الوطنية الكذابة
أبو بكر يحيى
باحث شرعي ورئيس مؤسسة الرؤية الحضارية - سراييفو
شبه أحد أصدقائي -وهو عالم دي- الوطنية والدعوة لها اليوم من قبل "الطامعين في السلطة أو المتمسكين بها" بالأصنام التي كانت تعبدها قريش قبل الإسلام والفرق الوحيد بينهما أن الأصنام كانت ترابا منحوتا والوطن تراب ممدود. هذه حقيقة، فما الوطنية اليوم إلا شعارات زور تزدان بقشرة رقيقة من الحقيقة.
متى عرف المسلمون الوطنية وباتوا يرددون أحاديث حب الوطن والأرض إلا في عصر الاستعمار والانتهاك لكل حرمات الوطن والمواطن "عصر الذل والانكسار والتبعية". قد يبرر البعض ذلك بأن الأمر مرتبط بردة الفعل تجاه احتلال الأوطان العربية ولكني أرى غير ذلك؛ فالوطنية جزء من الدعاية للاستعمار. هي جزء من خطة تقسيم المقسم وتجزيئ المجزء.. فعندما كانت الأمة تحت راية واحدة من إندونيسيا وحتى المغرب لم تكن هناك دعوات العصبية الجاهلية المناطقية الضيقة التي نراها اليوم.
لقد تخطى مفهوم الوطنية الضيق أقطار سايكس بيكو فأصبحت الشعوب المسكينة تتفاخر وتتباغض فيما بينها باسم الوطنية حتى داخل القطر الواحد بل والمحافظة الواحدة وطالت حتى المدينة ذاتها أو المدينة وضواحيها. إنها توصيف دقيق لل"نتانة" التي حذر منها المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: "دعوها فإنها منتنة".
بدعوى هذه الوطنية والمناطقية بات الدمشقي لا يلتفت لمجاعة أهله في حمص، والمصري لا يألم لحصار إخوانه في فلسطين، ألا تبا للوطنية و للمناطقية وللقومية "الكذابة" |
دعوة لإلهاء الشعوب "المتخلفة" لتتكبر على غيرها من إخوتها في البشرية من أهل الأقطار الأخرى، وتصنع الحواجز بين الشعوب بدلا من مد جسور الحب والتعارف. دعوة للعصبية دون فهم؛ فحتى إن كانت بلادي متخلفة وجاحدة وظالمة إلا أنه يتوجب عليّ نصرتها بالحق وبالباطل كأنه فريق لكرة القدم أشجعه حتى وإن كان لا يجيد اللعب، في حين تتباهى الشعوب غير العربية بعالميتها وتعدد أعراقها ومكوناتها. دعوة لاخماد الثورات ضد السراق المستبدين العملاء بدعوى حب الوطن والمحافظة على أمنه واستقراره.
مخدر ممتد المفعول يستخدم من قبل الأبواق الإعلامية للأنظمة بديلا عن مخدر وأفيون الدين الذي كان يجدي في العصور الوسطى لكبت الأصوات النبيلة "حق يراد به باطل". فالوطنية فطرة لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم إلا في سياق حديثه عن قضية أسمى وأعلى، قضية "الحق المطلق" التي أرسل لأجلها المرسلون وقامت لأجلها السماوات والأرض، قضية التوحيد وإعلاء كلمة الله في الأرض. فهل من الصحيح أن نتمسك بهذا الكلام العرضي ونضخمه لنجعل منه القضية الأسمى والأهم التي يغني لها الراقصون ويتلحف بها الفاسدون ويبرر بها الظالمون جرائمهم؟! هل هذا توازن طبيعي أم أنه جزء من مخطط تركيع هذه الأمة المسكينة!
هذه الأمة التي لازالت تتفاخر بالتاريخ رغم أن الحاضر مأساوي ومعيب.. أمة تتكبر وتتفاخر منذ بدء الخليقة بكل شيء وهمي إلا بختام الرسالات التي تُشرف فعلا أصحابها، فتفاخروا بالشهامة والرجولة الكذابة وقد كانت نهبا وغارات وخيانة.. يتفاخرون بالشعر والبلاغة وقد كان سفاهة وخلاعة.. كانوا يتفاخرون بالحج رغم أنه كان للاصنام والشرك والخرافة.
كل هذا ولازالوا يتفاخرون على خطى العرب بكل قبيح وتافه ويذرون ما رفعهم حقا فوق السحاب وجعلهم يرتقون فوق غيرهم من الأمم "كتاب الهدى وسنة الهادي". كذابون أولئك الذين يصرفون أنظارنا إلى معان صغيرة يضخمونها ويكبرون من شأنها إلى أن غدت دينا بدل الدين وصنما يعبد من دون الله تسمت باسمه أحزاب وجماعات لاهم لها إلا سرقة الأوطان.
وأصبح مفهوم الوطنية مضادا للدين لا جزء منه، ثم هرول الإسلاميون أيضا لتقمص الدور فباتوا يعزفون نفس الأنغام ويسيرون مع التيار فناقضوا من حيث لا يدرون فكرتهم وساهموا في تقطيع أوصال بلدانهم فباتت لقمة سائغة لدى الأعداء. بدعوى هذه الوطنية والمناطقية بات الدمشقي لا يلتفت لمجاعة أهله في حمص، والمصري لا يألم لحصار إخوانه في فلسطين، ألا تبا للوطنية و للمناطقية وللقومية "الكذابة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق