ساري عرابي
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، وبعد دخول السلطة الفلسطينية غزّة وأريحا، وقبل أن تدخل رام الله، كنت في الصف التاسع أو أصغر؛ أذهب من قريتي للمدينة لشراء صحيفتين تصدران من غزّة عن فصيلين مقاومين وتصلان رام الله، في واحدة منهما زاوية، لعلها كانت ثابتة، لكاتب مصري قوميّ التوجّه، لديه تعاطف خاصّ مع أحد الفصيلين، ولديه شكّ دائم في استمرار إرادة المقاومة للثاني الذي هو حركة حماس. في واحدة من مقالاته تلك، عرض شكّه هذا محمولاً على صيغة تقترب من الجزم النافي لمقاومة هذه الحركة. ما يحضر في ذاكرتي مما قاله المعنى فحسب، وإذا لم يكن ثمّة قيمة خاصّة لما كتبه، لشيوع هذا التصوّر لدى فِرَق من الناس، كلّ لسببه، فإنّ الشاهد في الأمر هو هذا التاريخ الطويل، من سنة 1994 أو بعد ذلك بسنة، حتّى اليوم 2023، ثلاثون عاماً، ستكون الإحاطة فيها مستحيلة بإسهام هذه الحركة فيما نفاه ذلك الكاتب!
من الناحية الموضوعية الصرفة في حماس، منذ تأسيسها وحتّى قبل دخولها انتخابات السلطة الفلسطينية في العام 2006، ما يستدعي التفكير في آفاق الحركة النضالية والسياسية، يرجع ذلك بالضرورة إلى الصيغة التي تبلورت فيها الحركة، وبالنحو الذي تنظر فيه إلى نفسها. فحتى قبل أن تنتقل من صيغتها الإخوانية التقليدية إلى طبعتها المقاومة، وهي تُعبّر في أدبيّاتها عن مواقف جذريّة رافضة لمسار التسوية، ومتمسّكة بفلسطين الكاملة، ومضمّنة أدبياتها المقولة المؤكّدة على كون فلسطين "أرض وقف إسلاميّ لا يجوز التفريط ولو بحبّة تراب منها".
بيد أنّها في المقابل، لا سيّما بعد تحوّلها إلى "حركة المقاومة"، لم تقطع بالكامل مع مسار منظمة التحرير، وذلك بجملة مبادرات منذ العام الثاني على ولادتها، كانت تكشف عن رؤية الحركة لنفسها بأنّها فصيل وُلد كبيراً، قادر على المنافسة والمدافعة لتمثيل الجماهير، ومن ثمّ يملك القدرة لصياغة الحلول المؤهّلة لمخاطبة العالم، تجلّى ذلك بالدخول في السلطة، وبعض الأطروحات "التوافقية" كوثيقة الأسرى، وأخيراً وثيقتها السياسية الجديدة التي صدرت في العام 2017. لكنّ الحركة، وبقدر ما تكشف أيضاً بذلك عن فهمها الخاصّ للسياسة، فإنّها في هذا التاريخ الطويل كلّه لم تترك المقاومة أبداً، ومنحت ثقلاً هائلاً في واقع الحال مقابلاً لمسار التسوية الذي وصل بالفلسطينيين إلى ما تغني حقيقته الماثلة عن المقال.
لم تكن المشكلة إذن في التوجّس من هذه المعطيات الموضوعية، فالتجاوز عن المعطى المحسوس مكابرة، ولا حتّى في النظر إلى الدوافع النظرية الكامنة في جماعات "الإسلام السياسي"، المفضية بها إلى صيغ توافقية أو تلفيقية، ولا حتى في اعتبار الحجم والثقل بما يعني بالضرورة تنوّعاً داخلياً في الرؤى السياسية الكبرى، لدى نخب نافذة، قد يصل حدّ التناقض أحياناً، ولكن المشكلة، في الانطلاق لنقد الحركة وتحليل سياساتها، من الدوافع النفسية وسوء الظن الأيديولوجي، في أحسن الأحوال، أمّا في أسوئها، فمعالجة القضايا جسيمة الخطر بدوافع تشبه الدوافع "القَبَلية = العشائرية"، بما ينمّ عن ذبول الحسّ الأخلاقي. إذ تفضي هذه الدوافع، إلى مكابرة من نوع آخر، بإنكار مقاومة الحركة الواقعة بالفعل، وهو ما لا ينتهي إلا إلى خدمة خطابات مشروع التسوية وتجلّياته، الذي لم يعد مشروعاً للتسوية، بقدر ما صار تناقضاً كاملاً مع خيار المواجهة.
بكلمة أخرى، الاختلاف مع الحركة في خيارات سياسية لها، والتحذير من مآلات هذه الخيارات إذا مدّت على خطّ مستقيم حتى النهاية، ليس حقّاً فحسب، بل هو واجب، لكن ذلك لا يعني ميكانيكياً التوهّم أن الحركة باتت خارج أرضها التي وقفت عليها منذ تأسيسها، وإن كان لا يعني في المقابل الكفّ عن البحث عن المحرّكات النظرية والبنيوية في الحركة نحو تلك الخيارات محلّ الخلاف.
هذا الوهم ظلّ مستعجلاً منذ تأسيس الحركة إلى اليوم، حتى يخيّل إلى المرء أنّ البعض وكأنّه يرجو تحقّق هذا الوهم لكثرة ما يلحّ عليه. هذا الإلحاح العجول يدلّ على العلل النفسية التي تُلقَى على قضية من نوع القضية الفلسطينية، إذ يمكن للبعض، في حال لو سقطت حماس، أن يريح ضميره من جهة القول إنّ ظنونه الأيديولوجية ومشاعره النفسية صدقت، لكنه لا يبدو وكأنّه يلقي بالاً بالفعل للخسارة الهائلة، في حال لو تخلّت حماس عن مقاومتها!
أحسن كاشف عمّا نحن بصدده، ما قيل عن ترك الحركة للمقاومة حين توجّهها للانتخابات التشريعية عام 2006، إلا أنّها في الوقت نفسه كانت تأسر جنديّاً إسرائيليّاً وتدير عليه صفقة؛ هي حتى اللحظة أحسن ما أنجزه الفلسطينيون في هذا الإطار، إذا أخذنا ظرفها الموضوعي، من جهة أنّها من لحظة الأسر إلى لحظة الإطلاق، دارت كلها داخل قطاع غزّة، لأوّل مرّة في تاريخ الصراع، ومهما أمكن تسجيل نقد عليها؛ فإنّه لا تنبغي الغفلة عن ذلك الظرف.
وكذلك قيل عن الحركة إنّها تركت المقاومة، بسبب خطاباتها ومواقفها أثناء الثورات العربية. وهذا الربط ليس عجيباً فحسب ولكنه بالغ السفه، ليس فقط لعدم الرابط المعقول، ولكن أيضاً لإنكار الواقع المحسوس، فقد قيل عن الحركة ذلك حتى وهي في غمرة حربي 2012 و2014. بل فلنعد إلى مطلع هذه المقالة، فقد كان يقال عنها ذلك في أواسط التسعينيات، وهي تواجه البطش الأقسى للتجسيد الأهمّ لمشروع التسوية، وقبل اغتيال مهندسها الأشهر، فقبل سلسلة الردود على اغتياله!
بالنسبة لما هو أسوأ في فهم خصوم الحركة لها ومحاولتهم تصويرها، هو ذلك الذي سمّيناه "الدوافع القَبَلية"، إذ تغيب المسؤولية الأخلاقية التي تقتضيها طبيعة الصراع المعقّد في فلسطين. فالحركة متهمة من خصمها السياسي على أيّ حال كانت، فهي تستدعي الدّمار لغزّة بصواريخها "العبثية" حال المواجهة، أو تخدم طرفاً إقليميّاً على حساب الشعب الفلسطيني حين هذه المواجهة، وهي تمنح العدوّ تهدئة "مجانية" حال هدوء المواجهة، أو تخدم طرفاً إقليميّاً آخر حين هذا الهدوء، وهي تخدم اليمين الإسرائيلي بعملياتها، وهي قد تجردت من إرادة المقاومة إن منعها قهر العوائق عن تنفيذ عملياتها، وقد يُسأل عن حضورها المقاوم في الضفة، دون أن يُسأل عن ملاحقتها على رفع راية لها فيها.
ليس هذا جديداً، فالحركة في مرحلتها الإخوانية التقليدية كانت متهمة طول الوقت بكونها خارج الموقف النضالي، ثمّ رُفضت لما دخلت هذا الموقف، واتُهمت بأنّها صنيعة إسرائيلية (الطريف الفاضح أن قيادتها المؤسِّسة التي اتهمت بذلك صارت ضحية الاغتيالات الإسرائيلية المتتابعة)، وعانت محاولات الإقصاء الصريح من البداية.
فبالرغم من بدايات التداخل التاريخي بين الجماعة الإخوانية وحركة فتح، فإنّ الولادة الكبيرة لحماس جعلتها عنوان التوجّس الداخلي الأوّل بالنسبة لفتح، فصارت المسألة أشبه بالصراع على الوجاهة العشائرية في قرية ما، وإن كان ربما للصعود اليساري في فتح من بعد أحداث أيلول 1970 دور في مراكمة مشاعر نظرية بائسة تجاه التجلّي الإسلامي الأبرز في فلسطين.
بالنسبة لآخرين، فإنّ كثرة اللَّوْك النظري لكلمة "ثورة" وما اتصل بها من نظريات، والمشاعر النفسية المتحفّزة تجاه كلمات من قبيل "الإخوان" و"الإسلام السياسي"، كافية، لا لتحليل خيارات الحركة ومساراتها، إذ لا يمكن تحييد المعطى النظري في فهم أيّ فاعل سياسي، وإنّما للاستعجال في رميها بما لم يقع بعد، كتركها المقاومة مثلاً.
ليس بعيداً عن ذلك توظيف كونها "سلطة" في غزة، لمساواتها بالسلطة في الضفّة، إذ إنّه وفي حين لا يمكن تحييد ضرورات كونها "سلطة" لفهم سياساتها، فإنّه من المكابرة كذلك مساواتها بالسلطة الأخرى، وهذا بغض النظر عن كلّ ما يمكن قوله بالنسبة لإشكالية الجمع بين المقاومة والسلطة. فهذه "السلطة" التي في غزة، بدت وكأنّها شرط موضوعي لتوفير بيئة لتنامي المقاومة، بما أتاح موقفاً آخر في الحالة الفلسطينية غير الموقف المعبّر عنه في تجليات مشروع التسوية، وهذه من أهمّ المكاسب في التدافع الفلسطيني الداخلي.
وأمّا بقية صعوبات المقاومة من غزّة فلا تقتصر على كون "السلطة" هناك هي حركة مقاومة أيضاً، تكاد تتحمل مسؤولية الواقع الراهن فيه وحدها أمام الجماهير، ولكن لأسباب تاريخية وطبيعية، من حيث انفكاك القدرة عن الانغماس في الاحتلال، مما يستدعي مع جملة الوقائع القائمة النظر في النظريات الأكثر نجاعة لمقاومة الاحتلال بالتفاهم والتعاون والتنسيق بين مجمل الفاعلين في ساحة المقاومة، وهو ما حاولت حماس السعي إليه من خلال جملة أفكار، كما في فكرة "الغرفة المشتركة"، التي خاضت الحركة بعض معاركها باسمها كما في العام 2018، بعد استشهاد كادرها نور الدين بركة الذي اكتشف مجموعة قوات خاصّة للاحتلال كانت في طور تنفيذ مهمة استخباراتية داخل القطاع.
وأخيراً، فإنّه لا تلازم ضروري بين ما يمكن الاختلاف فيه مع الحركة في بعض سياساتها وخطاباتها، أو التوجس من بعض عناصرها النظرية والبنيوية، وبين تركها للمقاومة، فهذا الاتهام المزمن لها بترك المقاومة ينمّ عن خفّة عقلية وتآكل أخلاقي، وعن غفلة مُطْبقة عن التاريخ والواقع وحتّى عن عناصر بنيوية أخرى في الحركة جعلتها بالفعل، إلى اليوم، الفصيل المقاوم الأكبر الذي يُعوَّل عليه في كبح كلّ مشاريع تصفية القضية الفلسطينية.
twitter.com/sariorabi
من الناحية الموضوعية الصرفة في حماس، منذ تأسيسها وحتّى قبل دخولها انتخابات السلطة الفلسطينية في العام 2006، ما يستدعي التفكير في آفاق الحركة النضالية والسياسية، يرجع ذلك بالضرورة إلى الصيغة التي تبلورت فيها الحركة، وبالنحو الذي تنظر فيه إلى نفسها. فحتى قبل أن تنتقل من صيغتها الإخوانية التقليدية إلى طبعتها المقاومة، وهي تُعبّر في أدبيّاتها عن مواقف جذريّة رافضة لمسار التسوية، ومتمسّكة بفلسطين الكاملة، ومضمّنة أدبياتها المقولة المؤكّدة على كون فلسطين "أرض وقف إسلاميّ لا يجوز التفريط ولو بحبّة تراب منها".
بيد أنّها في المقابل، لا سيّما بعد تحوّلها إلى "حركة المقاومة"، لم تقطع بالكامل مع مسار منظمة التحرير، وذلك بجملة مبادرات منذ العام الثاني على ولادتها، كانت تكشف عن رؤية الحركة لنفسها بأنّها فصيل وُلد كبيراً، قادر على المنافسة والمدافعة لتمثيل الجماهير، ومن ثمّ يملك القدرة لصياغة الحلول المؤهّلة لمخاطبة العالم، تجلّى ذلك بالدخول في السلطة، وبعض الأطروحات "التوافقية" كوثيقة الأسرى، وأخيراً وثيقتها السياسية الجديدة التي صدرت في العام 2017. لكنّ الحركة، وبقدر ما تكشف أيضاً بذلك عن فهمها الخاصّ للسياسة، فإنّها في هذا التاريخ الطويل كلّه لم تترك المقاومة أبداً، ومنحت ثقلاً هائلاً في واقع الحال مقابلاً لمسار التسوية الذي وصل بالفلسطينيين إلى ما تغني حقيقته الماثلة عن المقال.
لم تكن المشكلة إذن في التوجّس من هذه المعطيات الموضوعية، فالتجاوز عن المعطى المحسوس مكابرة، ولا حتّى في النظر إلى الدوافع النظرية الكامنة في جماعات "الإسلام السياسي"، المفضية بها إلى صيغ توافقية أو تلفيقية، ولا حتى في اعتبار الحجم والثقل بما يعني بالضرورة تنوّعاً داخلياً في الرؤى السياسية الكبرى، لدى نخب نافذة، قد يصل حدّ التناقض أحياناً، ولكن المشكلة، في الانطلاق لنقد الحركة وتحليل سياساتها، من الدوافع النفسية وسوء الظن الأيديولوجي، في أحسن الأحوال، أمّا في أسوئها، فمعالجة القضايا جسيمة الخطر بدوافع تشبه الدوافع "القَبَلية = العشائرية"، بما ينمّ عن ذبول الحسّ الأخلاقي. إذ تفضي هذه الدوافع، إلى مكابرة من نوع آخر، بإنكار مقاومة الحركة الواقعة بالفعل، وهو ما لا ينتهي إلا إلى خدمة خطابات مشروع التسوية وتجلّياته، الذي لم يعد مشروعاً للتسوية، بقدر ما صار تناقضاً كاملاً مع خيار المواجهة.
بكلمة أخرى، الاختلاف مع الحركة في خيارات سياسية لها، والتحذير من مآلات هذه الخيارات إذا مدّت على خطّ مستقيم حتى النهاية، ليس حقّاً فحسب، بل هو واجب، لكن ذلك لا يعني ميكانيكياً التوهّم أن الحركة باتت خارج أرضها التي وقفت عليها منذ تأسيسها، وإن كان لا يعني في المقابل الكفّ عن البحث عن المحرّكات النظرية والبنيوية في الحركة نحو تلك الخيارات محلّ الخلاف.
هذا الوهم ظلّ مستعجلاً منذ تأسيس الحركة إلى اليوم، حتى يخيّل إلى المرء أنّ البعض وكأنّه يرجو تحقّق هذا الوهم لكثرة ما يلحّ عليه. هذا الإلحاح العجول يدلّ على العلل النفسية التي تُلقَى على قضية من نوع القضية الفلسطينية، إذ يمكن للبعض، في حال لو سقطت حماس، أن يريح ضميره من جهة القول إنّ ظنونه الأيديولوجية ومشاعره النفسية صدقت، لكنه لا يبدو وكأنّه يلقي بالاً بالفعل للخسارة الهائلة، في حال لو تخلّت حماس عن مقاومتها!
أحسن كاشف عمّا نحن بصدده، ما قيل عن ترك الحركة للمقاومة حين توجّهها للانتخابات التشريعية عام 2006، إلا أنّها في الوقت نفسه كانت تأسر جنديّاً إسرائيليّاً وتدير عليه صفقة؛ هي حتى اللحظة أحسن ما أنجزه الفلسطينيون في هذا الإطار، إذا أخذنا ظرفها الموضوعي، من جهة أنّها من لحظة الأسر إلى لحظة الإطلاق، دارت كلها داخل قطاع غزّة، لأوّل مرّة في تاريخ الصراع، ومهما أمكن تسجيل نقد عليها؛ فإنّه لا تنبغي الغفلة عن ذلك الظرف.
وكذلك قيل عن الحركة إنّها تركت المقاومة، بسبب خطاباتها ومواقفها أثناء الثورات العربية. وهذا الربط ليس عجيباً فحسب ولكنه بالغ السفه، ليس فقط لعدم الرابط المعقول، ولكن أيضاً لإنكار الواقع المحسوس، فقد قيل عن الحركة ذلك حتى وهي في غمرة حربي 2012 و2014. بل فلنعد إلى مطلع هذه المقالة، فقد كان يقال عنها ذلك في أواسط التسعينيات، وهي تواجه البطش الأقسى للتجسيد الأهمّ لمشروع التسوية، وقبل اغتيال مهندسها الأشهر، فقبل سلسلة الردود على اغتياله!
بالنسبة لما هو أسوأ في فهم خصوم الحركة لها ومحاولتهم تصويرها، هو ذلك الذي سمّيناه "الدوافع القَبَلية"، إذ تغيب المسؤولية الأخلاقية التي تقتضيها طبيعة الصراع المعقّد في فلسطين. فالحركة متهمة من خصمها السياسي على أيّ حال كانت، فهي تستدعي الدّمار لغزّة بصواريخها "العبثية" حال المواجهة، أو تخدم طرفاً إقليميّاً على حساب الشعب الفلسطيني حين هذه المواجهة، وهي تمنح العدوّ تهدئة "مجانية" حال هدوء المواجهة، أو تخدم طرفاً إقليميّاً آخر حين هذا الهدوء، وهي تخدم اليمين الإسرائيلي بعملياتها، وهي قد تجردت من إرادة المقاومة إن منعها قهر العوائق عن تنفيذ عملياتها، وقد يُسأل عن حضورها المقاوم في الضفة، دون أن يُسأل عن ملاحقتها على رفع راية لها فيها.
ليس هذا جديداً، فالحركة في مرحلتها الإخوانية التقليدية كانت متهمة طول الوقت بكونها خارج الموقف النضالي، ثمّ رُفضت لما دخلت هذا الموقف، واتُهمت بأنّها صنيعة إسرائيلية (الطريف الفاضح أن قيادتها المؤسِّسة التي اتهمت بذلك صارت ضحية الاغتيالات الإسرائيلية المتتابعة)، وعانت محاولات الإقصاء الصريح من البداية.
فبالرغم من بدايات التداخل التاريخي بين الجماعة الإخوانية وحركة فتح، فإنّ الولادة الكبيرة لحماس جعلتها عنوان التوجّس الداخلي الأوّل بالنسبة لفتح، فصارت المسألة أشبه بالصراع على الوجاهة العشائرية في قرية ما، وإن كان ربما للصعود اليساري في فتح من بعد أحداث أيلول 1970 دور في مراكمة مشاعر نظرية بائسة تجاه التجلّي الإسلامي الأبرز في فلسطين.
بالنسبة لآخرين، فإنّ كثرة اللَّوْك النظري لكلمة "ثورة" وما اتصل بها من نظريات، والمشاعر النفسية المتحفّزة تجاه كلمات من قبيل "الإخوان" و"الإسلام السياسي"، كافية، لا لتحليل خيارات الحركة ومساراتها، إذ لا يمكن تحييد المعطى النظري في فهم أيّ فاعل سياسي، وإنّما للاستعجال في رميها بما لم يقع بعد، كتركها المقاومة مثلاً.
ليس بعيداً عن ذلك توظيف كونها "سلطة" في غزة، لمساواتها بالسلطة في الضفّة، إذ إنّه وفي حين لا يمكن تحييد ضرورات كونها "سلطة" لفهم سياساتها، فإنّه من المكابرة كذلك مساواتها بالسلطة الأخرى، وهذا بغض النظر عن كلّ ما يمكن قوله بالنسبة لإشكالية الجمع بين المقاومة والسلطة. فهذه "السلطة" التي في غزة، بدت وكأنّها شرط موضوعي لتوفير بيئة لتنامي المقاومة، بما أتاح موقفاً آخر في الحالة الفلسطينية غير الموقف المعبّر عنه في تجليات مشروع التسوية، وهذه من أهمّ المكاسب في التدافع الفلسطيني الداخلي.
وأمّا بقية صعوبات المقاومة من غزّة فلا تقتصر على كون "السلطة" هناك هي حركة مقاومة أيضاً، تكاد تتحمل مسؤولية الواقع الراهن فيه وحدها أمام الجماهير، ولكن لأسباب تاريخية وطبيعية، من حيث انفكاك القدرة عن الانغماس في الاحتلال، مما يستدعي مع جملة الوقائع القائمة النظر في النظريات الأكثر نجاعة لمقاومة الاحتلال بالتفاهم والتعاون والتنسيق بين مجمل الفاعلين في ساحة المقاومة، وهو ما حاولت حماس السعي إليه من خلال جملة أفكار، كما في فكرة "الغرفة المشتركة"، التي خاضت الحركة بعض معاركها باسمها كما في العام 2018، بعد استشهاد كادرها نور الدين بركة الذي اكتشف مجموعة قوات خاصّة للاحتلال كانت في طور تنفيذ مهمة استخباراتية داخل القطاع.
وأخيراً، فإنّه لا تلازم ضروري بين ما يمكن الاختلاف فيه مع الحركة في بعض سياساتها وخطاباتها، أو التوجس من بعض عناصرها النظرية والبنيوية، وبين تركها للمقاومة، فهذا الاتهام المزمن لها بترك المقاومة ينمّ عن خفّة عقلية وتآكل أخلاقي، وعن غفلة مُطْبقة عن التاريخ والواقع وحتّى عن عناصر بنيوية أخرى في الحركة جعلتها بالفعل، إلى اليوم، الفصيل المقاوم الأكبر الذي يُعوَّل عليه في كبح كلّ مشاريع تصفية القضية الفلسطينية.
twitter.com/sariorabi
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق