتبث شكواك لخالقك وكل ضعف فيك وحزن، وهذا باب يتطلب سفرا من الشرح والنصح، وليس مقامه لكنه مفتاح من مفاتيح الفتوحات الربانية.
وكل ذكر وعبادة وعمل صالح من أسباب تنقية القلب، وتطهيره والدعاء شفاء آخر لا ينفك المقبل على ربه بحاجة إلى ربه!
وليكن أكثر ما يشغل العبد، تذوق المعاني، فما أوتينا إلا من بخس المعاني ومن ابتذالها، لقد أصبحت الكلمات تلقى على عظمتها فلا تحرك قلبا ولا تدمع لها عين! فاحفظ ذوقك واحفظ سلامة قلبك ليبقى حيا وليسشعر المعاني فلا يموت!
ولأجل تحقيق ذلك لابد من الرباط على القرآن وإخضاع النفس له، حتى تتطهر وتشفى، من كل جفاء وقسوة قلب وليكثر من ذكر الآخرة فهي الزاجرة.
ويساعد في ذلك أيضا قراءة قصص التائبين والنجاين في امتحانات الصدق والابتلاءات وهي عظيمة في السيرة والسير، لا تفوت صادقا.
وليكثر من ذكر هادم اللذات واستذكار لحظات الخاتمة، فذلك الموعد الذي يجب أن يشغل تفكير كل مسلم ومسلمة، والإعداد له أولوية لا تقبل المنافسة أو المساومة.
يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما بالحق في ذا الخلق ناظرتانِ
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه فهما إذاً نظران
واجعل لقلبك مقلتين كليهما من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضاَ مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن
ولا بد مع ذلك من الحفاظ على حد أدنى من العبادات لا ينزل عنها العبد أبدا، لأنها خط أحمر ولو ضاعت لأجلها مصالحه الدنيوية، يقول أبو محمود عبد الله بن محمد بن منازل النيسابوري ( شذرات الذهب1/ 330):
“لم يُضع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ولم يبتل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أن يبلى بالبدع، وقال حسان بن عطية رحمه الله تعالى: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة”. رواه اللالكائي 129 والدارمي98 بسند صحيح.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ” القلوب أربعة: قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء طيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم فأيهما غلب عليه غلبه”. (حديث رقم 734 – من كتاب السنة لعبد الله بن أحمد).
كما يجب أن يرافق كل ذلك حرص شديد على تجديد النية وتصحيحها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:”ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفـسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه” رواه الترمذي 2377 وأحمد 2/ 456.
ثم الاستزادة والتحصن بمعرفة بعلم الفتن واستعداد لها، وأول العلم الاقتداء بسير الصحابة رضي الله عنهم فيتعلم منهم المرء المحاسبة والخشية والممراقبة والوجل والتواضع لله تعالى.
يقول ابن تيمية رحمه الله: “وقبض الأمانة والإيمان ليس هو قبض العلم، فإن الإنسان قد يؤتى إيماناً مع نقص علمه، فمثل هذا الإيمان قد يرفع من صدره، كإيمان بني إسرائيل لما رأوا العجل، وأما من أوتي العلم مع الإيمان؛ فهذا لا يرفع من صدره، ومثل هذا لا يرتد عن الإسلام قط، بخلاف مجرد القرآن، أو مجرد الإيمان، فإن هذا قد يرتفع، فهذا هو الواقع، لكن أكثر ما نجد الردة فيمن عنده قرآن بلا علم وإيمان، أو من عنده إيمان بلا علم وقرآن، فأما من أوتي القرآن والإيمان؛ فحصل فيه العلم، فهذا لا يرفع من صدره، والله أعلم ثم قال: وقد قال الحسن البصري:” العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان”، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان حجة الله على عباده” الفتاوى 18/ 304-
فاللهم سلم، والحذر الحذر من كل أسباب الفتن والظلم. قال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: يا معاشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال منافق بالقرآن، قال: فسكتوا، فقال: أما العالم فإن اهتدى فلا تقـلدوه دينكم وإن فتن فلا تقطعوا منه آمالكم فإن المؤمن يفـتن ثم يتوب، وأما القرآن فمنار كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما شككتم فيه فكلوه إلى عالمه أو كلوا علمه إلى الله، وأما الدنيا فمن جعل الله الغنى في قلبه فقد أفلح ومن لا فليس بنافعة دنياه كذا رواه شعبة موقوفًا وهو الصحيح، وروى بعض هذه الألفاظ مرفوعا عن معاذ.
ومن أراد لنفسه النجاة فليصنها من الجدل والمراء والظلم والخذلان للحق والمؤمنين.
في صحيح الجامع قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” ما ضل قومٌ بعد هدى كانوا عليه، إلا أوتوا الجدل”، وفي الصحيحين عن أبي هريرة:” إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب”.
وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته”.
فليوطن المرء نفسه على عدم الانشغال بما لا يعنيه، ولا يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه. وما التزم المرء بالحق والعدل، إلا وظفر وأيده الله تعالى بنصره وبالمؤمنين.
قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: “لا طريق للشيطان عليك إلا من ثلاث جهات:
أحدها: التزيّد والإسراف.
الثانية: الغفلة فإن الذاكر في حصن الذكر.
الثالثة: تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء”.
كيف يثبت المرء في طريق طلب العلم؟ وكيف يواجه الغوايات والعوائق التي تقف أمامه؟
يكون ذلك بالخشبة من الانتكاس، فكل ما سبق فيه الحصانة بإذن الله من ذلك، ولتكن الغاية من العلم كما قال ابن القيم رحمه الله: “الرفعة لا تكون بمجرد العلم! بل باتباع الحق، والعمل به”. (إعلام الموقعين 1 / 167)
وأقول لا يجب أبدا أن نغفل العبادات القلبية والمراقبة والقراءة في الرقائق ومحاسبة النفس، فرأس مال طالب العلم قلبه، إن ضعف، نقض غزله بيديه.
كيف يغلق المرء على قلبه فلا يلتفت لفتنة ولا ينتظر حبًا من أحد رغم حاجته الشديدة للاحتواء والدفء وإخراج جيل ينصر الأمة ويزيدها ثباتًا – كيف يتجنب ذلك رغم مجاهدته، وهل سؤال الله ذلك فيه سوء أدب مثلًا لأنه لم يعرف الله حق المعرفة أو لم يتمكنّ حب الله في قلبه؟
هذا السؤال يفرض نفسه اليوم لأسباب كثيرة في مقدمتها، حالة الجفاء التي خيمت على الأسر، وتأخير الزواج الذي ابتلينا فيه لانهزامية للغرب، وتعسير الزواج وتحويله لمشروع بطولة!
وهنا لا أجد مثل صحبة القرآن علاجا لكل ذلك، والصلاة، قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) وليستذكر في هذا المقام وعد الله وبشراه (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
فبداية قضاء الحاجات من المحراب والسجود، وكذلك فعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولكل أجل كتاب، ولأجل أن يثبت المرء، فليبتعد عن كل شبهات أو ما يثير الشهوات، وليشغل نفسه بعمل صالح، وبممارسة هوايات تخفف عنه شعور الوحدة، وصحبة صالحة في الله تؤنسه، فإن وجدت فبها ونعمت وإلا فإن الله لا ينسى أحدا!
أما عن حب الله تعالى فهو فضل وليس ترفا! فالوصول إليه يتطلب بذلا وفداء، وهنا مقالة كنت بسطت فيها موضوع حب الله تعالى بتفصيل يكفي بإذن الله لتتضح الرؤية وتشتعل الهمة مسابقة وإقبالا: حب الله جلّ جلاله.
وحين نتحدث عن حب الله تعالى لا بد من الحديث عن الخشوع وهو الذي تناولته بتفصيل في المقالة الثانية بعنوان الخشوع .. روح لا بد منها … أنصح بالرجوع لهما.
ما يفعل المرء ليثبت حفظه تدبرًا وعملًا ليس فقط إقامة حروفه بل حتى حدوده، كيف يكون من أهل القرآن حقًا؟
بعبادة التدبر والتفكر، والاقتداء بالسابقين الأولين، والتقوى، فيجدك الله تعالى حيث أمر ولا يجدك حيث نهى وكنت جمعت الآيات التي فيها توصية للذين آمنوا، بين أمر ونهي في كتاب “يا أيها الذين آمنوا”، يرجى الرجوع إليه، والاستفادة من كل المؤلفات والتفاسير التي تتناول معاني القرآن بفهم السلف الصالح، والرباط على كتاب الله موجب للفتوحات. وليكن الهدف من كل قراءة وتدبر، الاستجابة لأمر الله تعالى والانتهاء عن نهيه سبحانه.
وهنا أنقل ردي على سؤال بشأن التدبر:
هل من خطّة منهجية لتدبّر القرآن ؟
سؤال عظيم، ويدل على علو الهمة، أحييك عليه، لذلك ابدئي بختمتين وليست واحدة، ختمة تلاوة وختمة تدبر، أما التلاوة فامشي فيها بوتيرة بحسب قدرتك واستطاعتك المهم أن تتقدمي وتتمي مرة واحدة على الأقل في الشهر، وكل زيادة خير!
أما التدبر، فلا مشكلة أبدا ولو بقيت فيها سنة كاملة، المهم تستمري فيها بنية التدبر، ابدئي القرآن من أول آية، وافتحي معها التفسير المحبب لك، ومن ذك أنصحك بداية بختمة تدبر بالتفسير الميسر، والتفاسير التي تقدم شروحات للمعاني، واقبلي بقلبك بنية أن يفتح الله عليك ويهديك، ثم بعد ذلك ختمة تدبر بالتفسير المحرر أو أي تفسير تجدينه يناسبك، تفسير الطبري، البغوي، ابن كثير، ولا تكثري في النصوص الطويلة إنما يهمك الأثر في قلبك ونفسك، كيف يجري الدمع في عينك وكيف ينشرح صدرك، فهذا المكسب العظيم من التدبر، كيف يصبح القرآن ملاذك ومسكنك، وملجأك في كل لحظة فرح وترح.
ربي نفسك على معايشة معاني القرآن والاستشهاد بآياته، فالتدبر ليس فقط أن تنظري في تفسير الآية، بل وفي وقعها في قلبك وحياتك أنت، ومن حولك، سيصبح القرآن أحب إلى قلبك كلما كنت وفية لصحبته، فهو يكرمك بقدر صدقك، وأنصحك أن تحاولي الحفظ، فإن الحفظ يرسخ المعاني أكثر، ويمكنك استحضارها غيبا، وهذا فضل وبركة، ولو استثقلت المشروع، فيكفيك حفظ البقرة وآل عمران ففضلهما مهيب، تأتيان كغمامتين تظلانك يوم القيامة،
القرآن قصة فتوحات لا تتعلق فقط بأخذ الأسباب التي ذكرنا، ولكنها قضية بيعة مع الله، فاصدقي في بيعتك مع مولاك، وأبشري بالظفر،
وفقك الله وجعلك من أهل القرآن وخاصته. ونفع بك ورضي عنك.
وفي الختام أنصح بشدة بعبادة التدبر والتفكر في كلام الله تعالى وفي خلق الله تعالى وآياته، فهذه العبادة العظيمة يجب أن ترافق المؤمن في كل حركاته وسكناته، ليديم الوصال مع ربه جل جلاله فيستمر قلبه نابضا حيا لا يغفل ولا يشقى، مهما تعرض لنوائب الدهر أو مشاغل الدنيا الدنية،
أسأل الله تعالى لنا ولكم الثبات إلى آخر رمق على التوحيد والسنة، وأن يغفر لنا ويجبر ضعفنا وكسرنا، ويعيننا على تحقيق قبول الله ورضوانه. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق