الثلاثاء، 9 يناير 2024

تجربتي في القراءة [1]

تجربتي في القراءة [1]



التجارب الإيجابية في القراءة

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
إنها أمسية جميلة، وموقع جميل أيضاً؛ متخصص في تدريب الناس على القراءة، وحفز العقول إلى الاطلاع واستجلاب المعرفة، قبل شهر تقريباً وفي شهر رمضان المبارك كان عندي حلقة عن القراءة في برنامج حجر الزاوية، ورأيت ضمن الحديث عن الحوافز للقراءة: الإشارة إلى بعض التجارب الإيجابية، هناك تجارب رائعة وعظيمة جداً في العالم الغربي، ربما أشرت إلى تجربة في مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية، كيف إن رواية عن قتل الطائر المحاكي لإحدى الكاتبات الأمريكيات، كيف يطبع منها ثلاثين مليون نسخة، وتوزع في كل مكان، وتكون حديثاً للناس في المجالس والمقاهي والمدارس، ووسائل الإعلام، بل يقوم عدد من المحامين بتطبيق هذه الفكرة؛ التي هي فكرة محاربة العنصرية، وأن العدالة يجب أن تكون فوق اللون، وفوق العنصر أو الجنس.
ولكن أيضاً نريد دائماً أن نضرب الأمثلة الواقعية بمجتمعنا؛ لئلا نتحول فقط إلى مستلبين؛ ننظر إلى العالم الآخر بإيجابية، وننظر إلى أنفسنا بسلبية، فكان من التجارب الجميلة التي أشرت إليها تجربة هذه المكتبة المباركة والقائمين عليها جزاهم الله كل خير، في عدد من المشاريع الوطنية التي منها تجاربهم مع القراءة، والتي أعتقد أن جلستنا اليوم هي استكمال لعدد يمكن ستة لقاءات سابقة مع عدد من رجال الأدب والفكر والثقافة في المجتمع، والذين من خلالها عرضوا لي تجاربهم.
نتحدث اليوم عن إن العالم العربي يعيش أزمات منها: أزمة القراءة، فهناك مشكلة كبيرة جداً، ومقارنة غير عادلة سواء في عالم القراءة؛ حيث إن نسبة القراء العرب بالنظر إلى القراء في العالم الغربي نسبة ضئيلة جداً، أو بالنسبة للنشر أيضاً في حجم ما ينشر، أو بالنسبة للعادات المختلفة ما بيننا وبين الشعوب الأخرى.


مقدمة في مفهوم القراءة

أريد أن أشير إلى مقدمة بسيطة فيما يتعلق بمفهوم القراءة؛ لأنه ربما يبدو للبعض أننا نعني بالقراءة دائماً هو عملية أن يمسك الإنسان كتاباً ويقرأه، ولا شك أن هذا نمط من أنماط القراءة، لكن هناك مفهوم ربما يكون أكثر تركيباً في موضوع القراءة، القراءة تعني: فك الرموز، وهذا معناه: أنه لابد يكون عند الإنسان معرفة بهذه الرموز، سواء كان هذا الرمز حرفاً يفكه، أو قد يكون الرمز صورة، وثقافة الصورة اليوم ثقافة مسيطرة من خلال التلفزيون.. من خلال الإنترنت، انظر الآن حجم الدخول على اليوتيوب في الإنترنت؛ تأثير الصورة ضخم جداً وهائل، وأكبر بكثير من تأثير الحرب، وهو وسيلة من وسائل الإيضاح كما هو معروف..
قد يكون هذا الرمز صوتاً، قدرة الإنسان على تمييز الأصوات، وعلى معرفة إن كان هذا المتحدث ساخطاً أم راضياً، مرتاحاً أو منزعجاً، فالصوت أيضاً رمز؛ بل الجسد كله هو عبارة عن رمز يمكن للإنسان أن يحلله، وهذا قدر من الوعي والذكاء أن يلاحظ الإنسان من حوله، ويستطيع أن يقرأ حركات الجسد ونظرات العين، بعض العيون تكون عيوناً منطفئة، وبعضها على العكس تكون العين معبرة، وكما يقول شاعرنا العربي:
والنفس تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديهاوكذلك حركات الجسد كله، أيضاً الرءوس قد تكون أشياء ملموسة مثلما نجده في طريقة بريل، وقد تكون غير ذلك من الأشياء.
إذاً: القراءة عملية معقدة تبدأ بمعرفة هذه الرموز، والقدرة على تحليلها، ثم تنتقل إلى مسألة الاستيعاب والفهم لهذه الرموز، ومطابقتها بالواقع بحيث يكون الفهم فهماً صحيحاً.
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم


مشكلات القراءة

فإحدى المشكلات في القراءة عندنا أن القارئ ربما يتكئ على انطباعه أكثر مما يتكئ على معلومات حقيقية، وأنا هنا أتكلم عن ملاحظة: أن الكثير من الناس ثقافتهم ثقافة الخطافين، بمعنى: أنه قد يختطف المعلومة دون أن يتأكد منها، وهذا ناتج عن السرعة، وعدم الصبر، عندنا مثل يقول: (المكتوب يقرأ من عنوانه)، هذا ليس دائماً؛ لأن هناك أيضاً في مقابل ذلك خداع العناوين، وقد تقرأ عنواناً ويكون المضمون مختلفاً، واليوم الناس أصبحوا يتفننون في أن يكون العنوان مثيراً ليستجلبوا القراء، ولذلك كم من الناس من يقع في سوء الفهم وعدم الاستيعاب بسبب أنه لم يقرأ قراءة صحيحة، وإنما خطف الموضوع؛ قرأ السطر الأول أو قرأ بعض كلمات أو سمع بضعة أسطر، ثم من خلالها حكم، فأين نفسية العالم الصبور الذي يحاول أن يصل إلى المعلومات والحقائق.


أدوات المعرفة

كذلك تكامل هذه المعلومات وهذا الاستيعاب الذي حصل عليه الإنسان مع معلومات سابقة؛ لأن الثقافة والمعرفة والقراءة هي عبارة عن تراكم، ولذلك من جودة القراءة أن تكون المعلومات التي حصلت عليها تتواكب وتتكامل مع معلومات سابقة موجودة عندك، فتضيف إليك جديداً، وتعدل معوجاً، وتثير تساؤلاً، وقد تثير إشكالاً في بعض المقررات المسلمة عندك، وكثير من الناس قد يتلقى في طفولته معلومات، فإذا كبر بدأت الأسئلة تدور حول هذه المعلومات بحيث يستطيع أن يميز منها ما كان صواباً أو غيره.

عملية التخزين في الذاكرة

كذلك عملية التخزين في الذاكرة، وهذه العملية ربما الكثير منا يظلمون أنفسهم من خلال اعتقادهم بأنهم يقرءون وينسون، بينما الواقع أن هناك احتفاظاً مباشراً بمعنى: أن الإنسان يستطيع أن يستجلب المعلومة، وهناك في اللاوعي ركام هائل جداً من المعلومات التي قرأها الإنسان تظهر ما بين آونة وأخرى، وسوف أشير بعد قليل إلى تجربة عملية شخصية بالقراءة؛ ليستفيد الإنسان بموجبها من هذا المخزون الهائل الموجود في لاوعي الإنسان، والذي قد يكون حصل عليه بوسائل قراءة مختلفة، ليس بالضرورة قراءة كتاب، بل الحياة نفسها كلها قراءة، يعني: كوننا نتكلم عن قراءة الجسد أو قراءة الصوت أو قراءة الرمز أو قراءة الصورة، فهناك قراءة الحياة.. قراءة الناس.. قراءة التجارب الضخمة.


النقد والقدرة على الفرز

هناك أيضاً النقد، والقدرة على الفرز، وهذه مهمة جداً؛ لأن من المشكلات الكبيرة: أن يقع القارئ في قبضة المؤلف، بعض المؤلفين يكون قوياً؛ قوياً في أسلوبه.. قوياً في معلوماته.. قوياً في قناعاته، فإذا تكلم أطاح بالخصوم وحشد الأدلة، وسرد بياناً لغوياً عظيماً.
يعني مثلاً: الإمام أبو محمد بن حزم، لما يقرأ طالب مبتدئ كتاب المحلى ويجد هذا الثراء، وهذه القوة، وهذه الثقة المفرطة بالنتائج التي توصل إليها، وهذا الهجوم على الخصوم، فإن الطالب في كثير من الأحيان قد يستسلم لهذه الروح دون أن يملك قدرة على الاستقلالية، وعلى الامتناع أمام هذه الأشياء، وحتى لو كان ربما لا يستطيع أن يجيب، لكن أن يعود الإنسان نفسه ألا ينخرط في جو من الاستسلام مع ما يقرأ، وأن يكون مستلباً، وإنما من البداية يحاول أن يركز شخصيته، وأن يطرح من الأسئلة بقدر ما يتلقى من الإجابات.


توظيف المعلومات التي حصل عليها الإنسان

كذلك عملية الاتصال وتوظيف هذه المعلومات وهذه القراءة التي حصل عليها الإنسان، وبذلك يتبين أن مسألة القراءة مسألة في مجموعها ومجملها مسألة مركبة، وفيها قدر من التعقيد، وقدر من الثراء، وقدر من التنوع، وأن أوعية القراءة ليست فقط هي الكتاب، يعني: اليوم كثير ما يتكلم الناس عن الإنترنت أو القنوات الفضائية أو الإذاعة أو الصحافة، وأنها خطفت الكتاب، هذا الكلام قد لا يكون مسلماً؛ لأسباب منها:
أولاً: أن هذه الأشياء هي وسائل أحياناً لترويج ما في الكتاب، أو لترويج المعرفة، فهي تعزز جانب الثقافة لو أحسنا توظيفها واستخدامها، وكذلك كثير من الكتب أصبحت متاحة للناس من خلال هذه الوسائل.
ثم إن التجارب والإحصائيات أثبتت أن أكثر الناس قراءة هم الشباب في العالم كله، وهم أيضاً أكثر الناس إقبالاً على هذه الأدوات، إذاً: الشباب هم أكثر الناس حيوية ونشاطاً في استقبال المعلومات، نعم يحتاجون إلى التثبت؛ لأن مثلاً: الإنترنت أو الفضاء عالم مفتوح، وفيه حقائق، وفيه أوهام، وهناك موسوعات كاملة كما تعرفون مثل موسوعة ويكيبيديا هي: عبارة عن موسوعة افتراضية، أحد الشباب بعضكم يعرفه.. شاب هنا موظف في الرياض دخل في موسوعة ويكيبيديا، وكتب عن نفسه أنه الإمام فلان، وأنه دخل البلد الفلاني فاتحاً عام كذا، ودانت له البلاد ثم أخضع البلاد المجاورة لها، وجاءته القبائل طوعاً وسلمت له وبايعت، ونشر العدل.. وذكر قصة طويلة جداً وبعد فترة لم يتم الاعتراض عليها، فتم إدراجها كمعلومات حقيقية في هذه الموسوعة.
ولذلك مسألة التثبت، يعني: ربنا سبحانه يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ ))[الحجرات:6]، هذا طبعاً فيما يتعلق بالناس، لكن التثبت أوسع من ذلك، التثبت في المعرفة؛ لأن أي معلومة مشكوك فيها تحولها أنت إلى يقين فهي تضر بك مثل ضرر المعلومات اليقينية الثابتة إذا حولتها إلى موضع شك واختبار، ولذلك ينبغي أن يكون لدينا قدرة على الفرز، وعلى النقد، وعلى الفحص، وعلى التمييز، وبيان الغث من السمين.
إذاً: هذا ما يتعلق بموضوع المعرفة، وما يتعلق بأدوات المعرفة أيضاً، والتي من شأنها أن تزيد الناس علماً وإقبالاً.


تجربة الشيخ سلمان في القراءة

ربما أنتقل بعد هاتين المقدمتين إلى الموضوع المهم؛ وهو ما يتعلق بتجربتي في القراءة.

القراءة أيام الصفوف الابتدائية

يمكن تجربتي في القراءة بدأت مع الطفولة، وفي المرحلة الابتدائية كنا نذهب إلى ما يسمى بالحراج في مدينة بريدة، حيث نجد كتباً مستعملة للبيع، وبطبيعة الحال هي غالباً قصص وأساطير مثل: قصص السندباد، أو غيرها من المغامرات والرحلات والمفاجآت، وكنا نتناوب قراءة هذه الأشياء، ويمكن أذكر أن الواحد أحياناً يظل واقفاً ينتظر انتهاء الآخرين أو مجيء دوره لقراءة مثل هذه القصص، هذه القصص تنمي الخيال، تنمي الثقافة اللغوية، تدرب الإنسان على القراءة وتصنع صداقة بينه وبين الكتاب.
هناك نوع آخر من الكتب؛ وهي الكتب الشرعية التي كنت أقرؤها أيضاً في الطفولة، مثلاً: كتاب رياض الصالحين.. كتاب الكبائر.. كتاب تفسير ابن كثير.. هذه من الكتب التي صحبناها في الطفولة بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل بعض المربين والمشايخ والعلماء، وهي كتب جيدة في الجملة وجميلة، وإن كانت في الغالب أكثر من مستوى الصغار.
أذكر كان عندنا في بريدة مجموعة مكتبات تجارية، فربما أحصل على مبلغ بسيط من الوالد بسبب أنني أعمل معه أو آتي معه إلى المتجر فيعطيني بضع ريالات، أذهب إلى المكتبة وأشتري هذه الكتب، اشتريت مرة كتاباً عن الإسراء والمعراج مكتوب عليه أنه لـابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وقرأت هذا الكتاب وأنا في المرحلة السادسة الابتدائية، فشعرت بأنني كمن تناول طعاماً مسموماً؛ لأن هذا الكتاب عرفت فيما بعد أنه كتاب موضوع، والعلماء نصوا على أنها أسطورة ليس لها أصل عن ابن عباس رضي الله عنه، لكن هو فيه أنه لما صعد النبي عليه الصلاة والسلام إلى السماء رأى ملكاً نصفه من نار ونصفه من ثلج، ومشاهد وأشياء، يعني: عقلية طفل صغير غير قادرة على استيعابها، وفيها امتحان للعقل شديد، وأثرت حتى على نفسيتي وعلى عبادتي في تلك المرحلة، فأذكر أنني شعرت بحالة من العجز، وأصبح عند الإنسان نوع من الشك في عبادته، وفي أعماله، حتى هداني الله سبحانه وتعالى إلى قراءة كتب في الأذكار، كتاب مثلاً: الكلم الطيب لـابن تيمية.. كتاب الأذكار للنووي، بعض الكتب المفيدة، وبدأ الإنسان يقرؤها ويتحصن بها، وبعد ذلك استقرت النفس.
كنت أذهب مع والدي رحمه الله في الدكان، وإلى جوار المتجر كان هناك المكتبة العلمية العامة بـبريدة، وهي مكتبة حكومية، هذه المكتبة نجد فيها الجرائد، نجد فيها المجلات من كل مكان في العالم، نجد فيها عدداً كبيراً من الكتب المختلفة، وفي ألوان العلوم أذكر مثلاً: أنني قرأت فيها كتاب الفرج بعد الشدة للتنوخي، وهو كتاب يتميز بأنه كتاب قصصي أولاً، وهذا مغري، وثانياً: هذا الكتاب فيه نوع من الأمل وفتح باب الرجاء، وأن الإنسان لا ييأس، في تلك المرحلة الطفل الصغير ربما يتوهم أشياء، أنا كنت أعتقد أن موتي وأجلي قريب، ومرة من المرات كنت أسمع حديث النساء من حولي يقولون: إن فلاناً كان نائماً ورأى في المنام أن جراداً تطير من فمه، وبعد ذلك مات؛ لأنه كانت هذه الجرادة هي تعبير عن روحه، وصادف أني نمت وشفت الرؤية هذه نفسها، فصرت في حالة قلق، وكل ليلة أنام أفكر أن الموت يأتي ويقترب، وممكن أتأخر في النوم، ولا أنام إلا مجهداً؛ لأنني أنتظر الأجل، وأتلبس هذه الصورة، وتلك أعطتني سبحان الله! في هذه المرحلة المبكرة اتجاهاً إلى الله سبحانه وتعالى، وش عوراً بأنه حتى أمي أو أبي لا ينفعون ولا يدفعون، بل بالعكس الإنسان لا يريد أن يحملهم تبعاته.
ولذلك يقبل الإنسان على ربه، وينخرط بعفوية وبراءة وبساطة في استغاثة، وفي دعاء، وفي رجاء، وإنه إن عافيتني وحفظتني.. وخاصة أنه أيضاً صادف أن أحد أصدقائنا توفي بالزائدة في تلك المرحلة، وكان هذا حدثاً يهز الضمير، ويهز الوجدان، المهم هذا الكتاب -كتاب الفرج بعد الشدة- وجد الإنسان فيه متنفساً، وإن كان الكتاب ذاته أيضاً إذا عرضناه لعملية الفرز والفحص ستجد أنه يحتوي عدداً من القصص -الأساطير- التي ليس لها إسناد، وبعض الروايات التي فيها مبالغات، وربط الإنسان بنوع من العجائبية، والبعد عن الواقعية.. أعتقد أن الإنسان يمكن يتقبل هذه الأشياء في تلك المرحلة.
وأيضاً قرأت كتباً كثيرة، أذكر كتب أدباء الحجاز، على سبيل المثال: حمزة شحاتة في تلك المرحلة ومجموعة كتبه قرأتها، ثم رجعت إليه بعد ذلك ووجدت أنه فعلاً أديب يستحق القراءة، وإن كان عاش حالة من الضيق النفسي وبات في عزلة في آخر عمره، ولكن هذه العزلة أيضاً زادته إيماناً بالله، وإقبالاً على الله، وانخراطاً في التعبد، ونعم ما يلجأ إليه العبد في حالة الضيق أن يلجأ إلى ربه عز وجل.


القراءة بعد الالتحاق بالمعهد العلمي

كنت آتي أيضاً بالكتب معي للدكان، وأذكر أني في إجازة صيفية واحدة بعدما تخرجت من الابتدائي والتحقت بالمعهد العلمي، في إجازة واحدة قرأت أكثر من ستين كتاباً خلال هذه الإجازة، ومعظمها كانت كتباً للشيخ علي الطنطاوي، فوجدت في أسلوبه شيئاً رائعاً جميلاً، وفتحاً غريباً، كتاب مثلاً: رجال من التاريخ قصص من التاريخ، بل أصبحت أحفظ بعض الفقرات وبعض السطور، ويمكن أكثركم لا يعرف أن علي الطنطاوي يقول الشعر رحمه الله، وجدت له بعض القصائد، ووجدت له كتباً ممنوعة، فأصبحت مستميتاً في الحصول عليها، وكما تعرف كل ممنوع مرغوب، وحصلت عليها ولم يكن فيها شيء يوجب، لكن تعرفون أن الشروط والضوابط في ذلك الوقت محكمة جداً، وشديدة جداً، وإلا قد يكون كل ما في الأمر صفحة، وليس فيها كلام يستحق، بل بالعكس كان فيه ثناء على المملكة وعلى زيارة الملك سعود، كان زار باكستان، وكان الشيخ علي قال قصيدة:
أسعود باكستان أكبر دولة ولأنت أكبر سيد وعميديعني: يستحث همم العرب لتحرير فلسطين، وغير ذلك من المعاني الجميلة والراقية.
وكذلك قرأت كتب المنفلوطي كلها، وأذكر طبعاً كتاب النظرات، وكتاب العبرات، وهي كتب الحقيقة فيها أدب وأسلوب جميل، وقرأت قصصاً له، وأذكر منها قصة الفضيلة التي ملأتها بالدموع؛ لأنها فعلاً قصة مؤثرة خاصة لفتى في تلك المرحلة، وتبين لي فيما بعد أن المنفلوطي حاز على سبق في قضية أنه قام بترجمة بعض الكتب من لغة هو لا يعرفها، هو ترجم من الفرنسية وهو لا يعرف الفرنسية، كيف؟ عاد هذا هو السؤال، وطبعاً هنا لن تكون ترجمة حرفية، يمكن هو فهم الكتاب وقام بصياغته بأسلوبه الخاص الذي ربما يشبه الكتاب الأصلي، وليست ترجمة حقيقية، ولذلك دائماً يقولون: المترجم خائن؛ لأن من أصعب الأشياء أن يستطيع أن ينقل المعلومات الدقيقة من لغة إلى لغة أخرى؛ لأن القصة ليست حروفاً كما قلنا، وإنما هناك محتوى ومضامين وإيحاءات كبيرة جداً.
قرأت جميع كتب هؤلاء، أيضاً تعرفت على مصطفى صادق الرافعي، وبدأت أشعر بأن هناك معركة بينه وبين ما يسمون بدعاة العربية والمحافظين، وبين دعاة التجديد ومن كانوا يسمونهم بالمجددينات يعني: على سبيل السخرية بهم، من أمثال طه حسين ومجموعة من الكتاب العرب آنذاك؛ كتَّاب الأدب، فاكتشفت أن هناك معركة، وقرأت كتاب تحت راية القرآن للرافعي، فشعرت بتعاطف معه؛ لأنه متحمس للقرآن الكريم، ويهاجمهم من منطلق شرعي.
وبدأت أقرأ أيضاً لأستاذه محمد سعيد العريان، ولذلك أثناء قراءتي عن الرافعي أخذت هذه الصورة الإيجابية الرائعة، ولذلك إذا وجدت في ترجمته شيئاً لا يتفق مع هذه الصورة المثالية كنت أميل إلى تكذيبه، يعني: أذكر أني قرأت إنه مثلاً ربما يكون يتشاءم من أشياء أو عنده بعض الاعتقادات أو كذا، فأنا أعتقد أنه أبداً مصطفى صادق الرافعي الذي عاش تحت راية القرآن، وحارب الذين يهاجمون لغة العرب لا يمكن أن يكون كذلك، فهذا من الفرز، وإن كان فرزاً بصورة ساذجة أو بسيطة، لكن جيد أن الإنسان يتدرب عليه منذ الصغر.
ولكنني وجدت غصة في كتب الرافعي ؛ لأن أسلوبه صعب جداً، يعني مثلاً: كتاب المساكين.. أوراق الورد.. هي كتب يقال: إنها كتب بعضها غزل بينه وبين مي زيادة، وبعضهم يقول غير هذا، لكن المهم أنك تقرأ ولا تفهم شيئاً، فحاولت أن أحفظ قلت: يمكن أفهم بعدين، لكن أيضاً حتى الحفظ أصبح عسيراً؛ لأنه لا يوجد إمكانية الاستهداء بأي وسيلة، فتركت ذلك، وجدت بعض قصائد للرافعي : قصائد وطنية، وقصائد إيمانية، فحفظت هذه القصائد؛ لأنني مصر على التواصل مع قامة علمية، كذلك كتاب وحي القلم له اقتنيته آنذاك وقرأته؛ لأنه ربما هو أفضل كتبه.
طبعاً هناك الكثير الكثير من الكتب التي قرأتها في تلك المرحلة حتى كتب العقاد العبقريات، كتب كثيرة جداً، في ذلك الوقت انساح ما يسمى بكتب الفكر الإسلامي من أنحاء العالم الإسلامي، من مصر، من الشام، من العراق مثلاً: كتب محمود شيت خطاب وهي كتب في قادة الحروب الإسلامية، وقادة المعارك الإسلامية، قرأت معظم هذه الكتب، وحاولت أن أحصل على أي شيء؛ بحيث إنه إذا عرفت مؤلفاً وأعجبني اقتنيت جميع كتبه، حتى أني أذكر له كتيباً اسمه عدالة السماء، هو عبارة عن قصص بسيطة بعيدة عن الحبكة الفنية، ولكن كانت مناسبة لي ولذلك قرأتها.
وأيضاً ربما تعتبره من السذاجة أنني حاولت أن أنظم؛ لأنه من خلال اطلاعي على كتب الشعر العربي ومحاولة حفظ المعلقات وحفظ الأصمعيات والمفضليات، أصبح عندي نهم إلى حفظ الشعر، وإلى قول الشعر، وفعلاً في تلك المرحلة حفظت المطولات، ولا زلت أحفظها بشكل جيد؛ لأنه كما هو معروف: (العلم في الصغر كالنقش في الحجر)، يعني: عندي مثلاً قصائد سبعين بيتاً.. ثمانين بيتاً حفظتها آنذاك، لا أحتاج إلى أن أراجعها، إذا كنا في سفر أو شيء أتلوها على أصدقائي ولا أتوقف إلا في نهايتها، بينما الأشياء التي حفظها الإنسان بعد ذلك قد يتلكأ يجد صعوبة في الحفظ، ويجد إذا قرأها لا يشعر بالثقة بنفسه؛ لأنه ممكن يسقط حرفاً أو يسقط كلمة في أي مرحلة من مراحل القصيدة.
فحاولت أنني أنظم بعض القصص التي وجدتها في كتاب عدالة السماء لـمحمود شيت خطاب، وبدأت أقول بعضاً من الشعر الشعبي، وكلمات في الشعر العربي، وبعضها خطاب للوالد، مثلاً: شوق إليه بعدما ذهب إلى رحلة الحج وترك أبناءه الصغار رحمه الله، أو بعض الأحاديث أو تمن أو طلب، مرة من المرات كنا مثلاً في المعهد العلمي، وخطر في بالنا إنه ندرس انتساباً في المتوسطة العامة؛ لأنه آنذاك كان يشيع حديث أن المعهد العلمي ما له مستقبل، ويمكن واحد يتخرج.. طبعاً لا نفهم ماذا يعني هذا الكلام، لكن هذا الكلام أثر علينا، فهذا ولَّد أن الإنسان يواصل في المعهد لكن خطرت في البال فكرة إنه ينتسب في المتوسطة، وهكذا عملنا.. درسنا انتساباً واختبرنا، وكان هذا بحاجة إلى أن نقنع الوالد بقصيدة شعرية توجه له وتثني عليه، وتطلب منه أن يعطينا إذناً بهذا المعنى.
فخلال هذه المرحلة كنت أذهب بالكتب إلى الدكان، وعندنا ثقافة شديدة الضغط علينا، المبالغة في الخوف من العين، وأنا أقول: إن العين حق، ولكن أن يتحول هذا إلى كابوس هذا خطأ في التربية، فكان الآباء والأمهات في تلك المرحلة كثيراً ما يخوفون أبناءهم بالعين والحسد، فكنت آخذ الكتاب وأضعه داخل دفتر اليومية، حتى من جاء لا يلاحظ أنني أقرأ كتاباً، وإنما يظن أنني أسجل حسابات أو ديون على الناس، أو ما أشبه ذلك.
كانت هذه حقيقة في مرحلة الطفولة مرحلة مهمة جداً؛ لأنها صنعت العلاقة مع الكتاب، وربما نستفيد من هذا أهمية -وهذا ربما أعتقد أنه الإخوة في المكتبة واعون به جيداً ولهم نشاطات وبرامج في هذا الخصوص- أنه أحد العرب كان في القطار ولاحظ أن هناك امرأة معها طفل يصيح في إحدى الدول الأوروبية، ففتحت شنطتها وبدلاً من أن تعطيه كسرة حلوى أو شوكولاتة، أخرجت كتاباً وأعطته له فسكت هذا الطفل، وأقبل على الكتاب يقرؤه، والآن أصبح هناك دراسات تقول: إن الطفل من ستة أشهر يمكن أن يبدأ بتعلم القراءة بطريقة سهلة، وبطريقة بسيطة.
ولذلك دورنا كآباء في تعليم أبنائنا القراءة: أن نندمج معهم أيضاً ليس في قراءة محضة، وإنما في قراءة هي ربما حميمية؛ أن الأب ربما يسمعهم صوته من خلال رواية أو قصة، يقبل مداخلات الأبناء وتعليقاتهم بدلاً من أن يكونوا متلقين فقط، أن يكون الكتاب متاحاً للأبناء ليس فقط في المكتبة، وإنما فوق الرف وقريب من متناول أيديهم وفي كل مكان، يكون هناك كتاب مثلما يقال عن أحد الأدباء قال: إن هذه الأمة ربما تصل إلى مستوى الرقي والحضارة يوم تكون المكتبة في بيوتنا مثل الغسالة أو الثلاجة، نعم يجب أن يكون في كل بيت مكتبة، وبالذات أيضاً مكتبة للأبناء الصغار على مستواهم، هناك مثلاً الكثير.. أذكر أيضاً من الكتب التي قرأتها كتباً في قصص الأنبياء، أبو الحسن الندوي عنده كتاب في قصص الأنبياء، محمد موفق سليمة عنده مجموعة قصص للأطفال الصغار، فهذه القصص أيضاً تنمي الجانب الإيماني عند الإنسان والارتباط، والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي يحتاج إليها الشباب.


مرحلة اقتناء الكتب

هناك مرحلة متقدمة، طبعاً علاقتي مع الكتاب والحمد لله أصبحت مستمرة، تكوّن عندنا مكتبة ضخمة مما أعتبره فضل ونعمة من الله، مع أنه لم يكن هناك توجيه قوي للكتب، لكن الآن المكتبة الموجودة عندي، ربما بعض الكتب مكتوب عليها تاريخ الحصول على هذا الكتاب، مثلاً: تجده لما كان عمر الواحد منا أربع عشرة سنة، ثلاث عشرة سنة، قد اقتنى هذه الكتب، وأحياناً كتب مثلما قلت: إنه إنسان يقرأ لمؤلف واحد فيحاول أن يشتري جميع كتبه، أو يقرأ سلسلة مثلاً سلسلة الأبطال أو سلسلة المكتشفين أو أعلام العرب .. أعلام العرب مئات الأعداد، فإذا حصل الإنسان على نسخة حاول أن يقرأ جميع هذه الأشياء.
أنا أعترف بأنني كنت ولا زلت أشعر بأن ذاكرتي مخروقة، بمعنى: أن المعلومات الصغيرة لا تستقر فيها إلا فترة وجيزة ريثما تتهيأ للذهاب، لكن أعتقد أنه ليس ذهاباً إلى بعيد، وإنما هو ذهاب إلى منطقة اللاوعي بحيث يمكن استدعاؤها عند اللزوم، يمكن تكون هذه المعلومات أثرت على أداء الإنسان، أثرت على نفسيته، على استقراره، على شخصيته، على لغته، على عقليته.. أن تكون عقلية معتدلة قابلة للتطوير ومنضبطة أيضاً إلى حد ما، فليس المعيار في الذاكرة هو أن الإنسان عنده معلومات يستطيع أن يقولها، مثلاً: أنا المعلومات المتعلقة بالتواريخ حفظتها عشرات المرات وأنساها، لما تقول لي: متى ولد البخاري أو مسلم؟ قرأناها في المعهد العلمي وفي الجامعة وبعد ذلك، ودرسناها وقرأناها في الكتب، ومع ذلك ربما يصعب على الإنسان أن يحتفظ بالأرقام كمثال؛ لأن هذه مواهب قسمها الله تعالى بين عباده، وقد تجد بعض الناس يخطف رقم سيارة ولا ينساه أبداً، لكن أنا أعتقد أن الذاكرة أوسع من تصورنا أنها مجرد استدعاء معلومات محددة وإلا يكون الإنسان قد نسي، القراءة هنا مفيدة حتى لو لم يشعر الإنسان بفائدتها.
فلا شك أن هذا أمر في غاية الأهمية، أجد أن العلاقة والصحبة مع الكتاب كان لها هذا التأثير الكبير، استمرت هذه العلاقة والحرص على اقتناء الكتاب، وربما أقول: الأسرة بكاملها والحمد لله أصبح لها اهتمام بهذا الجانب.


القراءة في مرحلة الدراسة في الجامعة

لما انتقلت إلى الجامعة أصبح لي علاقة بالكتب الشرعية، ومن التجارب التي أعتز بها أن الله سبحانه وتعالى فتح لي التواصل مع الكتب الشرعية، مثلاً: كتب الإمام ابن تيمية أستطيع أن أقول: إنني قرأت كل أو معظم كتب ابن تيمية، فتاوى ابن تيمية رحمه الله من أولها إلى آخرها، درء تعارض العقل والنقل، الرسائل والمسائل والفتاوى.. إلى غير ذلك، وكذلك ابن القيم رحمه الله لم يقع في يدي كتاب له إلا قرأته في تلك المرحلة.
وزيادة على ذلك كتب السنة النبوية، يعني: هذه ثروة ليست بالهينة، أتيح لي ولله الحمد والمنة أنني أقرأ صحيح البخاري يمكن عدة مرات، مسلم، سنن أبي داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، مستدرك الحاكم، مسند الإمام أحمد، سنن البيهقي، وصحيح ابن حبان يعني: ثمانية عشر مجلداً.. وهكذا، والشيء الجميل أنه خلال هذه القراءة مع قراءة أيضاً كتب الفقه، مثل: كتاب المغني لـابن قدامة، المحلى لـابن حزم، المبسوط للسرخسي .. ومجموعة من كتب الفقه في المذاهب المختلفة، طبعاً الموطأ للإمام مالك وغيره، ووجدت أنه ولله الحمد والمنة كنت خلال قراءتي -وهذه فائدة-، كان دائماً معي قلم رصاص، فكان أي شيء يشدني كنت أشير إليه إما في هامش الصفحة، أو في الصفحات الفارغة في أول الكتاب وفي آخره، بحيث أن هذه المجموعة من الكتب التي قرأتها موجودة في مكتبتي، وموجود عليها كل تعليقاتي، وكل العناوين التي وضعتها أو الفوائد التي استفدتها، زاد المعاد نفس الشيء عملت به، وكتب ابن القيم، وكتب ابن تيمية، وكتب الفقهاء.. بحيث أن هذه الطريقة ما يسمونه بطريقة الجذاذات أو طريقة الجزازات؛ أن الإنسان يستطيع لو وجد وقتاً -أو يكلف غيره- أن يعود إلى هذه الكتب ويسجل هذه الفوائد في أوراق وينتفع بها؛ تصلح مقالات.. تصلح بحوثاً.. تصلح فوائد، تصلح شواهد، وأحياناً لا تحتاج إلى أن تقرأ الكتاب كله من جديد؛ لأن هذا قد يكون فيه صعوبة خاصة مع كثرة المشاغل وتقدم السن، لكن لما تأخذ هذا الكتاب، تصفح وانظر التعليقات التي كتبتها قبل عشرين أو ثلاثين سنة بحيث تذكرك بهذه الأشياء، وتركز النظر عليها، فهذه تجربة ربما بالنسبة لي هي تجربة مفصلية ومهمة، ويمكن أنا مدين في كثير من الاستشهادات التي أقولها في دروسي ومحاضراتي، أو التجارب أو بعض الأشياء أن الإنسان يقتبس هذه الأمور وينتفع بها.


القراءة في المراحل المتقدمة

أيضاً هناك طريقة أخرى يعني يمكن في مرحلة متقدمة، لا أريد أن أستطرد وآخذ أكثر من وقتي، حقيقة أنا أعتبرها أنها نمط جديد بالنسبة لي من القراءة، أنه خلال الانفتاح على المحاضرات، وعلى الدروس العلمية، وعلى البرامج الإعلامية، عودت نفسي ألا أقدم أي محاضرة إلا بعدما أقوم بإعدادها، حتى لو كان سبق لي أن ألقيت هذه المحاضرة قبل خمس أو ست سنوات، أن أحضر لها كما لو كنت ألقيها لأول مرة، وأحاول أن أقرأ ما قلته قبل حتى لا أكرره بقدر المستطاع، إلا أن أتعمد تكرار بعض الأشياء؛ لأنه مهم، فوجدت أنني أذهب لأقرأ معلومات جديدة، ولو أنك مثلاً قرأت غداً موضوعاً حضرت له اليوم، ستجد أنه في الغد جاءت معلومات اليوم جديدة ومفيدة وكثيرة، المعرفة أصبحت تتطور، الكتب تطبع، المعلومات تتزايد، الكم الهائل في الشبكة العنكبوتية؛ يسمح للإنسان أن يجدد ويطور معلوماته أولاً بأول.
فأصبحت كلما أردت أن ألقي موضوعاً أو أعد برنامجاً أقرأ فيه كماً كبيراً وهائلاً، وأقول: إن حجم ما أقدمه خلال مثلاً هذه المحاضرة أو خلال أي برنامج ربما لا يجاوز 20 % من المعلومات التي حصلت عليها أثناء القراءة، لكن بعض المعلومات تند عن الذهن أثناء الحديث أو يضيق الوقت عنها.
فوجدت أنه لما يقرأ الإنسان حول أي موضوع من المواضيع، هناك أولاً المعلومات الجديدة كما قلت، وهذه يسجلها الإنسان ويدونها بحيث إنه والحمد لله في الفترة الأخيرة يمكن خمس.. ست سنوات أصبح أي موضوع عندي فيه كم كاف من المعلومات، مكتوبة بخط يدي يعني: منقولة من جميع المراجع التي اعتمدت عليها، قد تكون هذه المراجع كتباً كاملة، قد تكون رسائل علمية ماجستير أو دكتوراه، وفي غالب الأحيان هي عبارة عن مواد مأخوذة من الإنترنت باللغة العربية أو مترجمة من اللغات الأخرى، فأسجل النقاط المهمة أولاً على هذه المواد، يعني: آخذها كمواد ورقية وأسجل النقاط المهمة عليها، ثم أقوم بعد ذلك بمرحلة أخرى مهما كان الوقت ضيقاً أن أقوم بتسجيلها بورق خاص؛ بحيث لا أحتاج إلى الرجوع إلى الورق الأصلي مرة أخرى لو احتجت، مثلاً: اليوم احتجنا نعود إلى موضوع القراءة بشكل سريع وعابر، أعود إلى ما كتبته أنا وليس إلى ما قرأته قبل فترة. فهذه أولاً ما يتعلق بموضوع المعلومات التي يحصل عليها الإنسان.
النقطة الثانية وهي الحقيقة بالنسبة لي يمكن أنا كنت أعملها لكن ما اكتشفتها إلا متأخراً: أنه أحياناً القراءة تكون سبباً في مجيء أفكار أنت لا تعرف من أين جاءت، فأنا أقول: القارئ مثل الذي يسافر في طريق، وخلال هذا السفر يجد عن يمينه وعن شماله بيوتاً جميلة ومناظر وأشجاراً، وأشياء كثيرة طبعاً يتعجب منها، لكن الأعجب من ذلك أنها ذكرته بأشياء ليس لها علاقة بما شاهده، ذكرته بأيام الطفولة، ذكرته بجده، ذكرته بقصة حصلت له مثلاً أثناء الصغر، ذكرته بكلام سمعه.. ذكرته بأشياء كثيرة، لو حاول أن يبحث عن رابط أو علاقة بين ما شاهد وبين الأشياء التي تداعت إلى ذهنه لن يجد أي رابط.
فأنا خلال قراءتي وجدت أن نسبة غير قليلة من المعلومات التي أجد ترحيباً بها من المتابعين، هي معلومات لا أستطيع أن أقول: إنها من عندي، ولا أستطيع أيضاً أن أقول: إنني قرأتها في كتاب؛ لأن الأمر بين بين، القصة أني كنت أقرأ هذا الكتاب، يمكن يكون الكتاب رواية، يمكن يكون أي شيء آخر، ولكن خلال القراءة تداعى إلى ذهني معلومات، وربما تكون هذه المعلومات هي من المخزون اللاوعي الذي قرأه الإنسان يوماً من الأيام أو سمعه أو فكر فيه، وهذه القراءة كانت هي المناسبة التي قدحت شرارة وحركت الذهن واستدعت هذه المعلومات؛ ولذلك أعتقد أن يكون الإنسان قارئاً فهذا شيء مهم جداً، وأن نشيع هذه الثقافة حتى بالعادة، بحيث إنه نأخذ على أنفسنا.. وهذا أنا أصبحت أعمل بنفسي وأوصي أبنائي دائماً وأبداً؛ إنه حيثما سافرت في الطائرة أو في سيارة أو في قطار اجعل الكتاب واحداً من مصحوباتك.. مثلما تأخذ معك الملابس، وتأخذ الأدوات التي تحتاجها؛ اجعل الكتاب معك، وأيضاً اجعل كتباً معك شخصية بحيث تقرؤها في وقت الفراغ، ولو كان وقتاً يسيراً، ولا بأس أن تكون هذه الكتب قد لا تكون كتباً جادة، والإنسان ربما يكون متعباً أو مجهداً، لكن تكون كتباً مفيدة.
أنا أعتقد أن بعض الروايات هي مثل السواليف يعني: فيها لغة، فيها متعة، فيها أحافير للمجتمع وعادات المجتمع، وسلبياته وإيجابياته، والإنسان ينتقي ما يناسب، ينتقي الشيء الجيد؛ لأنه أيضاً لاحظ أنه حتى القدوة هنا مهمة، يعني: واحد مرة من المرات أنا كنت في الإمارات وأعطاني رواية، ومع الأسف هذه الرواية على الأقل الكاتبة سعودية، حقيقة هذه الرواية لما قرأت بضع صفحات منها أصبحت أخفيها لا أريد أن يراها معي أحد؛ لأنني وجدت أن في هذه الرواية أولاً: تجديفاً بحق الألوهية، وكلاماً شنيعاً لا يتوقع الإنسان أن يسمعه من إنسان يعي ما يقول وما يكتب، ووجدت فيها أيضاً جرأة مفرطة فيما يتعلق بالحديث عن القضايا الجنسية أيضاً، شيئاً مؤسفاً، فأصبح الإنسان يواري ويداري أن يرى هذا الشيء معه، فهنا ربما أنت تعمل دعاية لهذا الكتاب حينما تقوم بـ..


ضرورة اختيار الكتب المناسبة

ولذلك أن يختار الإنسان ويقتني الكتب المناسبة، وفي كل لون وفن وعلم هناك كتب كثيرة مفيدة ومناسبة يستطيع الإنسان أن يقرأها ويستفيد منها، وأن ينتفع من وقته، ويكوّن القدوة للآخرين أن يستفيدوا ويستثمروا، بدلاً من أن نلعن الظلام علينا أن نضيء الشموع، أعتقد أنه فعلاً نحن بأمس الحاجة أن نتدرب على القراءة، وأن نجعل ثقافة القراءة ثقافة شائعة في الانتظار، في المستوصفات، في المسجد مثلاً، لا بأس يقرأ الإنسان شيئاً من كتاب الله تعالى، لكن يجد إلى جواره مثلاً قراءة في بعض كتب التفسير أو في بعض كتب الإيمانيات، أو في بعض كتب الحديث، أو بعض كتب التاريخ، كان بعض الأئمة يقرءون على الجماعة كتاب البداية والنهاية لـابن كثير مثلاً، وختموا هذا الكتاب من أوله إلى آخره، طبعاً كتاب التاريخ تعرف فيه الحقائق والاحتمالات والظنون، والأشياء الطيبة الإيجابية وضد ذلك.
المهم أن يكون هناك ثقافة أن الإنسان خلال الانتظار يتعود على أنه بدلاً من الكلام فيما لا طائل فيه يحاول أن يقرأ، وأن يستفيد.


الوصول إلى جعل القراءة عادة ومتعة

الخلاصة: أنه خلال هذه التجارب التي مر بها الإنسان من طفولته إلى شبابه، إلى مرحلة ما بعد الشباب، وأنا لا زلت فيها يعني: مرحلة بين الكهولة وبين الشباب، يجد الإنسان أن أعظم فائدة هو أنه أصبحت القراءة عادة، أصبح الإنسان يجد متعة في القراءة، إذاً نحن نقرأ لنستمتع بما نقرأ، والقراءة هي عبارة عن سفر، حياة واحدة لا تكفي، فمن خلال القراءة أنت كما يقال:
ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمرهمثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي في الناس انتساباأو كمغلوب على ذاكرة يشتكي من صلة الماضي انقضابا


لماذا نقرأ

فعملية أن يكون هناك عند الإنسان قراءة يقرأ للمتعة أولاً، يقرأ لأن يجدد حياته، وأن يستفيد من تجارب الآخرين وينتفع بها، يقرأ من أجل السلاسة والسلامة النفسية، أنا أزعم أن معظم الناس يعانون قدراً يقل أو يكثر من الإعاقة النفسية، أو العارض النفسي، أو الكدر النفسي بسبب صعوبات الحياة، مشاكل الحياة؛ ولذلك ربما يكون أحد معوقات الناس عن القراءة هو الإحباط، ضياع الأهداف والمشاريع والأحلام التي كان الناس يفكرون فيها، ويحلمون فيها، فالقراءة تفتح الإنسان على عوالم، القراءة تشكل تسلية للإنسان، القراءة تعطي الإنسان مادة: أن يتحدث مع الآخرين من خلال ما قرأ؛ بحيث كما يقال: (تحدث حتى أراك)، الزوج مع زوجته، الأب مع أطفاله، يعني: يوماً من الأيام كان أولادي يقولون لي: يا بابا! فلان شفناه في الفندق مرة، فعلاً صادفوا واحداً من الدعاة المشهورين في الفندق، فمسكهم قال: من أنتم؟ قالوا: نحن أولاد فلان، سلم عليهم وجلس يقص عليهم قصة، فبمجرد ما جئتهم بالليل قالوا: فلان يقص ما شاء الله عياله سعداء، أنت مشغول ما تقول لنا قصصاً، فبعد ذلك بدأت أهتم بهذا، ووجدت أنه فعلاً عندي كمٌّ رائع من القصص التي تصلح للأطفال، وقت الفراغ الإنسان يستطيع أن يقول هذه القصة ويشدهم إليها، ويجعلهم يشاركون في مثل هذه القصص ويستفيدون منها.
إذاً: نحن نقرأ أيضاً حتى نقدم للآخرين شيئاً جيداً، ونصنع مادة للحديث معهم، مادة للتواصل بين الزوجين، بين الزملاء، بين الآباء والأبناء، المدرس مع طلابه، نقرأ حتى نصنع قدراً من السلامة النفسية لنا، نقرأ حتى نحافظ على الأمل، نقرأ حتى نستفيد من تجارب الحياة، طبعاً نقرأ حتى نحصل على المعرفة، والمعرفة من أهم المقاصد السامية، ويكفي أن يكون القرآن أكثر من سبعين ألف كلمة، اختار الله تعالى من بينها كلها كلمة واحدة لتكون هي أول ما يطرق سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي (( اقْرَأْ ))[العلق:1]، الأمر بالقراءة.
إذاً: القراءة هي بوابة إلى العبادة، بوابة إلى المعرفة، بوابة إلى النجاح، بوابة إلى الحياة، ونحن ثقافتنا في الغالب مثل أحد الشباب الذي مرة كنا نتحدث في هذا الموضوع، فقال: نعم الله سبحانه وتعالى قال: (( اقْرَأْ ))، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنا بقارئ)، فالشاب هذا يقول: ما أنا بقارئ، نقول: لا. حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يقول: لست قارئاً: لا أجيد القراءة، لم يكن يقرأ الحرف، والله سبحانه وتعالى جعل هذه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، (( وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ))[العنكبوت:48-49]، ولهذا كان هذا إعجازاً أن يكون النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب أن يكون هو معلم البشرية، وأن يقدم هذا العلم العظيم، وهذه المعرفة الصحيحة الصادقة التي لا يزيدها مرور الأيام والليالي إلا وضوحاً ونصوعاً وثباتاً، فهذا نوع من الإعجاز؛ ولهذا يقول الشاعر عزيز أباظة يقول:
إن أمية الرسول قضاها الله عن حكمة لها بيناتكل أمية سواها يسيح الجهل فيها وتسبح الظلمات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق