ملف| يا ليت غزّة في الجاهلية! (7)
قبل الإسلام، وقبل أي وصية دينية، قبل حديث "فلا يخذله ولا يسلمه"، وقبل الآية الكريمة (وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره)، وبعيدًا عن مدى الإيمان والالتزام، وبعيدًا عن مدى قربك من قضية أو بعدك عنها، كان العرب قديمًا، منذ الجاهلية (على فسادهم وسوئهم، وقتلهم حتى أولادهم) يجيرون الضعيف، ويغيثون الملهوف، ولو كان من خصومهم، ولو كان بينهم وبينه "ما صنع الحداد"، دون أن يُشترط في جوار المغيث واستجارة المضيوم جيرةُ المكان وقربه، وإنّما كان يكفي أن يستجير فلانٌ بفلان حتى يجيره، ولو كان بينهما مسيرة شهر، فيأمنه، ويبلغه مأمنه؛ ولا يعتدينَّ عليه أحدٌ، ولو كان ثأرًا، لأنه كأنّما حينها اعتدى على من أجاره، وتعدّى على شرفه وشهامته واسمه.
حتى بلغ بهم هذا الخلُق أن يجبر بعضهم "الجراد" المارّ فوق أرضه، فلا يصطاده أحدٌ إلا حين ينتقل إلى كلأ غيره، وبعضهم يجير "الإبل" والقوافل من أن يُعتدى عليها، وكان لديهم استعدادٌ لأن يجيروا "كلبًا" التجأ إليهم، وبعضهم يجير أعداء العرب من الفُرس، حتى أهل الحبشة من غير العرب كالنجاشيّ، أجار المسلمين الذين لجأوا إليه، وهم أبناء دعوة يخشاها مَن في مكانه وملكه. وكان العرب يجيرون حتى من استجار بقبورهم، فأجار الفرزدق امرأةً من بني جعفر بن كلاب، وقد هجا قومها، فخافت أن يذكرها بسوء، فقال حين استجارته بقبر أبيه:
وعجوزٌ تصلّي الخمس عاذت بغالبٍ.. فلا والذي عاذت به لا أضيرها
ولم يقتصر ذلك على جاهليّ وثنيّ، أو نصراني، أو مسلم، بل حتى اليهوديّ كان يجير، وأشهرهم كعب بن الأشرف، الذي كُتب فيه حين قُتل:
قتلتم سيدَ الأحبار كعبًا.. وقد كان يأمن من يجيرُ
فكان يجير من العرب أفجرُهم وأتقاهم، أحسنهم إسلامًا وأشدّهم كفرًا، مؤمنهم ونصرانيّهم ويهوديّهم، وإنّ من لا يجير من استجاره، كأنّما سقطت عنه رجولته ومروءته وعباءته، حتى يموت كمدًا على ضياع شرفه بين قومه، فكأنه بلا عهد، ولا ذمة، ولا مروءة، وأخيرًا بلا رجولة.
لو كانت غزّة محاطةً بقبائل عرب الجاهلية قديمًا، كانت لتنجو من تسعين بالمئة مما حلّ بها اليوم
كان ذلك في باب جوار العرب، الذين كانوا يحرّكون ساكنًا، وكانوا على عداواتهم وسوء بعض أخلاقهم، أصحاب شرف حتى في العداوة، إلا حالات قصوى من النذالة، لكنها على كلّ حال لا تصل إلى ما وصلنا إليه اليوم، بأنّ مدينةً تبعد بضعة آلاف أو مئات أو عشرات من الأميال عن حدود "العرب" الآخرين، تُباد إبادة جماعية كاملة، يجوع أهلها، ويعطشون، ويُقتلون، ويذبحون، ويُتركون، ليس دون إغاثة تمدّهم بسلاح أو عتاد، ولا حتى موقف سياسيّ، ولا تحرّك دبلوماسيّ شريف، وإنما دون حتى اللقمة، دون شربة الماء، دون إجلاء الجرحى المثخنين الأبرياء، دون استيعاب تلك المذابح كلّ يوم، ببعض الضمادات والشاش والقطن!
فنرى في الأفق قومًا يستجيرون جارًا لهم، على بعد حاجز وسلك شائك، اجتمعت فيه وحدة العرق والدِّين واللسان، فلا يجيرهم، ولا يمنعهم من عدوهم، وتستصرخه نساءٌ حوامل، وصغارٌ رضّع، وجرحى عجزة، وأطفالٌ عطشى، وشيوخٌ جوعى، ومقاتلون محاصَرون، وهم الذين يدافعون عن مسرى النبيّ وكلمة الله في أرضه، فلا يغيثهم.
وأنظر، وأرجع إلى الزمن الجاهليّ، فكأنه لم ترَ العربُ، من أدنى "الجاهلية" حسب زمانهم، حتى أقصى مبلغ الإسلام أسوأ من جوار كهذا، ولا أخسَّ خلقًا، وليتها كانت محاطةً بقبائل عرب الجاهلية قديمًا، فكانت غزّة لتنجو، من تسعين بالمئة مما حلّ بها اليوم، ولكن لأنّ جاهلية اليوم، مائة ضعف جاهلية الأمس البعيد، في خليط بين الجهل، والجهالة، والنذالة، والخيانة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق