وطن بلا إنسان، وإنسان بلا تاريخ
د. عبد الرحمن بشير
داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي
لدينا إنسان ينتمى إلى الأمة عضويا، وآخر ينتسب إليها وظيفيا، فالإنسان الأول يشعر بألمها وآمالها، ويفكر في حاضرها ومستقبلها، ويقرأ تاريخها ويعيش الألم والأمل معا، لأنه عنصر عضوي، أما الإنسان الآخر، فهو وظيفي، يشعر في داخلها الغربة، ولديه الشعور المؤكد بعقلية التعاقد كما يقول المسيري، فهو منعزل عن الذات، وغريب في الساحة، وعاجز عن فهم الموضوع، ومنفصل عن الزمان والمكان، وينتمي إلى خارج الذات بلا حدود، ولكنه يخفي ذلك في الحركية الزائدة،، يعمل بلا خطة للداخل، ولكنه يفكر كيف سيعيش في الداخل بعقلية تعاقدية منفعية، يرفع قيمته بين الناس، لأنه ليس أصيلا في الداخل، فلا يمكن أن يعيش بدون منفعة متبادلة، ولا يمكن أن يعيش بدون ثمن في حياته، فهو ليس راضيا في أن يقدم حياته ثمنا لوطنه، أو لفكرته، فهو طارئ، وليس أصيلا.
لدينا من يعيش في القفص القبلي بلا حدود، ومن يعيش في القفص الحركي والدعوي بلا سقف، ومن يعيش في داخل الحدود المصطنعة من قبل الاستعمار بلا عقل، يقدس الوطن بلا مواطن، ويعظم الأرض بلا إنسان، ويضخم الحاكم بلا فكر، ويمنح التنظيم أولوية ولو كان التنظيم خاليا من التجديد.
الوطن مهم، ولكن الإنسان أهم، والأرض مهمة للغاية، ولكن الفكرة أهم منها ألف مرة، فقد هاجر نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام من وطنه لأجل فكرته، ولكنه لم يتنازل عن فكرته لأجل وطنه، فالوطن يكون عظيما بالفكرة، والارض تصبح مهمة بالإنسان، لأن الإنسان هو غاية الرسالات، وموضع الخطاب الرباني، فلا مستقبل لبلد بلا فكرة، ولا نهضة لوطن بلا إنسان مكرم، ممكن أن نبني الأحجار، ولكن ليس من السهولة بناء الإنسان، فالإنسان قبل الحجر.
لقد كتب مالك بن نبي رحمه الله إن من شروط البناء الحضاري، الإنسان، والتراب، والوقت، ولكن الحضارة لا تتحقق في أي مكان، ولا عند أي إنسان، ولا يمكن الاستفادة من الوقت كما ينبغي عند أي إنسان، وفي أية ظروف، ولهذا، يجب أن يكون هناك منهج ينفخ في الإنسان روحا جديدة، وفكرة حية، ويصنع له أملا، ويضع له الشروط، ولا بد من بناء إنسان جديد لديه امكانيات في التعامل مع السنن، وعنده المقدرة في القراءة والتفكير، ويمكن له العمل في الظروف الصعبة، ولا بد من الاستفادة في الوقت المتاح، ومن هنا علمنا أن الوحي لم يتحدث عن الزمن المجرد، بل تناول عن السرعة، والمنافسة، والسبق، وما أشبه ذلك، لأجل تحقيق نهضة في الوطن، فلا قداسة للحجر، ولا للجبال، ولكن القداسة للفكرة التي تصنع الحياة، وتكرّم الإنسان، وتدافع عن الوطن والتاريخ لصناعة المستقبل.
يمكن أن تكون وطنيا بلا حقوق، ويمكن أن تكون إنسانا بلا أفكار، ولكن لا يمكن أن تصنع حياة في الوطن، فالوطنية لا تعنى تعاقدا بلا حقوق، ولكن كذلك لا تعنى عملا بلا غاية، هناك فرق بين الوطنية والمواطنة، فالأولى قد تكون عنصرية، والثانية قد تكون حقوقا بلا جذور، نحن نحتاج إلى الجمع بينهما، كن مواطنا يبحث عن الحقوق، وكن وطنيا لا تعاقديا يدافع عن بلده حتى الموت، وهنا مكمن الخطورة.
نحن اليوم نطالب من الحكام أن نعيش، والحكام يطالبون منا أن نصبح عبيدا، هنا نجد العلاقة بين الناس والحاكم في العالم الإسلامي غير صحية، وكذلك في أفريقيا، العلاقة بينهما وظيفية، وليست عضوية، ومنفعية، وليست دستورية، ووقتية وليست أبدية، فالحاكم يمنح البيوت المكونة من الأحجار، فيفرح بعض الناس بهذا، ويعطي الأجور من خزينة الدولة، ويجعلها منّة منه، وبهذا يصبح مالكا للدولة، ويمنح الشعب غير الواعي مقابل ذلك الطاعة بلا حدود، ومن هنا يصبح الشعب عبيدا له، فهذه العلاقة غير صحية، وبالتالي تصبح الدولة هشة، وتستعد للرحيل، بل الموت، هل رأيتم لماذا يصبح الإنسان في بلادنا منافقا سياسيا؟
في الغرب اليوم صراع بين رؤيتين، رؤية تقدس الدستور، وأخرى تقدس العرق، فالرؤية التى تحترم الدستور تصنع ثقافة المواطنة، والثانية تصنع الوطنية الزائفة، فالإنسان الأبيض هو الوطني، أما الآخر فهو طارئ، ومن هنا نجد الفكر الشعبوي (Populisme) ينتشر بقوة، والسبب هو أن الفكر الغربي يمر في مرحلة عصيبة، وفي أزمة، ولكن مع ذلك هناك تيار عريض يعتقد أن العنصرية مرض الحضارة، ومن هنا يجب مواجهتها بالفكر، وبالعمل.
عندنا مدرسة اسمها (المدخلية) تقدس الحاكم، وتؤول النص لصالح الحكام، وتجعل الوطن حديقة خاصة للحاكم، والمواطن عبد من عباد الحاكم، ومع هذا، فهي تكفر المخالف، وتحارب الفكر الحر، وترفض تكوين الجماعات، والأحزاب، لأنها تريد أن يكون الناس، كل الناس في جماعة الحاكم، ولا تفرق بين الدولة الدينية والعلمانية، فهي تمنح الحاكم العلماني حقوق الخليفة، وتمنح الرئيس الذي لا يعتقد حاكمية الوحي حقوق عمر بن الخطاب، ومن هنا فهي تعيش في زمن آخر، ولكنها ترفع صوتها في زمن الرويبضات.
إن الزمن ليس لصالح الأغبياء الذين يتحركون بلا مشروع، وبلا برنامج، فالزمن ليس لصالح الحكام الذين يحكمون الناس بلا أفكار، قد يكون عند بعضنا أقوياء، ولكنهم في الداخل ضعفاء، وهم يذهبون إلى الموت، بل يعيشون في الموت السريري الحضاري، فهم يقدمون للناس الأشياء التي ستنتهي قريبا، ولكنهم لا يملكون منح الشعوب (الحياة) من جديد، فقد بدأ الزمن يلفظ الأغبياء بقوة، ولكن ملاحظة ذلك يحتاج إلى معرفة في السنن الكونية والاجتماعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق