على حواف العدم.. ثأر الأحرار
يروّج الغرب للاحتلال الإسرائيلي في صورة "الدولة الديمقراطية الحضارية"، وقد ساهم في تدعيم مزاعم ديمقراطية إسرائيل سطوةُ الطغمة الدكتاتورية العربية الرافضة للعملية الديمقراطية، غير أنّ الصورة التي سوّقها الاحتلال بآلته الإعلامية الضخمة سرعان ما تداعت أمام الممارسات العنيفة ضد الفلسطينيين.
فازدياد العنف السياسي من قادة إسرائيل لم يكن استثناء مع تعاقب الحكومات اليمينية/اليسارية، بل نتيجة حتمية لفشل الغرب في تحقيق العدالة اللامشروطة، فالإسرائيليون لا يتذكرون الخطايا التاريخية التي أحالت هويتهم الوطنية إلى عصابة صهيونية اقتادتهم نحو المنافي الاستيطانية، عصابة لا تدخر جهدا في ترحيل الملايين اليهود إلى دولة حدودها من عدم.
إنّ فكرة إسرائيل الديمقراطية وأسوار هويتها وثقافتها المبنية بالتوازي مع جدار الفصل العنصري، ستظل رهينة الخوف من الزوال الذي يتم استدعاؤه من الإعلام الغربي ومثقفيه ونخبته الداعمة لحق إسرائيل في القتل، فأن يدافع المقاوم عن أرضه وشعبه، ليس له أهمية كصورة الديمقراطية الإسرائيلية في الأخبار الدولية، ويكفي أن يحتج فرد/مؤسسة داخل القضاء الغربي ضد همجة الاحتلال حتى تتهمه المؤسسات الغربية بمعاداة السامية.
من يفهم بنية إسرائيل التاريخية الآيلة إلى استحالة استمراريتها، يدرك هشاشة المكون الاجتماعي/الهوياتي الذي بنته الصهيونية من رحم القتل والتهجير، كما أنّ نظامها القائم كحالة استثنائية في المنطقة لم يعد بمقدوره التخلص من جولات الحروب الاستنزافية التي يراهن عليها الاحتلال كحل لمواجهة أزماته السياسية والاجتماعية التي ترمي بثقلها نحو حافة تهاوي الأسطورة.
فما يتهدد نظام الفصل الصهيوني ليست الجيوش التي ستغزوه، ولا صواريخ المقاومة التي لا تنقطع أنفاسها عن ترويع صناع السياسية بإسرائيل، بل باستحالة خلق استدامة للمجتمع الإسرائيلي قائمة على التنوع والاختلاف والاندماج، فما توجبه الديمقراطية من الحقوق العامة، ومن القيم الإنسانية، يصعب على الاحتلال تحقيقه في ظل تصاعد الممارسات اللاإنسانية المفضية إلى إفراغ الكيان من تحضّره.
كما أنّ الاحتلال لا يملك المقومات التاريخية والاجتماعية التي تؤهله لأن يكون نظاما حضاريا ديمقراطيا وهو يستنسخ تاريخ العصابات الصهيونية، ولعل سياسة الاستيطان التي ورثها الاحتلال عن فرنسا الاستعمارية، ودعمه نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وتبنّيه، يفضح القائمين على مشاريع التصهين والتطبيع بكل أشكاله، فاضحة صورة ديمقراطية يتآكلها سواد التاريخ ولعنات الإنسانية على حواف العدم.
تحمل الرئاسة الفلسطينية على عاتقها الجرم التاريخي بشأن ما يعيشه الفلسطيني، وذلك بحجبها دعم المقاومة وإقرارها التنسيق الأمني
تحييد المقاومة
يظل استهداف الاحتلال الصهيوني للمقاومة قائما وفق ما شرّعته اتفاقيات السّلام، إذ إنّ الرضوخ للمقررات الأممية وصفقات التسوية اللانهائية لا يمثل سوى تمرير للمشاريع الاستيطانية، وخطر على أيّ مشروع للمقاومة لاستعادة وحدة الصف الفلسطيني، وقد تطور الوضع من "إستراتيجية التطويع" إلى سياسة "تحييد المقاومة" باعتبار حركة حماس شريكا غير مباشر يمكن التفاوض معه عن باقي مكونات المقاومة، إذ إنّ إزاحة العمل العسكري بتفعيل التفاوض من جانب السياسي يمثل نقطة ارتكاز قوية للاعتراف بدولة الاحتلال، وإنتاج نظام فلسطيني ريعي غايته التنديد والشجب.
تتحمل الرئاسة الفلسطينية على عاتقها الجرم التاريخي ضد ما يعيشه الفلسطيني، وذلك بحجبها دعم المقاومة وإقرارها للتنسيق الأمني، فتمثيل السياسة الفلسطينية الدولية لم يعد ضمن قضايا "تصفية الاستعمار" بقدر ما تعتمده الأمم المتحدة على أنه عملية "تسوية تاريخية" لطرفي النزاع، فحق العودة وانهاء الاستيطان وحل الدولتين باتت أثرا طمسته أقلام الممانعين داخل أقبية التطبيع، ووحده الفلسطيني المقاوم على حواف الكيان الإسرائيلي، بكل أطيافه وعلى اختلاف توجهاته من سيعيد زخم المسألة الفلسطينية التي لطختها خطابات التحريض والتشويه والتلفيق.
يتوقف نجاح عملية تحييد المقاومة على نقطة ارتكاز مهمة، منطلقها التسوية السياسية بين المقاومة والاحتلال، وعلى إفشال انتفاضة ثالثة تقلب موازين استقرار الاحتلال بالضفة وعلى أسواره المتخيّلة، إذ إنّ إسرائيل فرضت صورة أحادية على العالم كون غزة ملاذا للعمليات التي تصفها بالإرهابية، مرجعة أعمال الشغب بالضفة إلى فشل الحكومة الفلسطينية في استتباب الأمن.
وقد استطاع الاحتلال ترسيخ هذه الصورة نخبويا خارج فلسطين، وداخليا بتحييد الضفة الغربية بقيادة السلطة الفلسطينية، ولكن مع الزخم الذي توليه عمليات التصفية للمقاومين سياسيا وعسكريا، فإنّ غصن الزيتون استلب منبته وساقيه، وما ينفعه سوى معول يدق به قلعة الأسطورة.
لعل العبارات التي تقدح في رمزية المقاومة كونها شرطا تاريخيا لتصفية الاحتلال، لم تكن خطابا محدثا اتهم به الفلسطينيون فحسب، بل إنّه يضرب بجذوره في التاريخ الملطخ بدماء الخونة والعملاء
التحرير مكلف
مع كل حرب تشنها إسرائيل على غزة، ينبري عبر منصات وسائل الاعلام المختلفة خطاب يسيء إلى المقاومة بصفتها المسؤول الرئيسي عن سقوط الضحايا، ذلك الخطاب وإن بدا نقدا للمقاومة وفعلها الثوري ضد الاحتلال، إلا أنّه لا يخلو من تجريم المقاومة بوصفها أيديولوجيا إسلامية، ويحمل خطاب التلفيق ضد المقاومة من أدعياء الممانعة، تقزيم فعالية المقاومة ضد جبروت الصهيونية، واختزالها في مكون إسلامي راديكالي، حتى إنّ فكرة الفلسطيني المضطهد والمهجّر باتت تصوّرها الدعاية العربية الغربية على أنّها رفض للوضع الاقتصادي الذي يعيشه الفلسطيني داخل الاحتلال.
ولعل العبارات التي تقدح في رمزية المقاومة كونها شرطا تاريخيا لتصفية الاحتلال، لم تكن خطابا محدثا اتهم به الفلسطينيون فحسب، بل إنّه يضرب بجذوره في التاريخ الملطخ بدماء الخونة والعملاء، ففي الجزائر إبّان ثورة التحرير انبرى العملاء لتثبيط الجزائريين على الانتفاض ضد المحتل الفرنسي بخطابات تمجد قوة الفرنسي وتقدح في الثوار، واستحالة مقاومة الجزائريين بأسلحتهم البدائية الاستعمار، ولولا الملايين التي قُدمت قربانا ليتحرر الوطن من المستدمر الفرنسي، لم تكن لتضحية الشعب أن تبصر أملها في الاستقلال القريب، أمل استشرفه الثوار وأعلنوه ببنادقهم التقليدية وهم يرفعون أعلامهم، ودماؤهم تسقي الأرض إيذانا بالثورة.
فلسطين المقاومة لآخر معاقل الاستعمار الغربي، تواجه تكالبا شرسا من صناع القرار الأممي ومؤسساته، وتواطؤ الأعداء المقربين في المنطقة الذين يتحكمون بمصير مؤسساتها، ومن المتربصين بالمقاومة ممن يحيكون لها المؤامرات، ومهما بدت قوّة الاحتلال الصهيوني في تحطيم المباني وقتل الآلاف من الأبرياء واستهداف قيادات المقاومة، فإنّ شعب فلسطين بصموده التاريخي ووحدته الثورية هو من سيكفل تحطيم صرح الأسطورة الصهيونية بأرضه التاريخية المزعومة، وإن كان ذلك بحجر يرفعه المقلاع في وجه القبة الحديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق