السبت، 6 مايو 2023

الانتخابات التركية معركة هوية وليست مجرّد عملية سياسية!

 الانتخابات التركية معركة هوية وليست مجرّد عملية سياسية!

مضر أبو الهيجاء

 توازن الفهم المفقود والموقف المطلوب.. الانتخابات التركية معركة هوية وليست مجرّد عملية سياسية !

المدخل:

قدر الله أن تكون النبوّة في العرب وأنزل القرآن بلسان عربي مبين، وقدّر للأتراك أن يكونوا عصبة وقوة في تاريخ الإسلام والمسلمين، فكما زيّن الله العرب واختصّهم بميزة نقل الهداية للعالمين، فقد اختصّ الترك بأن يكونوا القوة الأعظم التي تدافع عن ديار الإسلام ودين الموحدين.

صورة تجسّدت عبر قرون فاقت في عمرها جميع الحضارات البشرية، حتى زالت دولة المسلمين، فسالت دماء الموحدين، وقتل العلماء دون رأفة ولا معين، واختلطت الصورة واشتد الواقع سوءا حتى بات من بين سلاطين وحكّام العرب والمسلمين من يسعى جاهدا لإهلاك المؤمنين وإنشاء مذهب ودين جديد، مسخّرا سلطانه وماله ومعلنا حربا على عقيدة التوحيد، كما ظهر بين الأتراك من القيادات والمفكرين ورؤساء الأحزاب من ديدنه هو إضعاف أي كينونة وجماعة وفكرة يمكن أن تخدم العرب والمسلمين أو تمكّن لهذا الدين.

ورغم عذابات منطقتنا العربية وما لاقاه أهلها من قهر الاستعمار الغربي ثم أنظمته الوطنية والقومية التي مكّن لها في البلاد وسلّطها على رقاب العباد، فان أحدا لم يذق العذاب الذي لاقاه الأتراك حين مشطت أجسادهم وقطعت أعناقهم وأحرقت ديارهم وأتلفت حقولهم وعرّيت نساؤهم حتى اختفت المصاحف من بينهم، ليعلوا صوت الكفر الذي يتحدّى الله في الأرض والسماء.

صورة بائسة حلّت في تركيا قبل قرن، تحدّاها النورسيون بدمائهم وأموالهم وأمنهم، كما قتل دونها الرجالات، كرئيس الوزراء عدنان مندريس رحمه الله، كما كرّس حياته كوكبة من العلماء والقيادات الذين فنت أعمارهم دون أن يبدّلوا مواقفهم كالقائد أربكان -رحمه الله-، حتى جاء رجب الطيب أردوغان، فماذا كان؟

مجيء أردوغان وصعوده للحكم:

عايش الشاب رجب طيب أروغان تجربة الحركة الإسلامية طيلة شبابه، ودرس على شيوخها، ولم يغب عن معتركاتها السياسية، حتى وصلت تجربة شيخه وقائده أربكان إلى عنق الزجاجة، وتمّ تحييده وعزله بفعل قسوة العلمانية التركية في مؤسسة الجيش والدولة، وبفعل الضغوط الغربية والأيادي الصهيونية المتمركزة في مفاصل الدولة والمؤسسات التركية الفاعلة .

في هذه اللحظة التاريخية اجتهد أردوغان ودخل للحياة السياسية مخالفا مذهب أستاذه الحركي، معلنا مسيرة مختلفة وإيقاعا متباينا عن الأشكال التقليدية ليصنع بيديه مسارا إسلاميا علمانيا مختلطا مستفيدا من فكر الشيخ الغنوشي -فكّ الله أسره- ومقولات ومواقف الشيخ عبد الفتاح مورو، حيث نجح في نقل العلمانية التركية من الفرنسية -التي تمنح الدولة سلطة التدخّل في التديّن الفردي- إلى العلمانية الانجليزية – حيث لا تتدخل الدولة في التديّن الفردي مهما كان شكله ومضمونه-.

من نافلة القول الحديث عن أن التجربة الأردوغانية عليها ملاحظات منهجية وشرعية كثيرة، حيث جانبت الصوّاب في تبنّي العلمانية على مستوى الحزب والدّولة، فكما أنها أفادت الصوت الإسلامي بالانعتاق من حالة الكبت والقهر وسمحت للمؤسسات الدعوية بالعمل بالطول والعرض على مستوى البلاد وخارجها، فقد أنعشت المنظومة والدولة العلمانية المترهّلة، وضخّت في مؤسسات الدّولة دماء الشباب الذي انبروا مضحين ليخدموا تلك التجربة بعد عقود من القهر والجلد والسجن والإرهاب الذي أحرق لحاهم ونزع حجاب نسائهم وشوّه مصير أطفالهم، فلم يكن أمامهم إلا هذا الخيار ليتفاعلوا معه سواء عن قناعة كاملة أو جزئية أو حتى من طرف المخالفين الرافضين لهذا المسار، حيث وجدوا فيه تجسيدا عمليا لهامش حقيقي أخرجهم من مخابئهم ليعملوا في طريق الدعوة في وضح النهار دون خوف ولا رعب ولا اعتقال.

الحالة التركية الفريدة:

لست من المسوّغين لذلك المسار، وسبق أن انتقدت مدرسة الشيخ الغنوشي -فكّ الله أسره-، كما أدرك مخاطر مشاريع علمنة الدين التي يرعاها الغرب في كل الدول العربية والإسلامية.

ولكنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، ولا أتصوّر أن الحالة التركية الفريدة قد وجد شبيهها في التجربة الإسلامية المعاصرة بما فيها تجربة الرئيس مرسي الشهيد -نحسبه كذلك ولا نزكّي على الله أحدا-، حيث كانت تجربة مرسي أنقى مسارا وأكثر سوية وانسجاما مع المبادئ والتصوّرات الإسلامية، والسبب في ذلك رفضه للعلمانية وإقراره بمرجعية الإسلام في موادّ الدستور المصري ومرجعيّته في الحياة السياسية .

لكنّ تركيا الحالية ليت أردوغان فحسب، بل هي عناصر عديدة متباينة المشارب ومتصادمة الأهداف، وهنا تكمن كلمة السرّ التي توسّع الأفهام وتبدّل المواقف وتصنع الفاعلية !

تركيا اليوم عبارة عن (1-مؤسّسة الدولة، 2-مؤسّسة الجيش، 3-مؤسّسة الإعلام، 4-المنظومة المالية، 5-المؤسّسة القضائية، 6-جهاز الاستخبارات، 7-الحالة الشعبية، ثمّ يأتي بعد ذلك الرئيس رجب طيب أردوغان) .

ولك أن تتصوّر أن جميع العناصر الستةّ منذ نشأة الدولة التركية الحديثة قامت على معاداة الدين واستهدفت اجتثاث المسلمين وتعاونت مع الغرب والصهيونية بغية خنق أي صوت أو حالة إسلامية، أما العنصر السابع وهو الحالة الشعبية فقد انقسمت نتيجة عقود من التغريب فبات نصفها مع الدين ونصفها الآخر لا يطيق سماع صوت القرآن الكريم .

الحرب الثقافية ومعركة الهوية في تركيا الحالية:

يشير ما سبق طرحه باختصار إلى حالة فريدة لم تشهدها الدول العربية والإسلامية سواء في مصر والعراق واليمن والشام، أم في إندونيسيا وأفغانستان وباكستان، حيث بقيت الإشكالية في بلادنا في عمومها مصالح وتوجهات سياسية، ولم يستطع الغرب ولا الرموز ولا المناهج والأفكار العلمانية أن تفصل بين الناس وبين الدين والقرآن ولا أن تفصلهم عن صوت الأذان، بل ان جميع حكّام العرب والمسلمين -إلّا في تركيا-  حاولوا استغلال الدين وشعاراته وصنعوا له رموزا  ودعاة ودورا للقرآن وهيئات علمائية في سبيل الترويج لأنفسهم ومخطّطاتهم الخبيثة والفاسدة والاستعمارية .

أمّا في تركيا فقد شهدت تجربتها منذ نشأتها حكّاما ومؤسسات إشكالا مع الذات الإلهية ومع القرآن وجميع مفردات الإسلام، الأمر الذي جعلها تدنّس المقدسات وتقدّس المدنّسات في حرب لا هوادة فيها مع أي نبتة إسلامية تزهر في ربوع تركيا حتى وان كانت مجرّدة وصوفية!

الانتخابات التركيّة هل هي مجرّد عملية سياسية أم معركة ثقافة وتحدّي استرداد الهويّة؟

الحكم على الشيء فرع عن تصوّره، قاعدة جليلة عند أهل العلم ومفادها ألّا نحكم على شيء إلا بعد تصوره تصورا تاما غير منقوص حتى يكون الحكم مطابقا للواقع معتبرا لمعطياته العامة والخاصة وإلا وقع خلل كبير .

والمتفحص للحالة التركية في مفرداتها السبعة –التي سبق الإشارة إليها- يعترف موضوعيّا أن الإشكال الثقافي في تركيّا كبير وعميق طيلة قرن من التدمير الممنهج من خلال الأدوات والأحزاب والأفكار الغربية، وأن المعركة الحقيقية والجوهرية في تركيا هي معركة هويّة، حيث يقبل الغرب اليوم وأدواته ومؤسساته المتمركزة في الدولة العميقة بأن يتواجد في كينونتها ومؤسّساتها بعض الإسلاميين بشرط ألّا يمسّوا هيبة العلمانية فتبقى رسميّا هي القيمة العليّة، وبشرط ألّا يتمدّد الإسلام في الجسم التركي على حساب الخيارات اللادينية، الأمر الذي يفسّر الانقلاب الفاشل في عام 2016 وما تبعه من تشويه وحصار لا يزال قائما بهدف خنق تركيا ليضمن عدم وقوع أيّ خير في أياد إسلامية، تعيد أمجاد الماضي الذي شكّل الأمة التركية وصهرها في أمّة إسلامية غيّرت وجه التاريخ وحالت دون انهيار السدود سواء في وجه الصليبية أو في وجه الصفوية الشيعية .

المفاصلة الانتخابية:

لقد أثبت أروغان -في فترة حكمه للبلاد- باعتبار خلفيته وانتماءاته وتجربته وأهدافه الإسلامية أنّه وفيّ لها ولأهلها حيث ناصر قضايا الشعوب الإسلامية، كما فتح الطريق أمام الأعمال الإسلامية في تركيا، وعزّز توجّه الخير في الدعوة والتعليم والإعلام والمال، كما أفلح في إضعاف هيمنة العسكر على الحياة السياسية، واخترق أجهزة الدولة الصّلبة كالإعلام والقضاء والمؤسسات المالية، دون أن يتربّع على عرشها أو يملك صلّاحياتها الكاملة بسبب عمقها وأدواتها وأشكال دعمها الغربية، التي لا زالت تحول –وبقوة- دون السيطرة الحقيقية .

إن أردوغان الفرد قيمة حقيقية في مواجهة أخطبوط له أذرع كثيرة لا تزال تتحرّك بحيوية، وتريد أن تنقضّ لتبتلع من جديد منجزات التجربة الأردوغانية فتسمّن جسدها الهزيل لتفتك مجدّدا بكلّ بناء أو بنية أو موقف يشير إلى عمل تراكميّ يخدم مشروع الأمة والدين وعودة الخلافة الإسلامية.

إن جوهر الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين حول الدّولة التركية اليوم يكمن في مستهدف واحد بينهما هو مؤسسة الدولة ولكنّه متناقض في الهويّة، حيث يسعى المسلمون الأتراك للاستفادة من مؤسّسة الدولة في تعزيز الدين ودعم المسلمين وعمارة الأرض وفق التصورات الإسلامية، فيما يسعى العلمانيون لاستغلال الدولة وصلاحياتها وإمكانياتها في تدمير الدين واقتلاع وإضعاف المسلمين والحيلولة دون أي عمل تراكمي لاسترداد الهويّة والدولة الإسلامية، وصناعة فجوة حقيقية تفصل بين الأتراك من جهة وبين العرب وعموم المسلمين من جهة أخرى باعتبار الموقف الرافض للدين والساعي لتبنّي كامل للحضارة الغربية بمعايير الليبرالية المتناقضة مع دين التوحيد.

الموقف المطلوب:

ليس الصراع القائم اليوم بين الأحزاب التركية حول اقامة دولة إسلامية أم علمانية !فالعملية الانتخابية في جوهرها ليست سياسية بل ثقافية وهي معركة هويّة، الأمر الذي يوجب على المسلمين إسناد الأخ رجب الطيب أردوغان، الذي شكّل فارقة في تاريخ تركيا الحديث سواء –كما كان يقول- بفتحه الطريق لعمل الإسلاميين والدعاة والهيئات الإسلامية، أو بتغيير وجه تركيا المعادي لله والرسول صلى الله عليه وسلم، حيث استردّ مسجد آيا صوفيا من الصليبيين، كما أصبحت تركيا الحالية –رغم علمانية الدولة-  قبلة لحفظة القرآن وروّاد النشاطات الإسلامية والعلمية، أو باستقباله التاريخي لكل المطاردين والقيادات والعلماء والنّخب المعرفية والعلمية والدعوية والسياسية والمالية، حيث شكّلت تركيا ملاذا آمنا –نسبيّا- حفظ درّة النخب العربية والإسلامية الفاعلة في العراق واليمن ومصر والشام وغيرها.

وانه لمن فواجع هذا الزمان أن يقف بعض الإسلاميين ونشطائهم الأتراك في وجه أردوغان متحالفين ومصطفّين إلى جانب أحزاب علمانية جاهلية، في سبيل تحقيق طموح سياسي وبسبب نديّة شخصية، غافلين عن أن الصراع بين المعسكرين الرئيسيين حول الهويّة، وأن حلفهم مع العلمانيين سيكون سببا في اجتثاث الدين وقسم ظهر الإسلاميين وإضعاف المسلمين حتى لو كسبوا بعض المكاسب المؤقتة والسياسية!

والسؤال المهم هنا، كيف يقبل مسلم أن يكون حطبا في مدفأة أحزاب علمانية مقابل بعض الفتات المؤقتة والدونية الدنيوية؟ وهل خلافهم الشخصي والسياسي مع أردوغان أقل من خلافهم واختلافهم مع القيادات والأحزاب العلمانية المعادية لمبادئ الإسلام والرافضة للتصورات السوية في عمارة الأرض كما أراد الله لها أن تعمّر؟

سؤال يحتاج إلى جواب، وجوابه يكمن في قصة إبليس وما جرى معه حين كان بين الملائكة في الجنّة !

الأمل المعقود:

ليس من السّهل تصوّر أن نجاح أردوغان يمكن أن يورثنا دولة إسلامية، فهذا حلم بعيد المنال في ظلّ الأوضاع الدولية والإقليمية وفي ظلّ ماهيّة التجربة التركية وفسيفساء الحالة الشعبية، وإذا كان هذا الحلم موجودا في وجدان الطيب أردوغان فلا أظنّه متوفّرا في حساباته السياسية الحالية، بل أقصى ما يمكن تحقيقه في تلك الحقبة –وهو ليس هيّنا- هو :

1- محاولة كسر الطوق الغربي الذي يحول دون أسلمة تركيّا –وهو الطوق الذي خنق التجربة المصرية-.

2- الاستفادة من مؤسّسة الدولة والصلاحيات النافذة فيها بزيادة رصيد الخير في كل جانب في الحياة التركية.

3- تعزيز الهوية الإسلامية بشكل تراكمي على مستوى الفرد والجماعات والمؤسسات من خلال مضمون شرعي علمي سليم يخلّص الناس من خرافات التصوّف، وينقي المجتمع ومؤسساته من لوثة العلمانية .

4- التسديد في المواقف والسياسات الخارجية التي تحفظ الأمة ودينها وتحقق لها المصالح وتدفع عنها المفاسد انطلاقا من الانتماء لها ووحدة المصير.

5- تشييد سدّ منيع في مواجهة مشروع ملالي إيران، والحيلولة دون تحقيق مشروعها الذي يستهدف تبديل دين الأمة وسلب ثرواتها والتحكّم بمقدراتها والهيمنة على عواصمها.

6- تجسيد صورة القائد المسلم العادل المرتبط بالشرع والمنحاز للأمة ما استطاع إليه سبيلا.

الإسلاميون اليوم وإشكاليات المدارس الإسلامية:

ينقسم الإسلاميون وعلماؤهم في مسألة الانتخابات التركية والوقوف إلى جانب  أردوغان وتعزيز فرصه في النجاح إلى عدة أقسام:

الصنف الأول: التيس المحلّل

وهو الموقف الذي جسّده –مع كلّ أسف وشعور بالحسرة والمرارة- المفكّر الإسلامي البروفيسور أحمد داوود أوغلو وحزب المستقبل، والسيد علي باباجان وحزب الديمقراطية والتقدم، والشيخ تمل كاراملا أوغلو وحزب السعادة، وقد فوجئ العالم الإسلامي بموقف لرموز إسلامية سقطت في النموذج السنواري –فاقد الأخلاق والمعايير الشرعية-  حيث أقامت حلفها مع أعداء المشروع الإسلامي والأمة دون وفاء للمسار الإسلامي وتصوراته وقيمه الرسالية، ودون انحياز للأمة ومصالحها، ودون اعتبار لمشاريع الخصوم الذين تحالفت معهم رغم شيوع أذاهم تجاه الإسلام والمسلمين خلال كل تاريخهم ومواقفهم، وهكذا يكون الطرف الإسلامي في هذا الحلف الجاهلي أداة لعبور الأعداء وعودة غير شرعية للقيادات والأحزاب العلمانية والذين خضعت لسلطانهم خلال ثمانية عقود الحالة التركية !

وقد يقول قائل أن ما دفع هؤلاء لهذا الموقف هو سلوك أردوغان الذي عليه ملاحظات شخصية ومواقف جانب فيها الصواب وتعامل فيها بشكل غير شوري بالذات مع شركائه الأوائل، فهب أن كل هذا صحيح –والأرجح أنه كذلك- لكنه لا يبيح لمسلم أن يضرب بعرض الحائط المعايير الأخلاقية والأهداف الرسالية من خلال وقوفه في حلف يمسك بأوله أبو لهب ويقبض على آخره حمّالة الحطب!

وهل يغيب عن عاقل نزيه أن الجماهير الغالبة التي تتحشّد خلف الحلف الجاهلي ومن يتزعمه في مواجهة أردوغان قد اتخذت هذا الموقف في سياق رفضها للتوجه الإسلامي ورفضها لمشروع العودة للجذور الثقافية ورفضها لاسترداد الهوية الإسلامية التركية ورفضها الانحياز لقضايا الأمة؟ ولم تجتمع تلك الحشود بسبب رفضها لأخطاء أردوغان الشرعية ! فكيف غاب هذا عن البروفيسور والمهندس والشيخ؟

وهل يتوقّع هؤلاء الذين خرجوا عن الطريق السويّة أن بديل أردوغان –رغم كل علله وسلبياته- سيكون أكثر عدلا ورأفة وأخوة وجدية في عمارة الأرض والإنسان من الطيب أردوغان ؟

فهل سيقبل المفكّر الإسلامي الكبير أحمد داوود أوغلو أن يبقى في حلف أوله أبو لهب وآخره حمّالة الحطب، ويبقى جالسا على طاولة لها ستة أبواب تفضي إلى جهنّم وبئس المصير؟ أم سينقذ نفسه من النار ويتراجع عن موقفه الحالي مدركا أن موقفه الشخصي قادر على قلب المعادلة وتحطيم حلم ومشروع الطاولة السداسية؟

إن موقف أحمد داوود أوغلو سيشكّل فارقة تاريخية تفضي إلى النعيم أو تنقل النّاس إلى الجحيم، وعليه أن يواجه الله قبل الأمة الإسلامية بموقفه الذي سيشكّل منعرجا في تاريخ أمة تعاني المظلومية وتواجه تحديات جهنّمية .

الصنف الثاني:

عالم لا يضرّ ولا ينفع، فليس له موقف تجاه القضايا الإسلامية السياسية، وقد اختار لنفسه النّجاة الدنيوية من مغارم المواقف السياسية، خلافا لمصالحه الشخصية التي استوجبت منه موقفا وسعيا وتزلّفا في سبيل حصوله على مكاسب مالية أو مكانة إعلامية أو حتى شقفة جنسية، وهذا الصنف لا يستحقّ الوقوف عنده، بل لا يذكره التاريخ، وبموته ورفعه لا ينقص شيء بين ظهراني المسلمين حيث سيكون نسيا منسيّا .

الصنف الثالث:

عالم يضرّ ولا ينفع، وهو الذي ينطلق من مقولات شرعية–وان كانت صحيحة- دون أن ينزلها تنزيلا صحيحا على واقع المسلمين اليوم، ودون النّظر في السيرة النبويّة ومراحلها المكيّة والمدنيّة ، ودون الأخذ بفهم العلماء المعتبرين في قضايا السياسة الشرعية والمستوعبين للسيرة النبوية، بل يكتفي بتقسيم الكيانات السياسية إلى دار إسلام ودار عهد ودار حرب ، غافلا عن أن هذا التقسيم الصحيح في شكله والأحكام التي تنبني عليه لا يمكن تنزيله تنزيلا شرعيا صحيحا في واقعنا اليوم،والذي ليس فيه دار عهد ولا حرب أصلا، وذلك بسبب غياب كلي للدولة والخلافة الاسلامية، فكيف يأمر بالأخذ بأحكام شرعية -وان كانت صحيحة- ولكنها في واقع مخالف ومتباين عنها !

وقد أضرّ هذا النوع من الدعاة والوعاظ والمشايخ –فهم ليسوا علماء حقا ولا يمتلكون الشروط العلمية التي تؤهلهم للفتيا- الناس بقصور فهمهم وغبش رؤيتهم وخلل محاكماتهم وشوّهوا الأفهام الإسلامية، فخلطوا الأمور في عقول المسلمين وأعموا بصيرتهم عن النظر  حتى غابت فيهم الفاعلية، ليصبحوا غثاء كغثاء السيل في معترك جميع تفاصيله تمسّ واقع الأمة والحالة الإسلامية!

وإذا سألت أحدهم عن الناصر صلاح الدين الأيوبي تراه يصرخ بأعلى صوته مكبّرا ومهلّلا ومبشّرا بقرب عودة النّاصر صلاح الدين، دون ادراك لسيرته وأنه كان وزيرا في الدولة العبيدية الفاطمية حيث بنى ركيزته ثم غيّر واقع مصر لصالح الأمة والدين، وأنهى الدولة الشيعية، وانتقل من مصر للشام ثم فتح القدس وأزال المحتلين وأنهى الحقبة الصليبية .

الصنف الرابع:

العلماء المتعصّبون في انتماءاتهم لجماعات إسلامية سواء أكانت سلفية أم اخوانية، وهم بلاشكّ من الكرام الذين يبذلون أوقاتهم ويستثمرون حياتهم في خدمة المشاريع الدعوية الإسلامية وما يحقق النّفع العام، لكن مواقفهم السياسية لا تبحث بعمق تنزيل الأحكام الإسلامية على واقع اليوم، بقدر ما يتّخذون مواقف نهائية انطلاقا من خلفيّة انتماءاتهم الحزبية سواء بالقبول أو الرّفض .

إشكالية هذا الصنف في أنه حتى لو أصاب الحق في المسألة إلا أنه يبقى محدود الأفق وجامد التفكير في النظر في المسائل الشرعية وواقع المسلمين، كما أن تواصله مع عموم جماهير الأمة يبقى محدودا ومحصورا  بالعموم بين الأتباع والمريدين والمقلدين، وهو ما يترك الكمّ العريض من الحالات الشعبية عرضة للتشويه والاستلاب من قبل العلمانيين والوطنيين والقوميين الذين يجيدون مخاطبة الجماهير وتأطيرها في أطر ذات خلفية معادية للدين ومنحازة للمنظومات الشرقية والغربية.

الصنف الخامس:

العلماء الربانيّيون الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وهم الذين يتصفون بخمس صفات رئيسية هي:

1- الفهم السليم للدين قرآنا وسنة وسيرة .

2- العقل الناضج في النّظر لواقع المسلمين من حيث توصيف وقائعه وتحدياته التوصيف السليم.

3- الدراية والاطّلاع على التاريخ المعاصر وتجاربه في القرن الأخير، وطبيعة مشاريع الأعداء القائمة فيه .

4- امتلاك الإرادة الحرة المستقلّة في خياراتهم ومواقفهم السياسية.

5- الشجاعة في النطق بما يؤمنون به، والشجاعة باتخاذ الموقف دون حسابات ضيقة ترتبط بهم.

إن هذا الصّنف من العلماء هو المعوّل عليه في النظر في أحوال المسلمين ونوازلهم بحيث تطمئن قلوب المؤمنين لرؤيتهم واجتهاداتهم سواء أكانوا أفرادا مستقلّين أم لجماعاتهم وهيئاتهم منتمين، بشرط تحقق الشروط الواجبة.

لا عصمة ولا قدسية للعبد الفقير إلى ربه رجب الطيب أردوغان:

رجل ككل البشر يعتريه ما يعتري البشر من قصور ونقص وشهوة وغفلة، ومن هنا تأتي قيمة البطانة الصالحة التي تحضّه على الخير وتردعه عن الباطل، وقد كثرت الشهادات والمواقف العملية والكلمات التي تشير إلى سويّة الرجل الشخصية، كما بينت مواقفه الإنسانية في العقد الأخير تجاه المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها أنه يمتلك خلق الأخوة الإسلامية، ويسعى حقّا _وفق الممكن والمستطاع والذي يقدر عليه- لخدمة قضايا الإسلام والشعوب الإسلامية سواء أصاب في اجتهاده أم أخطأ، إلا أنه لم يكن في يوم من الأيام متصادما مع التصورات والمصالح الإسلامية إلا فيما يتجاوزه تماما ولا يقدر عليه في المرحلة الحالية، وان بدا للنّاس أنه رئيس للجمهورية التركية ويملك صلاحيات عليّة، إلا أنه في الحقيقة يمارس السياسة في حقول من الألغام تستهدفه في كل زاوية وتقف بوجهه أمام كل خيار يتخذه، حتى أنه لا يحقق ما يصبو إليه إلا بعد أن يفكر ويمكر ويستخدم قواه ويخرج أظافره ويخدش من يتحدّاه، ومقصود الكلام أنه لم يتوانى عن تحقيق ما يمكن، بل إن ما أنجزه من مواقف عملية لا يقدر عليه كثير من القيادات الذين إن ملكوا الإرادة فإنهم لا يملكون الأدوات ولا يتقنون فن استخدام مخالبهم في عالم ليس فيه أي خلق ولا اعتبارات إنسانية .

ومع ذلك فلا مانع لدى النزيهين المتجردين والحكماء من استبدال رجب الطيب أردوغان بأي شخصية أفضل منه وأكثر سوية وتجيد دوره في معركته الثقافية وترفع السقف السياسي بشكل أعلى لتسترد الهوية، أما أن يكون البديل أبا لهب وحمّالة الحطب فهذا لعمري سخف واهتراء وسقوط في عقرجهنّم.

الخلاصة:

لاشك بأن الانتخابات التركية التي ستجري بعد عشرة أيام بتاريخ 14-5-2023 هي مفصل تاريخي له ارتداداته في عموم المنطقة وعلى معظم القضايا الإسلامية وليس محصورا بتركيا.

الأمر الذي يشير لحقيقة مفادها أن الانتخابات التركية ليس عملية سياسية مجرّدة بل هي معركة ثقافية يسعى أحد أطرافها لاسترداد الهوية الإسلامية التركية، فيما يتحالف الطرف الآخر ليشكل جبهة علمانية شرسة تريد أن تجتثّ كل منجزات العقود الأخيرة لتتلف كل الخطوات والمواقف والمنجزات التراكمية التي تصب في اتجاه إعلاء مكانة الدين في الحياة التركية، وتنسف مفهوم الانتماء للأمة الإسلامية، وتنهي التفاعل والتعاطف مع قضاياها والمظلومية .

لقد تحدّث كلّ طرف من الأطراف التركية المتنافسة بما يؤمن به ثقافيا وبما يستهدفه سياسيا علانية ولم يبقه مكتوما ولا سرّا، الأمر الذي يوجب على كلّ فرد مسلم وكل عالم رباني وكل جماعة دعوية أو منظومة اجتماعية أو اقتصادية أن تدفع نحو ما يجلب الخير ويقويه ويستبعد الشر ويضعفه .

ومن المفزع اليوم في الواقع الإسلامي أن جميع الأفراد سواء أكانوا عوامّا أو من العلماء، من المستقلّين أو المنتمين للجماعات والحركات، يدركون مصالحهم الفردية والجماعية فيبذلون كلّ جهد واجب وزيادة عليه لكي لا تفوتهم تلك المصالح، ويدركون كل المفاسد والشرور التي قد تصيبهم على مستوى الأفراد أو الهيئات أو الجماعات فيتّخذون التدابير اللازمة ليستبعدوا أدنى شرّ ومفسدة ودون مراجعة أحد، أقول من المفزع والمؤسف أن يصاب البعض بحالة التيه أو السلبية عندما يتعلّق الأمر بمصالح عموم المسلمين وقضايا الأمة العادلة، بل وحين يتعلّق الأمر بالأهم وهو معركة استرداد الهوية.

 أما ان كان للحكاية بقية وأحكام شرعية توجب الامتناع عن المشاركة والمساندة والتصويت فهذا ما يحرم كتمانه، فان كان ذو دلالة شرعية مراعية لواقع الزمان والمكان فان علماء المسلمين لن يجتمعوا على ضلالة ولن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا، فليتفضل من لديه مقولة وجيهة وشرعية معتبرة .

ومن نافلة القول أن الغرب جميعه إضافة للأنظمة العربية والأحزاب والحركات العلمانية في مشارق الأرض ومغاربها تتحشّد ضد شخص الرئيس رجب الطيب أردوغان –دون اهتمام ولا اطّلاع على أخطائه الداخلية ولا الخارجية- سعيا لإسقاطه ليكون مرسي جديد في الديار التركية فتعاد الهيمنة الغربية المطلقة على تركيا كما حصل في الديار المصرية .

واذا كانت القضية الفلسطينية والثور السورية والعراقية واليمينة والليبية، والقضايا العادلة في عموم البلاد العربية والإسلامية قد تراجعت بعد الانقلاب على الرئيس الشرعي مرسي الشهيد -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا- ، فان الانقلاب السياسي الذي يحيكه الغرب والشرق -مستخدما التيوس التركية وحالة الفاقة الاقتصادية والرعونة الشبابية- مستهدفا إنهاء حقبة أردوغان سينعكس وبالا على جميع القضايا والشخصيات الحرة والإسلامية، ويبتلع المنجزات التي تحقّقت خلال عقدين واستفادت منها عموم القضايا الإسلامية، لتصبح أكوام الجهود التي بذلت والانجازات التي تحققت حطبا في مشروع المحرقة العلمانية .

ومن عدل الله سبحانه –وهو عالم الغيب ومقدّر الأقدار والذي يحيط بكل شيء- أنه جعل الحياة البشرية امتحان تعيش تفاصيله كلّ البشرية، وزادها علما بأن كشف لها مصير من سبقها من الطائعين والعصاة، لتختار بنفسها كما تريد أن تحيا وفق سنن الله التي لا مبدل لها.

واليوم يختار الأتراك بأنفسهم شكل الحياة التي يريدونها، والتي تنعكس ارتداداتها السياسية على كل الدول العربية والقضايا الإسلامية، وذلك لأن تركيا الحالية وفي ظلّ أردوغان أصبحت الرقم الصّعب في المعادلة والمشاريع الدولية.

اللهم فإننا ونحن نشهدك أننا نسعى في طريق التمكين لدينك واسترداد دولة المسلمين التي تنصر المستضعفين وتزيل الظلم وتنهي العدوان وترفع شأن أمتك لنعمر الأرض وفق شرعك وسيرة أنبيائك، نرفع أكفّ الضراعة لك وحدك ونسألك أن تحقق لتركيا والعالم الإسلامي ما يبني الخير فيها ويهدم الشرّ الذي تكالب عليها وأحاط بها من الشرق والغرب، اللهم فكن لعبدك رجب الطيب أردوغان ناصرا وهاديا ومعينا، اللهم وردّ من ضلّ من إخواننا إلى دينك ردّا جميلا، والحمد لله رب العالمين .

ما قلته من حق فمن الله وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله طالبا النصح والهداية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق