الثلاثاء، 9 يناير 2024

قطر وقناة الجزيرة ووائل الدحدوح

 

قطر وقناة الجزيرة ووائل الدحدوح

الشهيد الحي الزميل وائل الدحدوح (غيتي)

لم تكن قناة الجزيرة مجرد قناة إخبارية كغيرها من الفضائيات التي تلاحق الأحداث، وإنما بوابة المعرفة والوصول إلى الحقيقة الموثقة بالصوت والصورة، خاصة في الأحداث الكبرى، وقد احتكرت الصدارة الإعلامية منذ بداية القرن الحالي في العالم العربي وفي قارات العالم، وأصبح العاملون بها ومراسلوها المختارون بعناية نجوما لارتباطهم بالقضايا التي تشغل الجماهير في كل مكان.

انفردت الجزيرة بنقل الحروب المعاصرة بالبث المباشر، ولأول مرة في تاريخ المواجهات العسكرية أصبحت الكاميرا منصوبة في ساحات القتال، ليرى المشاهدون وقائع العمليات العسكرية لحظة بلحظة في المقاهي وفي غرف النوم؛ مما زاد من حالة الوعي السياسي في كل الأوساط والمستويات ولدى كل الأعمار، التي كانت من قبل مهمشة بسبب الاحتكار الغربي والتحكم في وسائل الإعلام الدولي وما يدور في فلكها من إعلام محلي.

منذ ثلاثة أشهر تتسمّر العيون في دول العالم أمام شاشة الجزيرة على مدار اليوم، ويرى المشاهدون ما يجري في غزة، وينتظرون التحليلات السياسية الرصينة للخبير العسكري القدير اللواء فايز الدويري، ويستمعون إلى مراسلي الجزيرة الأبطال الذين يقفون تحت القصف وينقلون الصورة الحقيقية ولا يبالون بالتهديدات الإسرائيلية، ولا تخيفهم الصواريخ التي تطلقها الطائرات التي لا تتوقف عن الطيران فوق رؤوسهم.

وبسبب دورهم البطولي في فضح الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة والضفة كان طبيعيا أن يتعرض الإعلاميون والصحفيون الفلسطينيون للمخاطر كغيرهم من سكان القطاع، لكن كان واضحا أن الاحتلال يستهدف الصحفيين بوجه خاص، لطمس الحقيقة ولمنع الكاميرات من كشف الجرائم ضد المدنيين، وفضح الطغمة المجرمة في الكيان الصهيوني التي ترتكب الفظائع.

وائل الدحدوح أيقونة الإعلام المقاوم

منذ استشهاد مراسلة الجزيرة في فلسطين شيرين أبو عاقلة في مايو/أيار 2022 كان واضحا أن الاحتلال لا يرتاح لوجود قناة الجزيرة، وتصاعدت الدعوة في الداخل الإسرائيلي في الشهور الأخيرة إلى إغلاق الفضائية لدورها في الانحياز إلى الفلسطينيين، لكن لاحتياجهم لدور قطر السياسي الفاعل وعلاقاتها الجيدة مع المقاومة الفلسطينية تحملوا وجود القناة مكرهين، ودفعهم ذلك إلى التراجع عن حظر القناة وموافقة الأمريكيين، الذين لجؤوا إلى قطر في مفاوضات سابقة مع الأفغان والإيرانيين.

قرر الاحتلال الإسرائيلي الذهاب إلى طريق الإرهاب الذي يجيده، فاستهدف الجزيرة في مدير مكتبها في غزة، فقام الإسرائيليون بعملية متعمدة ومقصودة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 فقصفوا بيت وائل الدحدوح، فاستشهدت زوجته وابنه وابنته وحفيده، وأكد الإعلام الإسرائيلي أن الرسالة مقصودة وأنهم حذروه وطلبوا منه مغادرة الشمال ولكنه لم يستجب.

ثم تكرر الاستهداف في ديسمبر/كانون الأول 2023 فقصفوا الدحدوح وزميله المصور سامر أبو دقة، أثناء التوجه لتصوير مجزرة للاحتلال في أحد أحياء خان يونس، فاستشهد زميله الذي ترك ينزف مدة 6 ساعات ومنع الاحتلال الإسعاف من إنقاذه، ونجا وائل مصابا في ذراعه بإصابة سببت له إعاقة فرفض الخروج من القطاع للعلاج وأصر على البقاء ليكمل رسالته الإعلامية.

ثم جاءت الضربة الثالثة هذا الأسبوع عندما قصفت طائرة إسرائيلية سيارة يستقلها الصحفي حمزة الدحدوح نجل وائل ومعه زميله الصحفي مصطفى ثريا فاستشهدا على الفور، وكان الاستهداف في منطقة رفح بجنوب القطاع، وهي منطقة أعلن الاحتلال من قبل أنها آمنة، وهذا يشير إلى أن القصف كان استهدافا مقصودا، وأن الأسلحة الذكية التي تقدمها الولايات المتحدة تستخدم لضرب الصحفيين ولا حصانة لأحد.

 

العزاء الأمريكي لوائل الدحدوح!

ولأن استهداف قناة الجزيرة وما تمثله ومحاولات قتل مراسليها في فلسطين له ردود واسعة في الأوساط السياسية والإعلامية الدولية سارعت الإدارة الأمريكية إلى إدانة ما جرى؛ ففي المرة الأولى عبر البيت الأبيض عن تعازيه لوائل الدحدوح في “فقده عددا من أفراد عائلته” وقال في بيان: إن “استهداف الصحفيين غير مقبول، وإن الرئيس جو بايدن يؤمن بدورهم وعملهم، والخطر الذي يتعرضون له”. وأشار البيت الأبيض إلى أن “الجزيرة شبكة عالمية، ونحن نقدر عملها والدور الذي تقوم به”، مضيفا أن “صوت قناة الجزيرة قيّم، ولديه تأثير في كامل المنطقة”.

وعقب العدوان الأخير واستشهاد حمزة الدحدوح أدان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الاستهداف وأعلن أسفه، وقال: “أنا أب، ولا يمكن أن أتخيل الفظاعة التي واجهها وائل الدحدوح، ليس مرة واحدة بل مرتين”، ونسي  الوزير الأمريكي أن القصف في المرتين كان بالصواريخ الأمريكية الذكية التي أرسلتها الولايات المتحدة إلى الاحتلال الإسرائيلي، وأن أمريكا شريكة في العدوان وما زالت تؤيده بالمال والسلاح والدعم اللامحدود.

قصة الشهيد الحي وائل الدحدوح -الذي ما زال مكتوبا له عمر- نموذج معاصر لشهود الكلمة الذين يريد الإسرائيليون إسكاتهم، لإخفاء جريمة العصر لمسح غزة من الوجود، وقد تكررت مع مئات الصحفيين الفلسطينيين الآخرين الذين استشهد منهم أكثر من 100 صحفي، واستشهدت عائلات العشرات منهم بقصف جبان متعمد، ونظرًا لحجم المأساة واتساع حجم الدمار والقتل لم يطلع العالم على كل قصص البطولة، التي ستروى بالتأكيد فيما بعد.

دور مجيد لقناة الجزيرة والقائمين عليها

نحن المسلمين نؤمن في عقيدتنا بأن الشهداء “أحياء عند ربهم يرزقون” كما ورد في القرآن الكريم، ونرى أيضا أن الحياة للقضية التي يموتون من أجلها، فالشرف كل الشرف لمن يدافعون عن قضايانا، والصحفي والإعلامي الذي يقوم بدوره في الدفاع عن الحق والحقيقة لا يقل عن باقي الصامدين في غزة المدافعين عن القضية المحورية، التي تساندها شعوب أمتنا وشعوب العالم التي استيقظت على الإبادة المروعة، وتنتفض الآن معنا مطالبة بوقف العدوان.

تحية لكل طاقم الجزيرة ولوائل الدحدوح وزملائه القابضين على الجمر، الذين يقفون كالجبال الراسخة أمام أعاصير العدوان في لحظة لها ما بعدها، لا يبالون بالموت الذي يحيط بهم من كل مكان، وهم ثابتون يواجهون القنابل بالكاميرا والكلمة، لا تخيفهم فرقعات الصواريخ، ولا تؤثر فيهم تهديدات محتلين جبناء جاؤوا من أوربا وأمريكا ليحتلوا أرض فلسطين ويهجروا أهلها.

سيكتب لـ”الجزيرة” أنها قامت بدور لن ينسى في لحظة فارقة من تاريخ أمتنا، فلولاها لكانت الإبادة قد تمت في صمت، وما كان أحد قد شعر بهزيمة الاحتلال وانتصارات المقاومة الباسلة، ولكان قادة الاحتلال ومن وراءهم من قادة الغرب قد حققوا خططهم بالسيطرة على غزة وأكملوا خطة التهجير وإبادة من بقي.

لقد أثبتت قناة الجزيرة أن فضائية واحدة تقدم الحقيقة أقوى من القنبلة الذرية لأنها تعيد بناء العقول، وتفسد خطط الصهيونية للسيطرة على البشر بوسائل شتى، فاليوم أعيدت قضية فلسطين إلى الواجهة مرة أخرى، وأعادت التغطية الإعلامية للصمود الفلسطيني الاحترام للعالم العربي.

الرسائل اليومية التي تبثها الجزيرة من غزة أعادت برمجة العقول والقلوب، وهذا التغير له ما بعده، فما كان من تطبيع وخذلان وانهزام في السابق لم يعد ممكنا أن يستمر في مواجهة شعوب غاضبة لن تتسامح مع أي رجوع إلى الوراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق