أحكام التحالف والاستعانة.. مع الإسقاط على المقاومة (1-2)
د. عطية عدلان
أستاذ الفقه وأصوله، ورئيس مركز محكمات للدراسات والبحوث – اسطنبول.
بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما حكم التحالف العسكريّ والسياسي القائم اليوم بين المقاومة الإسلامية في فلسطين وبين إيران وأذرعها في المنطقة كالحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان؟ هل هو جائز أم غير جائز؟ وإذا جاز فما هي شروطه التي يجب توافرها والتي يتوقف الجواز عليها؟
هذا هو السؤال الذي يجب أن تجيب عليه هذه الورقة، وإذْ نرمي إلى بيان الحكم الشرعيّ وحسب فإنّنا نعلن أنّ هذا البيان – على فرض أنّه خالف المقاومة أو اختلف معها – لا يعني التقليل من قدرها، ولا تجاهل عظمة الإنجاز الذي حققته، بل لا ينفي كونها صارت للأمة الإسلامية ولأجيال المسلمة قدوة تحتذى، وسوف نحاول – ما استطعنا – ألا يحملنا حبنا للمقاومة وإجلالنا لها على أن نميل عن الحكم مجاملة لها؛ فإنّ التجرد عزيز.
معنى الحلف لغة واصطلاحا
الحِلْف لغة: التعاهد والتعاقد؛ من قولهم: حالف فلان فلاناً إذا عاهده وعاقده، وتحالفوا: تعاهدوا([1])، ويقال: حالف فلان فلاناً فهو حليفه وبينهما حِلْف لأنهما تحالفا الأيمان أن يكون أمرهما واحداً بالوفاء([2])، ومعناه: المعاقدة والمعاهدة على التناصر والتساعد والاتفاق([3])، وأصل الحلف أنهم كانوا يتعاقدون ويتحالفون على نصر بعضهم بعضا ويضعون أيديهم جميعا في جفنة فيها طيب أو غيره([4]).
أمّا في الشرع فلا يبعد معناه عن معنى الحلف في اللغة، فهو: «المعاهدة على التناصر والتساعد والاتفاق»([5])، وأما في علم السياسية: فإنّ «الأحلاف معاهدات تحالف ذات طابع عسكري تبرم بين دولتين أو أكثر للتعاون في تنظيم دفاع مشترك بينهما»([6])، وفي القانون الدولي: «الحلف في القانون الدولي والعلاقات الدولية هو علاقة تعاقدية بين دولتين أو أكثر يتعهد بموجبها الرفقاء المعنيون بالمساعدة المتبادلة في حالة الحرب»([7])، ومن الواضح أنّ تعريف الحلف في الشرع أوسع وأشمل.
تصنيف المسائل القديمة وتحرير النازلة المعاصرة
لا خلاف بين الفقهاء في أن التحالف بين أفراد المسلمين إذا كان على أن ينصر كل من الطرفين الآخر على الخير والشر، وعلى الحق والباطل، أو كان على أن يرث كل منهما الآخر دون ذوي قرابته، فإن ذلك الحلف يكون باطلا، أما التحالف بين أفراد المسلمين على الخير وعلى النصرة في الحق وعلى العقل وعلى التوارث لمن لا وارث له؛ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً»([8])، وقال: « أَوْفُوا بِحِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ – يَعْنِي الْإِسْلَامَ – إِلَّا شِدَّةً، وَلَا تُحْدِثُوا حِلْفًا فِي الْإِسْلَامِ»([9])، ِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «قَدْ حَالَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي»([10])، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم([11]): بمقتضى حديث “لا حلف ي الإسلام”، وقال جمهور الفقهاء([12])، بمقتضى حديث أنس، تلك هي الصور التي تتناولها الفقهاء، ونحن إن تأملنا تلك المسائل التي بحثها الفقهاء لن نجد فيها ما يمكن أن نقيس عليه النازلة المعاصرة.
لذلك سوف نبحث المسألة بحثا مستقلا في ضوء الآيات والأحاديث والمقاصد العامة للتشريع، فما حكم التحالف بين قوة إسلامية (دولة/حزب/تنظيم) وقوة أخرى غير إسلامية (دولة/حزب/تنظيم)، مع الوضع في الاعتبار أنّ إيران وأذرعها ليست قوة إسلامية، وإنّما هي قوة غير إسلامية؛ لأنّنا لا نتحدث هنا عن المذهب الشيعي ولا عن الشيعة، حتى نقول إنّها قوة إسلامية وإن كانت بدعية، وإنّما نتحدث عن نظام له مشروع مناهض للمشروع الإسلاميّ، هويته شيء مختلف تمامًا عن هوية الأفراد القائمين عليه، والذي يتنوعون ما بين شيعيّ مبتدع فقط، وشيعيّ باطنيّ غالي، وآخرين ملاحدة يقولون بأقوال كفرية ويمارسون أفعال كفرية، وربما قال البعض – وللقول وجاهة – إنّ الوصف ذاته ينطبق على كثير من الأنظمة العربية الجمهورية منها والملكية؛ لأنّها أنظمة بينها وبين الشعوب فصام تام، ونقول إنّ هذا لا يضرّ بقضيتنا، فإن كان قولهم هذا صحيحًا سحب الحكم عليه؛ فالحكم قاعدة قانونية مجردة.
حكم التحالف بين قوة إسلامية وقوة غير إسلامية
الذين عرضوا لهذه المسالة – فيما أعلم – قليلون جدا، لكنها طُرقت على أنها مسألة خلافية، البعض مال فيها إلى الجواز بشروط، والبعض الآخر قال بالمنع إلا للضرورة.
مأخذ القول بالجواز
يمكن أن يُسْتَدَلَّ على الجواز بما رواه البيهقي وغيره، وماورد في كتب السير: من محالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم لخزاعة عقب عهد الحديبية([13]). وبأنّ الصحيفة التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة تضمنت الآتي: … «وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم» … «وإن بينهم النصر على من دهم يثرب» «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين» … «وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم»([14])، وهذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام اتفاقية دفاع مشترك.
كما يمكن الاستدلال بحديث جبير بن نفير أنه سأل ذى مخبر عن الهدنة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا وَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ»([15])، وفي رواية: «سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ ثُمَّ تَرْجِعُونَ، حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ فَيَقُولُ: غَلَبَ الصَّلِيبُ فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَدُقُّهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَتَجْمَعُ لِلْمَلْحَمَةِ»([16])، قال الشيخ محمود شلتوت: «وفي المعاهدة على التحالف الحربي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ستصالحون الروم صلحا…»([17]).
كما يمكن أن يقال: إنّ الحلف إذا كان قائما على التناصر بالباطل وعلى البغي والعدوان كان محرما؛ لأجل ما قام عليه مما يخالف تعاليم الإسلام، أما إذا كان قائما على الدفاع المشترك وعلى نصر المظلوم وعلى التأسي في المعاش فليس حرامًا؛ لأن الحرمة لا تتعلق بذات التحالف وإنما تتعلق بما يقوم عليه مما لا يتفق مع الإسلام؛ فإذا لم يكن قائما على ما يخالف الإسلام فلا وجه للقول بالتحريم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معجباً أَيّما إعجاب بحلف الفضول، وهو حلف قام بين كيانات غير إسلامية، لكن لأنه قام على خير وعدل أثنى عليه رسول الله وأكد أنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب، وقال: «شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي، وَأَنَا غُلَامٌ فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ»([18]).
مأخذ القول بالمنع
ويمكن أن يستدل على المنع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ»([19]) وقوله «وَلَا تُحْدِثُوا حِلْفًا فِي الْإِسْلَامِ»([20])، فالحديث الأول رواه جبير بن مطعم وهو ممن أسلموا بعد الفتح، والحديث الثاني قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فيكون الحديثان ناسخين لما مضى من الأحلاف بما فيها التحالف مع خزاعة ومع اليهود، وقوله وَأَنِّي أَنْكُثُهُ «لا حلف في الإسلام»، نكرة في سياق النفي؛ فيعم.
كما يمكن أن يستدل بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستعانة بالمشركين، وذلك في أحاديث كثيرة، منها قوله: «فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ»([21])، وقوله: «فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ»([22])، وقوله: «لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ»([23])، والاستعانة بالمشروع الإيراني مثله، ووجه الدلالة في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستعانة بالمشركين في القتال، والحلف يترتب عليه استعانة الحليف بحليفه وقت القتال؛ فإذا كانت هذه الاستعانة ممنوعة فيلزم من ذلك أن يكون التحالف أيضا ممنوعا.
كما يمكن أن يقال: إنّ التحالف مع القوى غير الإسلامية يؤدي إلى تدعيم كيانات محاربة للإسلام([24])، وقد وقفت الدول العربية، في الماضي بجانب الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا؛ فكانت النتيجة انتصار الحلفاء الذين تضخمت قوتهم بعد الحرب وكانت ولا تزال وبالاً على المسلمين، وقد كان من الفقه والوعي ترك قوى الشر يأكل بعضها بعضا، كما يستدل بأن التحالف يؤدي في كثير من الأحيان إلى القتال تحت رايات غير إسلامية([25])، وهذا من الولاء لأعداء الله تعالى وهو منهي عنه في كثير من الآيات والأحاديث، ويستدل كذلك بأنّ التحالف قد يفضي إلى الدخول مع هؤلاء في حرب غير إسلامية وغير عادلة([26])، كما يؤدي إلى مفاسد شرعية كثيرة منها الخضوع والركون إليهم، والموالاة، والمناصرة لهم، وكل هذا منهى عنه، قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود: 113]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1].
المناقشة والترجيح
أولا: اعْتُرِضَ على استدلال المجيزين بقصة تحالف خزاعة مع رسول الله بأن خزاعة أسلمت سرا([27])، يدل على ذلك قول عمرو ابن سالم: «ثم أسلمنا ولم ننزع يدا» وقوله: «فقتلونا ركعا وسجدًا»، ويمكن الاعتراض على استدلالهم بالتحالف مع يهود بأنه لم يكن تحالفاً بالمعنى الحرفي للتحالف؛ لأن اليهود بالمدينة كانوا من رعايا الدولة الإسلامية، ومن سكان دار الإسلام المستوطنين لها، ويحملون التابعية لدار الإسلام، فالاتفاق معهم على جزئية الدفاع عن المدينة هو مما يستوجبه الانتساب لدار الإسلام.
ثانيا: الاستدلال بحديث « ستصالحون الروم» يمكن الاعتراض عليه بأن هذا الحديث مجرد إخبار بما سيجري للأمة الإسلامية في عهد من عهودها، ولا يشتمل على حكم شرعي؛ لأن الخبر ليس حكما إلا إذا اقترن بما يجعله خبرا في معنى الحكم.
ثالثا: يمكن الاعتراض على استدلال المجيزين بحديث حلف الفضول بأن هذا الحلف كان في الجاهلية على أمور هي عادة من واجبات السلطة المركزية التي لم تكن موجودة آنذاك، فقيام أطراف هذا الحزب على مثل هذه الأمور لا يعتبر من قبيل التحالف بين كيانات سياسية أو دول، وإنما يعتبر من قبيل تكوين جبهة سياسية تجمع بين قوى سياسية داخل كيان واحد، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم سببه أن هذا التحالف قام على أمور كلها فاضلة وكلها مستحسنة في العقول، وأما عدم رغبته في نكثها فلأنها عهود وعقود قامت على أمور لم يأت الإسلام بنقضها ولا تحريمها، فهي باقية على الأصل العام وهو الوفاء بالعقود، ولكن نظراً لقيام الدولة الإسلامية الجامعة للشتات القائمة بالجهاد والحسبة لم تعد هناك حاجة إلى قيام مثل هذا الحلف من جديد فنهى عن إحداث الأحلاف.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت، فلعله امتناع لامتناع؛ على أساس أنه من المحال أن يُدْعَي لمثله في الإسلام بعد انعدام الحاجة إليه بقيام الدولة الإسلامية الجامعة، وبعد نهيه عن التحالف، ومنعه من كل تحالف جديد؛ وهذا من أساليب البلاغة النبوية الرائعة، للمبالغة في الثناء على هذا الحلف الفاضل».
رابعا: أن ادعاء المانعين نسخ التحالف بحديث: «لا حلف في الإسلام»، يمكن الاعتراض عليه بأن مجرد التأخر لا يكفي لتحقق دعوى النسخ؛ حتى يمتنع الجمع، فإن أمكن الجمع لم يصح المصير إلى اعتقاد النسخ، والجمع ممكن بحمل كل حكم على حال من أحوال الأمة الإسلامية، فيقال إن مسألة التحالف من المسائل الخاضعة لقواعد السياسة الشرعية، ومن الأمور التي تتغير بتغير العوائد ولا ينكر تغير حكمها بتغير الأزمان، ففي حال ضعف الأمة واحتياجها إلى الحلفاء، يجوز لها التحالف بشروط تضمن غلبة المصلحة على المفسدة، وفي حال قوة الأمة وقدرتها على مواجهة التحديات منفردة لا يجوز لها التحالف؛ لأنه لا يخلو من مفسدة، وتحقق المصالح دون الوقوع في مفاسد إذا قوبل بتحققها مع وجود مفاسد ولو مرجوحة تعين المصير إليه ما دام ذلك بالإمكان.
خامسا: استدلال المانعين بأحاديث تحريم الاستعانة بالمشركين يمكن الاعتراض عليه بمقابلته بأحاديث أخرى في نفس الباب تدل على جواز الاستعانة بالمشركين على حرب المشركين، وهي الأحاديث التي استدل بها العلماء القائلون بجواز الاستعانة بالمشركين على قتال المشركين بشروط منها ألا تكون لهم شوكة وألا يكون حكم الشرك ظاهرا، ويمكن أن يقال إن تعارض هذه النصوص إذا أمكن حل عقدته بالجمع لم يصح المصير إلى الترجيح؛ حسب ما هو مقرر في الأصول، والجمع ممكن بحمل الجواز على حال وحمل المنع على حال، فتكون الاستعانة جائزة في حال الحاجة إليها وعدم الخوف من ظهور حكم الشرك أو ازدياد شوكة المشركين، ويكون المنع في الحال المحذورة تلك.
سادسا: استدلال المانعين بكون التحالفات تجر إلى مفاسد وشرور منها الدخول في حرب غير عادلة أو دعم كيانات كافرة أو القتال تحت راية غير إسلامية أو موالاة أعداء الله، وغير ذلك، يمكن الاعتراض عليه بأن هذه المفاسد محتملة، ولكنها غير لازمة، وغير مستمرة، وبالإمكان تلافيها بوضع شروط للتحالف تجعل المسلمين في موقف غير مخالف لعقيدتهم ولا لمنهجهم في الحياة؛ كأن تشترط القوة الإسلامية أن تدخل الحرب تحت راية متميزة وغير مختلطة براية الأعداء…. وهكذا.
الترجيح
من الواضح أنّ اعتراضات المانعين على أدلة المجيزين غير ناهضة لدفعها؛ فالقول بالنسخ لا يصح لمجرد تأخر حكم على آخر زمانًا، حتى يثبت التعارض التام بين الحكمين من كل وجه ويمتنع بذلك الجمع بينهما، والجمع ممكن كما أسلفنا، والقول بأنّ خزاعة أسلمت إن صحّ فإنّ إسلامها لم يكن قطعا قبل إبرام الصلح، وإنّما كان قبل إغارة بكر عليهم واستغاثتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي أنّهم حال إبرام عقد الحلف كانوا على شركهم، وحديث “ستصالحون الروم ..” خبر نعم، لكنّ الخبر ليس معه أيّ قرينة تشير للمنع والتحريم أو حتى الكراهة؛ فلو كان ممنوعًا لنبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ إذ يستحيل عليه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والذي أراه – في ضوء ما سبق – راجحا هو أن تحالف القوى الإسلامية مع قوى غير إسلامية وكذلك استعانتها بالمشركين على قتال المشركين من المسائل الخاضعة لقواعد السياسة الشرعية، ومن الأمور التي تختلف باختلاف العوائد؛ فلا ينكر تغير حكمها بتغير الأحوال والأزمان، وهي من الأحكام التي تدور على علة توجد بوجودها وتنتفي بانتفائها.
فالتحالف وكذلك الاستعانة من الأمور التي لا يقال فيها إنها مباحة بإطلاق أو محرمة بإطلاق أو واجبة بإطلاق؛ لأنها لا يتعلق بذاتها الحكم بالتحريم أو الإباحة أو الوجوب أو غيره، وإنما يتعلق الحكم بما تفضي إليه من نتائج وما يترتب عليها من منافع أو مضار، ولأن ما يترتب عليها من منافع أو مضار ليس ثابتا ولا مستمرا ولا لازماً حالة واحدة لا ينفك عنها ولا يتحول.
لذلك وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن إحداث حلف في الإسلام، ويثنى على حلف كانت كل عناصره من قوى الشرك؛ ثم يؤكد أنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب؛ مما يدل على أنَّ مجرد التحالف ليس هو الذي يتعلق به التحريم أو الإباحة وإنما يناط الحكم بالمصالح أو المفاسد التي قد تنجم عن هذا التحالف.
وهذا هو الذي تقضي به الحكمة السياسية، فإن اختيار قوة ما من القوى الإسلامية أو غيرها لطريق الأحلاف ليس مسألة مبدأ وإنما مسألة ملاءمة؛ فالدولة أو ما شابهها من القوى تستغني عن الأحلاف إذا اقتنعت بأنها من القوة بحيث يمكنها الصمود أمام أعدائها دون دعم أحد، أو أن أعباء الارتباطات الناجمة عن الأحلاف تفوق حسناتها المرتقبة، والعكس بالعكس.
ولقد فهم العلماء من مجموع الأحاديث أن العبرة بالأمر المتحالف عليه لا بذات التحالف، يقول الإمام الجصاص: « قيل إن الحلف كان على منع المظلوم، وعلى التأسي في المعاش، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب؛ لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك، وهو شيء مستحسن في العقول، بل واجب فيها قبل ورود الشرع؛ فعلمنا أن قوله: «لا حلف في الإسلام» إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة »([28]).
والقول بأن حكم التحالف يخضع لقواعد السياسة الشرعية يساوي القول بأنه حائز بشروط؛ لأنه إن تحققت شروط الجواز فقد امتهد السبيل للقول بالجواز، وإن لم تتحقق أغلق الباب دون القول بالجواز، فالشروط هي التي تحدد الحكم وهي التي تبرز قواعد السياسة الشرعية التي يخضع لها الحكم.
(نتابع بقية الدراسة في المقال القادم)
(*) د. عطية عدلان، أستاذ الفقه وأصوله، ورئيس مركز محكمات للدراسات والبحوث – اسطنبول.
الهوامش:
([1]) المعجم الوسيط (ص192).
([2]) لسان العرب (2/554).
([3]) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/424).
([4]) فتح الباري (1/107).
([5]) النهاية في غريب الحديث والأثر (1/424)، وانظر فيض القدير (3/80)
([6]) القاموس السياسي: أحمد عطية الله (ص27-28).
([7]) الأحلاف والتكتلات في السياسة العالمية، د. محمد عزيز شكري (ص7).
([8]) رواه مسلم ك فضائل الصحابة باب مؤخاة النبى rبين أصحابه y برقم “4602”(ج2ص3209)
([9]) إسناده حسن: رواه والترمذى في السنن برقم”1510″(ج3ص1457)، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، والإمام أحمد في المسند برقم”6817″
([10]) متفق عليه: رواه البخاري برقم”5648″(ج10ص4600)، و مسلم برقم”4600″(ج7ص3209).
([11]) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية . مجموع الفتاوى ابن تيمية (35/92-98).
([12]) ر: الموسوعة الفقهية الكويتية . مجموع الفتاوى ابن تيمية (35/92-98).
([13]) صحيح، رواه البيهقي في الصغرى ك الجزية باب نقض أهل العهد العهد برقم”1686″(ج4ص1601)، وأورده ابن جرير الطبرى في تاريخه برقم”748″(ج4ص1631)، وأبو نعيم في دلائل النبوة برقم”4627″(ج7ص3065)، وابن الأثير في أسد الغابة برقم”1309″(ج11ص5427) .
([14]) السيرة النبوية (1/502-504)، البداية والنهاية (3/225-226).
([15]) صحيح: رواه أبوداود في السنن برقم”2390″، وابن حبان في صحيحه برقم”6864″ والطبرانى في الكبير برقم”4112″ وصححه الألباني
([16]) صحيح: رواه أبوداود في السنن برقم”3744″ وابن حبان في صحيحه برقم”6864″ والطبرانى في الكبير برقم”4112″ وصححه الألباني
([17]) الإسلام عقيدة وشريعة (ص476).
([18]) صحيح: رواه أحمد في مسنده برقم (1655) وابن حبان في صحيحه برقم (4373) والحاكم في المستدرك برقم (2870) وقال صحيح الإسناد وصححه الذهبي
([19]) صحيح: سبق تخريجه.
([20]) إسناده حسن: سبق تخريجه .
([21]) صحيح: رواه النسائى في الكبرى برقم”8576″، والإمام أحمد في المسند برقم”23830″وابن حبان في صحيحه برقم”4829″وصححه الألباني.
([22]) حسن: رواه الإمام أحمد في المسند برقم”15449″ وابن أبى شيبة في المصنف برقم”32461″ وأبونعيم في الحلية برقم”1305″ وحسنه الألباني.
([23]) (حسن) رواه النسائى في الصغرى برقم”5142″(ج7ص3313)، والبيهقى في الكبرى برقم”18790″(ج28ص13537)،
([24]) ر: العلاقات الدولية في القرآن والسنة (ص354)، وما بعدها.
([25]) ر : السابق (ص354)، وما بعدها.
([26]) ر: الاستعانة بغير المسلمين، د. عبد الله الطريقي (ص249-251).
([27]) ر: الاستعانة بغير المسلمين، د. عبدالله الطريقي (354)، وما بعدها.
([28]) أحكام القرآن للجصاص (2/416) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق