السبت، 20 مايو 2023

دار الخلافة تحت الحصار.. كيف واجه الخليفة المستضيء بالله الاستبداد العسكري مستعينا بقوة الأمة؟

 دار الخلافة تحت الحصار.. كيف واجه الخليفة المستضيء بالله الاستبداد العسكري مستعينا بقوة الأمة؟

عرفت الدولة العباسية بعد وفاة الخليفة "المتوكل على الله" في عام 247هـ مرحلة الضعف والاضطراب وهيمنة الأتراك والقادة العسكريين على الخلفاء، ونجد أسماء كثيرة لخلفاء تم اغتيالهم أو سمل أعينهم أو إلقاؤهم في السجون وتعيين غيرهم من قِبَل قادة الجيش من الأتراك. كما نجد تدخُّل نساء القصور العباسية في إدارة شؤون الدولة في هذه المرحلة مثلما وقع مع السيدة "شغب" زوجة الخليفة المعتضد في خلافة ولدها المقتدر بالله، وقد بلغت بها الجرأة والسطوة أن عزلت الوزراء والكُتّاب، وتدخلت في عمل القضاء، بل وعيَّنت لأول مرة جارية من جواريها للنظر في مظالم العباد.

وبسبب تردي حال الخلافة العباسية، وتحكُّم القادة العسكريين في الخلفاء والدولة، بدأت قبضة الدولة المركزية في التفكك، فظهر حُكام إقليميون مثل الطاهريين والسامانيين والغزنويين في المشرق، كما ظهر الطولونيون والإخشيديون والأغالبة والأدارسة والأمويون في مصر والمغرب والأندلس، في حين أصبح منصب الخلافة منحصرا في العراق سياسيا، وله السلطة الروحية في بقية أنحاء العالم الإسلامي. ومع انكفاء العباسيين على أنفسهم، احتلَّهم البويهيون الفُرس الديالمة القادمون من شمال إيران طوال قرن ونيف تقريبا ما بين منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن الخامس الهجري. وقد كان البويهيون شيعة، ينتصرون لمذهبهم، ويُحْكِمون قبضتهم على الدولة العباسية والعراق وبلاد فارس.

تحت سيطرة البويهيين، ازدادت حالة الخلفاء سوءا وتدهورا، ولم يجد العباسيون مع استمرار هذا الاستبداد البويهي سوى الاستعانة بقوة السلاجقة الأتراك الذين كانوا قد ظهروا في مناطق شرق العالم الإسلامي، وبدأوا يسيطرون على خراسان وإيران ووسط آسيا حتى بلغوا حدود العراق، وتمكَّنوا في نهاية المطاف من القضاء على البويهيين في حدود عام 447هـ. ولم يمُر نصف قرن إلا والعباسيون يواجهون السيطرة السلجوقية المطلقة على العراق مع سلاطين أقوياء مثل "ألب أرسلان" و"ملك شاه" و"بركياروق" و"مسعود بن ملك شاه" وغيرهم. وقد حاول عدد من الخلفاء العباسيين في هذه المرحلة أن ينتفضوا في وجه الهيمنة السلجوقية، ومنهم الخليفة المسترشد الذي قضى حتفه في هذه المحاولة، وابن الخليفة الراشد والخليفة المستنجد والمستضيء، حتى استعاد العباسيون قوتهم في المرحلة الأخيرة من عُمر دولتهم مع الخليفة الناصر لدين الله.

ورغم انفضاض السلاجقة عن العراق وتفرقهم في الأمصار بين إيران والأناضول خاصة؛ فإن بعض الخلفاء العباسيين لم ينعموا بالاستقلال التام، ولم يحصلوا عليه، إذ ابتُلوا بقادة عسكريين أتراك في قيادة الجيش العباسي في العراق ساروا على درب التسلُّط والتآمر، ومن هؤلاء الأمير "قطب الدين قايماز المظفري" الذي قاد الجيش العباسي في خلافة كلٍّ من المستنجد بالله بن المقتفي وابنه المستضيء بالله، وتآمر على الأول في أخريات خلافته وقتله بالسُّم في أصح الروايات. وقد عمل على القضاء على ابنه المستضيء لولا أنه أدرك أن الأمة المكوَّنة من علماء وعامة أقوى من سلطة الجيش والعسكر الذي سيطر عليه قايماز.

المستضيء.. أخلاق دمثة وسلطة منقوصة

توفي الخليفة "المستنجد بالله يوسف بن محمد المقتفي" مخلفا وراءه ولي عهده وابنه الأكبر "أبو علي الحسن بن يوسف المستنجد" الذي كان في الثلاثين من عُمره حينذاك، وهي سن مناسبة لتولي مقاليد الخلافة. وكان من اللافت أن هذا الخليفة العباسي هو الوحيد بين سابقيه ولاحقيه من العباسيين ممن ارتقى إلى هذا المنصب واسمه الحسن، ولعل ندرة التسمي بهذا الاسم داخل الأسرة العباسية لا سيما للخلفاء وأولياء عهودهم قد يرجع للمنافسة الشديدة بين العباسيين والعلويين منذ نشأت هذه الدولة. ولهذا يقول ابن الأثير: "لم يتولَّ الخلافة مَن اسمه الحسن إلا الحسن ابن علي بن أبي طالب، والمستضيء بأمر الله، واتفقا في الكُنية والكرم، فبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناس من الغد بيعة عامة، وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه، وفرق أموالا جليلة المقدار"[1]. ويؤكد المؤرخ ابن الجوزي المعاصر للمستضيء هذه الحقيقة بقوله: "وأظهر من العدل والكرم ما لم نره من أعمارنا"[2].

كان المستضيء عادلا حسن السيرة في الرعية، عاش حميدا ومات سعيدا كما ذكر المؤرخون، لولا السنوات الأربع الأولى من خلافته التي استولى فيها قائد الجيش قايماز على مقاليد الأمور. ورغم ذلك كان المستضيء ممن سعوا إلى الإصلاح، ورفع المظالم عن الناس، ومواجهة المجرمين والمفسدين، فقد حُكي عنه "أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس فأطال حبسه، فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته وبذل عنه عشرة آلاف دينار، فقال أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنسانا آخر مثله لأكف شره عن الناس، ولم يُطلقه، ورد كثيرا من الأموال على أصحابها أيضا"، بل بلغه أن قاضيا اسمه ابن المرخم كان عسوفا ومستحلا لأموال الناس، فقبض عليه "وأخذ منه مالا كثيرا، فأعاده على أصحابه أيضا، وكان ابن المرخم ظالما جائرا في أحكامه"[3].

ومع هذه الصفات الحميدة من محبة العدل والكرم، وانتصاف الرعية، فإنه كان ضعيفا محجورا عليه بين الوزير عضد الدين أبو الفرج وقائد الجيش قطب الدين قايماز، وهما اللذان أشار عدد من المؤرخين إلى ضلوعهما في مقتل أبيه المستنجد، ولأن المنقلبين والمستبدين لا يقبلون بالمشاركة واقتسام السلطة، فقد شرط قايماز على الخليفة عزل الوزير عضد الدين، رغم أن هذا الرجل كان من الناحية العملية متوافقا مع منصبه، ولأن القوة العسكرية كانت مع قايماز فلم يكن أمام المستضيء خيار آخر سوى الإذعان والصمت.

استبداد قائد الجيش قايماز

لكن في العام التالي من عزل الوزير، وهو عام 570هـ، أراد الخليفة المستضيء أن يُعيده إلى الوزارة ثانية لأنه رأى قصورا فيمن جاء بعده[4]، وبدلا من التفاهم مع الخليفة بصورة ودية، أمر قائد الجيش الأمير قطب الدين قايماز بحصار دار الخلافة في بغداد بقواته، وتمكن من إغلاق أهم أبوابها؛ وهما باب النوبي وباب العامة. ومن ثمَّ اضطر المستضيء إلى الإذعان وموافقة قطب الدين من جديد[5]، ولا شك أن هذه الحالة من الإكراه والضعف التي أصابت المستضيء وقتذاك تُشبه إلى حدٍّ كبير ما رأيناه في عصر أجداده ممن انبطحوا للبويهيين والسلاجقة من بعدهم.

وفي ظل هذا التراخي من الخليفة المستضيء وعجزه تجاه قايماز، كان من الطبيعي أن يزداد نفوذ هذا الأخير ويفعل ما بدا له. ولهذا نراه يتواطأ في شوال من عام 570هـ مع صهره الأمير "علاء الدين تتامش" الذي نهب وسرق وقتل بعض الناس في منطقة تُسمى الغراف جنوب بغداد. وقد اضطر هؤلاء المظلومون من العامة أن يلجأوا إلى الخليفة ويتظاهروا أمام قصره، ولما علم المستضيء بالواقعة قرع أسماع قطب الدين قايماز بما يكرهه، ثم طلب منه إنهاء هذه الفتنة، لكنَّ قايماز وتتامش اللذين تعاظمت قوتهما في الدولة العباسية لم يسمعا للخليفة، وأصرَّا على مناوئته، بل و"احتقروه"[6] على حد وصف ابن الأثير.

مع الوقت، زادت جرأة قايماز وتسلُّطه، وتدخل مجددا في شؤون الحكومة والبلاط حين أراد أن يؤذي "ظهير الدين بن العطار" رئيس المخزن (مدير بيت مال الخلافة) لأن الرجل فيما يبدو لم يُجِب أمرا لقايماز. وكان ابن العطار مخلصا للخليفة، فلما هرب ظهير الدين أرسل قايماز في طلبه، لكن ظهير الدين لجأ إلى دار الخلافة؛ ما دفع قطب الدين إلى تجميع مماليكه وقواته للهجوم على دار الخلافة وحصارها. ولما رأى المستضيء ذلك الحصار، وعلم أنه لا قدرة له على مدافعة قطب الدين وعساكره، وأنه في الوقت نفسه لن يضحي برجل مخلص وأمين مثل ابن العطار؛ اضطر إلى الوقوف في أعلى سطح دار الخلافة مُظهرا نفسه لعامة الناس في بغداد وصاح فيهم قائلا: "مالُ قطب الدين (قايماز) لكم ودمُهُ لي"[7].

الثورة الشعبية ونهاية الاستبداد العسكري

وهنا كانت إشارة البدء في إقحام طبقتَيْ المجتمع من العلماء والعامة في حسم الصراع والتصدي لتسلُّط الجند، فقد أخذ الجميع الشرعية من الخليفة بمهاجمة قايماز ومصالحه في بغداد. ولهذا نرى ابن الجوزي المعاصر لهذه الأحداث يقول: "ضُربت ناحية قايماز بقوارير النفط، فنقب حائطا من داره إلى درب بهروز وخرج من البلد ضاحي نهار ومعه تتامش ابن حماه وعدد يسير من الأمراء، ودخل العوام إلى دار قايماز ودور الأمراء الذين هربوا معه فنهبوها وأخذوا أموالا زائدة عن الحد، وأحرقوا من الدور مواضع كثيرة، وبقي الخارجون من البلد في الذل والجوع، وقصدوا حِلة ابن مزيد ثم خرجوا عنها فطلبوا الشام، وقد تفلل جمعهم وبقي معهم عدد يسير"[8].

وسرعان ما استغل المستضيء الموقف فاستعان بمشاهير الفقهاء والعلماء في بغداد، وأخذ يستفتيهم في أمر قائد الجيش قايماز معتمدا على شرعيتهم القانونية والروحية ليَحُول بهم دون عودة قايماز، فأحضر الفقهاء "للاستفتاء في حق قايماز وما يجب عليه من مخالفته أمير المؤمنين، فكتب الفقهاء كلهم أنه مارق"[9]. وهكذا أجمع الخليفة والفقهاء وعامة الناس في بغداد على مروق قايماز، وخروجه عن "الشرعية الدستورية"؛ فاستعاد بذلك المستضيء ما كان قد سلبه منه هذا القائد العسكري. ولما علم الخليفة أن قايماز لجأ إلى مدينة الحِلّة جنوب بغداد أرسل إليه شيخ شيوخ الصوفية في بغداد، "فلم يزل به يخدعه (ويخوِّفه) حتى سار عن الحلة إلى الموصل على البر، فلحقه ومَن معه عطش عظيم، فهلَك أكثرهم مِن شدة الحر والعطش، ومات قطب الدين قبل وصوله إلى الموصل"[10].

وقد عقَّب المؤرخ ابن الأثير على هذه الحادثة بقوله: "وهذا عاقبة عصيان الخليفة وكفران الإحسان والظلم وسوء التدبير، فإنه ظلمَ أهل العراق، وكفر إحسان الخليفة الذي كان قد غمره". والحق أن الخليفة المستضيء كان ذكيا في تخويف قطب الدين وتتبع أثره، فبقاؤه في مدينة الحلة التي تبعد عن بغداد مسافة 100 كيلومتر كان سيسمح له من جديد بالانقضاض على العاصمة، لا سيما أن الكثير من العامة كانوا متعاطفين معه لأن قوته كانت في صالح استتباب الأمن فيما يبدو.

وهذا ما أكده ابن الأثير حين قال: "ولو أقام بالحلة وجمع العساكر وعاود بغداد لاستولى على الأمور كلها كما كان، فإن عامة بغداد كانوا يريدونه، وكان قويا بالإحسان على البلاد فأطاعوه". ولما تأكد المستضيء من مقتله أمر صهره علاء الدين تتامش بالعودة من الموصل و"القدوم إلى بغداد، فعاد إليها وبقي بها إلى أن مات بغير إقطاع، وكان هذا آخر أمرهم"[11]. ولما قضى المستضيء على قايماز، وعاد صهره تتامش بلا حول ولا قوة محروما من الإقطاع العسكري والمال والمنصب، تمكن عندئذ من السيطرة على الخلافة والدولة التي دخلت منذ ذلك الحين في حالة من الأمن والسكينة حتى وفاة المستضيء في شهر ذي القعدة من عام 575هـ، "وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر، وكان عادلا حسن السيرة في الرعية كثير البذل للأموال غير مبالغ في أخذ ما جرت العادة بأخذه، وكان الناس معه في أمن عام وإحسان شامل وطمأنينة وسكون".

وهكذا رأينا مثالا من جملة الأمثلة الكثيرة التي تعرَّض لها الخلفاء العباسيون طوال عصرهم الثاني الذي بدأ مع سيطرة القادة العسكريين على مقاليد القوة والنفوذ، ولكن اللافت في تجربة الخليفة المستضيء أنه كان الخليفة الأول الذي تمكن بمساعدة جماهير الناس والعلماء من مواجهة القوة المسلحة بزعامة قائد الجيش قايماز، بل والقضاء عليه وإجباره على الهرب.

المصادر

  • [1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/29.
  • [2] ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 10/233.
  • [3] ابن الأثير: الكامل 10/29.
  • [4] المنتظم 18/212.
  • [5] ابن الأثير: الكامل 9/399.
  • [6] ابن الأثير: الكامل 9/412.
  • [7] ابن الأثير: الكامل 10/71.
  • [8] ابن الجوزي: المنتظم 10/254.
  • [9] ابن الجوزي: المنتظم 10/254.
  • [10] ابن الأثير: الكامل 9/413.
  • [11] ابن الأثير: الكامل 10/72.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق