عادات العقل
يتيح هذا الكتاب المثير التعرف على طريقة توجه الطلاب نحو كيف يفكرون ويتصرفون بذكاء حينما لايعرفون الأجوبة. كما أنه يتعمق في دراسة 16 عادة من عادات العقل ويبين أهمية تنمية هذه العادات كجزء أساسي من النجاح اليومي والتعلم المستمر.
قراءة أ.د.علي أسعد وطفة
عندما يتوهج العقل تبدأ مسيرة الحضارة الإنسانية وتنطلق شعلتها، وعندما يخبو بريقه تبدأ هذه الحضارة بالسقوط والتداعي والانهيار. وعندما تريد أمة أن تبني حضارتها فإنها تناشد العقل وتستلهمه وتستهديه في غايتها، لأن العقل يشكل مبتدأ الحضارة الإنسانية وخبرها. فالحضارة الإنسانية تدين للعقل الإنساني الذي كان هاديا لها وملهمها عبر العصور. وعندما ترفع أمة شعار العقل والعقلانية فإنه تضع قدميها على طريق النهضة والحرية والانطلاق. لقد سمي عصر النهضة الغربية في القرن الثامن عشر عصر التنوير من منطلق الإيمان بقدرة العقل على تحرير الإنسانية من قهرها وعدميتها وإخراجها من ظلاميات العصور الوسطى. ولم تكن الحضارة الإغريقية القديمة ممكنة لولا هذا الإيمان الذي لا يضاهيه شيء بقدرة العقل وإمامته وهدايته. وكذلك هو حال الحضارة العربية التي كان فيها للعقل الإنساني صولته وجولته حتى إذا ما تداعى الإيمان به آل حال الأمة إلى وهن وفوضى وعدمية وظلام وخراب.
فالكتاب الذي بين ايدينا لا يتحدث عن أهمية العقل لأن هذه الأهمية أمر تقره التشريعات والسنن، ولكن وجه الأهمية فيه أنه يبين الجوانب الخفية الممكنة لعملية إيقاظ العقل ومن ثم تفعيل طاقته في سبيل بناء الإنسان الناقد والمفكر والفاعل. وهذه الحقيقية تتناغم تماما مع شعار عصر النهضة الذي رفع شعار العقل والعقلانية ومن ثم العلم والعلمانية في مواجهة تحديات الكنيسة والظلام الذي فرضته العصور الوسطى الكنسية.
لقد رفع كانط شعاره المعروف " أعمل عقلك " وكان بهذا الشعار يريد أن يوقظ العقل الغربي ويخرجه من دائرة الوصاية التي أثقلت عليه بالتراجع والكسل. كان كانط في هذا السياق يدرك أن العقل الإنساني قائم وموجود وقادر، وبالتالي فإن المسألة ليست في وجوده أو في إمكانياته بل كانت في فعله ونشاطه. وهذا يعني أن الأهمية تكمن في عملية إيقاظ العقل والانتقال به من حالة السلبية والوصاية إلى حالة الفعل والنشاط والحيوية. وهذا يعني أن كانط كان يعمل على كسر طوق الوصاية التي فرضت على العقل وأن يحقق لهذا العقل شروط الفعل والانطلاق نحو الآفاق الأرحب لعقلانية إنسانية تفيض بالحضارة والحرية والتقدم.
لم يكن العقل في الحضارة الغربية بدعة ولم يكن جديدا، وإنما الجديد في العقل هو طريقة تفعيله واستخدامه وتوظيفه والموقع الذي يحتله في المجتمع والحضارة. وعندما يأخذ العقل موقع الصدارة ويكون في محور الأهمية فإنه ينطلق ويحلق وتنطلق معه الحضارة إلى آفاقها الأرحب. وتأسيسا على ما تقدم كان شعار الأنوار: تجرأ على استخدام عقلك. فالإنسان ذاته مسؤول عن قصوره، لأن هذا القصور لا يرجع إلى عيب في العقل، بل إلى الافتقار إلى القرار والشجاعة في استعماله دون وصاية الآخر.
ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى أهمية هذا الكتاب الذي يؤكد بالمطلق أهمية تفعيل العقل والانتقال به من حالة السلب إلى حالة الفعل ومن وضعية التلقي إلى وضعية النشاط والفعل ومن حالة الخمول إلى حالة الحيوية ومن حالة الاستسلام إلى حالة التمرد ومن وضعية القهر والوصاية إلى وضعية الحضور والشماركة، ومن منطق الانتظار إلى منطق المبادرة.
هذا ما يسعى إليه الكتاب حيث يؤكد أهمية تمرس العقل بالابداع والنشاط والحيوية والفعل والقدرة والاقتدار والمشاركة وهي حالات تلتئم في وضعية يمكن أن تعبر عن مقولة كانط الشهيرة تجرأ على استخدام عقلك وانتقل به من حالة الوصاية إلى حالة الممارسة الحرة.
يقع الكتاب في مئتي صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن سبعة مباحث أساسية تدور حول طبيعة العقل وعاداته وآليات أشتغاله. والكتاب هو الكتاب الأول في مجموعة مكونة من أربعة كتب أساسية متكاملة منهجيا عن عادات العقل Habits of Mind وطرق تعليمها وتقييمها وتكاملها. وقد صدرت هذه المجموعة عن جمعية الإشراف وتطوير المناهج(Ascd) في الولايات المتحدة الأمريكية. وقامت مدارس الظهران الأهلية بتبني ترجمة هذه الكتب الأربعة إلى اللغة العربية فأضافت إلى المكتبة العربية نسغا معرفيا يغني الثقافة التربوية ويرفدها بمنظومة من الأفكار الحيوية التي تتعلق بمنهجية التفكير وطرق النظر وطبيعة العقل. ومن هذه الزاوية تتبدى الأهمية التربوية الكبيرة لمثل هذا العمل الذي يشكل دفعة حيوية في فضاء الفراغ الكبير الذي تعانيه المكتبة العربية في ميدان العقلانية ومنهجيات التفكير.
في هذا الكتاب نجد لمسا لوضعية القهر الذي تعيشه أنظمتنا التربوية التي تنأى بالعقل عن وضعية الإبداع وتضعه في زنزانات القهر والعبودية عبر أساليب وممارسات تربوية خانقة للعقل ذاهبة بالإبداع. فعادات العقل كما نلمسها في هذا الكتاب هي مجموعة من العادات التي يمكنها أن تجعل العقل نقديا حرا وصيا على نفسه قادرا على المشاركة ، وهذا يضرب على عصب المعاناة التربوية في المجتمعات العربية المعاصرة.
طبيعة الذكاء وعادات العقل:
في المبحث الأول من هذا الكتاب وتحت عنوان " مناظير متغيرة تجاه الذكاء " يقدم الكاتب عرضا متنوعا لمفهوم الذكاء يغطي الاتجاهات الفكرية السائدة في هذا الحقل المعرفي، وهو في سياق عرضه هذا يقدم رؤية نقدية جديدة تتضمن رفضا للتصورات التقليدية عن الذكاء وتعريفاته واختباراته الكلاسيكية. ويتكاثف النقد حول النزعة القياسية أو التكميمية التي تحاول محاصرة الذكاء في أرقام وقياسات ومدرجات تقليدية عرفناها عند بينيه وسيمون وثورندايك وسبيرمان الذين وضعو للذكاء تصنيفات ومقاييس تحاصر العقل وإمكانيات التفكير عند الإنسان. وفي الرؤية الجديدة التي يحاول الكاتب أن يقدمها يركز على أهمية عادات العقل وفعالياته التربوية ويربط جوهريا بين هذه العادات والإمكانيات اللامتناهية لتطوير الذكاء الإنساني. لأن الإنسان بحسب المؤلف الذي يمتلك مهارات العقل يمكنه أن يطور بصورة مستمرة قدراته العقلية وأن يحقق درجة عالية من القدرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء.
يحاول الكاتب عبر هذه الرؤية الجديدة أن يحطم الرؤية الكلاسيكية التي ترسم للعقل الإنساني حدودا وخطوطا حمراء لا يمكنه أن يتجاوزها أبدأ. لأن العقلية التقليدية التي ترسخ مفهوما محددا حول إمكانية الذكاء والعقل تدفع الإنسان إلى عتمة الإحساس بالقصور والتدني والهامشية. وهنا يجد الباحث أن تحطيم هذه العقلية الكلاسيكية يشكل منطلقا جديدا نحو إيمان لا حدود له بقدرة العقل على الانطلاق والابداع والبناء والمشاركة. ,بعبارة أخرى عندما يعتقد الإنسان بمحدودية ذكائه فإن هذا سيدفعه إلى الانكفاء والتراجع والاحساس بعدم القدرة على أن يكون افضل مما هو عليه. وعلى خلاف ذلك عندما يؤمن هذا الإنسان عينه بأن الذكاء الذي يمتلك عليه يتمثلفي قدرات لا تستنفد فإنه سينطلق إلى الحدود القصوى للفعل والنشاط والحركة، وبالتالي فإن ذلك سيكون في أصل العطاء والمبادهة والمبادرة والابداع. فالأطفال يصبحون أذكياء عندما يعاملون عل هذا الأساس كما يقول ريزنيك وهول. ومن المؤكد أننا عندما نثق بذكاء الأطفال وقدراتهم فإن هؤلاء الأطفال سيصلون إلى أعلى درجات القدرة والابداع.
ومن أهم الأفكار التي يسوقها الكتاب في هذا المستوى أن الذكاء يمكن تعليمه لأن الدماغ يعمد إلى مزيد من الارتباطات بين خلاياه ويطور نفسه بمقياس التفاعلات التي يجريها مع نفسه ومع البيئة التي تحيط به. والمهم في مفهوم الذكاء التأكيد على نوعيته وليس على كميته ومقاديره وهذه هي القضية التي يؤكدها جيلفورد وهوبتنر حيث كانا يتساءلان عن نوع الذكاء وليس عن مقداره. فالذكاء كما يراه رفين فورشتاين قابل للتعديل وأنه يمكن للفرد أن يتعلمه على مدى الحياة وعلى هذه الصورة يمكن القول بأننا جميعا موهوبون وأننا جميعا في الوقت ذاته معوقون. وفي هذا القول تعبير عن رفض المعتقدات التقليدية حول الذكاء الذي يتميز بالثقبات والاستقرار.
يستعرض الكتاب أنواعا متعددة من الذكاء وفقا لتعدد النظريات والاتجاهات الدائرة حول هذه القضية. فالذكاء العاطفي يتضمن فعالية العاطفة والذكاء إذ لا يمكن الفصل بين العواطف والذكاء ولا يمكن تنمية الواحد منهما دون الاخر كما يعتقد دانييل جولمان. وهذه الصورة تطرح نفسها فيما يتعلق بمسألة الذكاء الأخلاقي لأن التوازن الأخلاقي يدخل في صميم القدرة العقلية كمتىيعتقد روبرت كولز.
يتطرق الكتاب إلى الممارسات التربوية التقلدية فيما يتعلق بالذكاء. فالذكاء بصورته التقلدية يركز على معلومات الطالب, من دائرة الهجوم على هذه الممارسات التقليدية يركز الباحث على نوع السلوك الذي يبديه الطلاب عندما لا يعرفون الإجابة الصحيحة. وهذا يعني أن الذكاء بمعاييره الجديدة يتمحور جول بناء الموقف النقدي للطفل والطالب من المعرفة والحياة وكيف يفكرون بمرونة وقدرة في الأشياء التي تحيط بهم وفي القضايا التي تثير اهتمامهم.
ومن أجل تطوير الذكاء وإيصال العقل إلى منهى غايته النقدية وإلى غايته في مستوى الإبداع والعطاء يجب أن نجعل العقل يتمرس في ستة عشرة عادة عقلية يمكنها بالـاكيد ان تنهض بالعقل إلى أعلى درجات سموه وأصالته. وهنا يورد الكااب ستة عشر عادة عقلية متتابعة متكاملة قادرة على إيقاظ العقل وتفعيله في الحياة المدرسية:
1- المثابرة.
2- التحكم بالتهور.
3- الإصغاء بتفهم وتعاطف.
4- التفكير بمرونة.
5- التفكير حول التفكير(فوق معرفي).
6- الكفاح من أجل الدقة.
7- التساؤل من أجل الدقة.
8- تطبيق المعارف الماضية على أوضاع جديدة.
9- التفكير والتوصيل بوضوح ودقة.
10- جميع البيانات باستخدام جميع الحواس.
11- الخلق، التصور، الابتكار.
12- الاستجابة بدهشة ورهبة.
13- الإقدام على مخاطر المسؤولة.
14- إيجاد الدعابة.
15- التفكير التبادلي.
16- الاستعداد الدائم للتعلم المستمر. ص8
يربط الباحث بين عادات العقل هذه وبين الذكاء المتعدد مع التاكيد ايضا على جوهر الاختلاف بينهما. ويسرد الكتاب عددا من صيغ الذكاء المتعدد مثل الذكاء اللفظي والذكاء الحركي والذكاء الموسيقي والذكاء المنطقي والذكاء المكاني والذكاء الطبيعي الذي يتصل بالطبيعة وقدرة المرء على التأمل فيها.
وفي نهاية هذا الجانب يصل الكاتب إلى نتيجة هامة قياسايا وهي " أنه يمكن غرس عادات العقل وصياغتها وتشغيلها وتعليمها وتربيتها ونمذجتها وتقييمها " ص 17.
وصف عادات العقل:
يبدأ هذا المبحث بقول يتقطر حكمة " عندما لا نعود نعرف ما علينا أن نفعل نكون قد بدأنا عملنا الحقيقي، وعندما لا نعود نعرف أي طريق نسلك تبدأ رحلتنا الحقيقية، فالجدول الذي تكثر في مجراه العوائق هو الذي يصدح بأجمل ألحان تدفق الماء وانسيابه, والعقل الذي يواجه التحديات هو العقل الذي ينهض إبداعا. فالعقل الجامد هو العقل الذي ينقطع على ذاته ويستريح في زوايا الضمور والتلاشي.
يعمل آرثر ل. كوستا في هذا الفصل على شرح عادات العقل الستة عشرة ويوصفها وينبه إلى غمكانية تطوير هذه العادات والكشف عن بعضها الآخر في سياق التجربة والعمل.
1- المثابرة: في وصفه للمثابرة وهي عادة العقل التي تأخذ مكانتها في صدارة العادات المذكورة يرى كوستا أن النجاح يرتبط بالنشاط والفعل، والناجحون هم أولئك الذين لا يقبلون الهزيمة ابدا إنهم هؤلاء الذين يقارعون ويواظبون ولا يتراجعون ابدا. وفي كل مرة يخفقون يعاودون الكرة مرة أخرى، هم أولئك الذين يضعون استراتيجيات بديلة لا حصر لها لمواجهة القضايا الصعبة والأمور الشائكة. إن بناء القدرة على بناء منهجيات واستراتيجيات عديدة ومتنوعة في مواجهة مختلف الاحتمالات دون كلل أو ملل تشكل واحدة من العادات الأساسية في عمل الذكاء وعمل العقل. وهذه القدرة على المواجهة والتحدي والتصدي والمثابرة والمواظبة عادة عقلية يمكن تعلمها ويمكن تعليمها ايضا وهي شرط ضروري لبناء العقل النقدي المنفتح على كل الاحتمالات.
2- التحكم بالتهور يمثل العادة الثانية في تصنيف عادات العقل، ووتضمن هذه العادة امتلاك القدرة على التأني والصبر والمصابرة. وهذه العادة تساعد الفرد على بناء استراتيجيات محكمة لمواجهة الحقائق واستخدام البدائل المحتملة أيضا، والابتعاد عن التهور والتسرع والفورية وقبول أي شيء يرد إلى الذهن حيث تقتضي هذه العادة معاودة النظر مرة ومرارا عديدة قبل الوصل إلى حكم نهائي أو إجابة متسرعة.
3- الإصغاء بتفهم وتعاطف: فالإصغاء هو بداية الفهم والحكمة تكون لمن من يمضي عمره مصغيا. وهذا يذكرنا بالقول العربي " إن بعض القول فن فاجعل الإصغاء فنا. فعلماء السلوك يولون أهمية كبيرة لفن الاصغاء حيث يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن قدرة الشخص على الإصغاء إلى شخص آخر – أي التعاطف مع وجهة نظر الشخص ألآخر وفهمها – تمثل أحد المستويات العليا للذكاء. وفي هذا يقول سينج إن الإصغاء التام يعني قدرة المرء على دراسة وتحليل المعاني التي توجد خلف الكلمات ووراءها وما في جوارها.
يقول كوستا في معرض انتقاده لأساليب التعليم " أننا تقضي 55% من حياتنا مصغين ومع ذلك فإن الإصغاء هو أقل شيء نتعلمه في المدارس " . وفي تأكيده على أهمية تعليم الطلاب والناشئة فن الإصغاء إلى الآخر يقول كوستي "نريد أن يتعلم الطلاب تعليق قيمهم وأحكامهم وآرائهم وانحيازاتهم ليتمكنوا من الاصغاء النقدي للآخر والتفكير المحكم فيما يقولون " ص 24. وهذا يعني أن فن الاصغاء ليس مجرد عملية بسيطة قوامها أن يفرد المرء أذنية ويسترخي في الاستماع إلى الآخر، فالإصغاء فعل نقدي تأملي وعمل ذهني معقد يتضمن كثيرا من الفعاليات والقدرات الذهنية.
4- التفكير بمرونة: يعد التفكير بمرونة كما يعلن آرثر كويستلر من أصعب عادات العقل مرونة وذكاء. ويعني بالمرونة فن معالجة معلومات بعينها على خلاف الطريقة التي اعتمدت سابقا في معالجتها. إنه لمن السهولة بمكان أن تعلم شخصا حقيقية جديدة، لكنك بحاجة إلى معجزة لتعلمه تحطيم عقلية قديمة أعتاد رؤية الأشياء من خلالها. وهنا يؤكد الكاتب أهمية الاكتشافات المذهلة المتعلقة بالدماغ البشري في قدرته على التغيير وابداع البدائل ثم في قدرته على اصلاح نفسه ليصبح أكثر براعة وقوة وقدرة واقتدارا. فالمرونة تعني القدرة على استخدام طرق غير تقليدية في حل المشكلات ومواجهة التحديات، وهذا ما يجب علينا أن نعلمه للأطفال.
5- التفكير المجرد: يمثل التفكير حول التفكير -( فوق المعرفي ) كما ترجمت هذه العبارة - القدرة على معرفة حدود ما نعرف وما لا نعرف، ويجسد هذا قدرتنا على تخطيط منهجيات متطورة في بناء معلومات جديدة وإعادة انتاجها. والتفكير فوق المعرفي يعني أن يصبح المرء أكثر إدراكا لأفعاله ولتأثيرها على الآخرين وعلى البيئة.
من المثير للإهتمام أنه ليس بالضرورة أن يصل جميع الناس مستوى العمليات المنهجية، فقد خلص عالم النفس الروسي ألكساندر لوريا إلى أن الكبار لا يفكرون جميعهم بطريقة فوق معرفية، إن السبب المرجح هو أننا لا نعطي انفسنا فرصة للتأمل في تجاربنا. بل إن الطلاب غالبا ما لا يتوقفون بعض الوقت ليسألوا أنفسهم لماذا هم يفعلون ما يفعلون، إذ نادرا ما يسألون أنفسهم عن إستراتيجياتهم التعلمية أو يقيمون كفاءتهم في الأداء.
6- الكفاح من أجل الدقة: إن الرجل الذي يرتكب غلطة ولا يصلحها يكون كمن قد ارتكب غلطة أخرى كما يقول كونفوشيوس. فالوصول إلى الدقة في أعلى مستوياتها رهان استراتيجي للتفكير الناقد. وهنا يجب على التربية أن تمكن الناشئة من عادات العمل المستمر من أجل الوصل إلى معرفة محكمة تتصف بالدقة والرصانه بعيدا عن التهور والتسرع. وهذا النوع من التفكير يذكرنا بقول ماريوكومو، وهو كاتب خطابات وسياسي بارز، إن الخطابات التي أكتبها لا تنتهي أبدا، ولا يوقفني عن الاستمرار في العمل عليها سوى موعد إلقائها. فالدقة هي شرط أساسي من الشروط الباعثة على بناء الروح النقدية في الفرد وتمكينه من انتاج معرفة عالية الجودة فائقة النوعية.
7- التساؤل وطرح المشكلات: كثيرا ما تكون صياغة مشكلة ما أكثر أهمية من حلها، فإيجاد الحل قد يكون مجرد مهارة رياضية أو تجريبية. أما طرح أسئلة واحتملات جدذدة والتمعن في مشكلات قديمة من زاوية جديدة فذاك يتطلب خيالا خلاقا ويبشر بتقدم حقيقي كما يقول ألبرت آينشتاين. ومن هنا يتوجب علينا أن نعلم الأطفال فن التساؤل وطرح المشكلات وإعادة بنائها. والأطفال أحيانا يطرحون مشكلات افتراضية تتميز بالأسئلة التي تبدأ بكلمة"إذا":
- ماذا تعتقد أنه سيحدث إذا....؟
- إذا كان هذا صحيحا فماذا سيجدث إذا.... .؟
- أما السائلون المحققون فيعرفون التضاربات والتناقضات والظواهر القائمة في بيئتهم ويسبرون غور الأسباب الدافعة لها:
- لماذا تخرخر القطط؟
- إلى أي ارتفاع تستطيع الطيور أن تطير؟
- لماذا ينمو شعر رأسي بسرعة بينما ينمو شعر ذراعي وساقي ببطء؟
- ماذا سيحصل إذا وضعنا سمكة مياه مالحة في حوض مياه عذبة؟
- ماهي الحلول الممكنة للنزاعات الدولية غير الحروب؟ ص 29.
8- تطبيق المعارف الماضية على أوضاع جديدة: توظيف المعرفة والاستفادة منها شكل متقدم من اشكال الذكاء المرتبط بعادات العقل. وهذا ينسجم مع قول توماس أديسون " لم أقع في الخطأ أبدا لأنني تعلمت من التجارب. فالناس الأذكياء يتعلمون من التجارب، وعندما تواجههم مشكلات جديدة محيرة تراهم يلجأون إلى ماضيهم يستخلصون منه تجاربهم، وغالبا ما تسمعهم يقولون هذا يذكرني بــ... إنهم يوضحون ما يفعلون حاليا بمقارنته بتجارب مشابهة مرت بهم في الماضي، أو بالإشارة إلى تلك التجارب ص29.
وكثيرا مانجد الطلاب يبدأون كل مهمة جديدة وكأنها تعالج لأول مرة، ونجد المعلمين يشعرون بالجزع عندما يذكرون الطلاب بأنهم سبق لهم أن حلوا مسألة مماثلة: لكن الطلاب لا يتذكرون بل يبدو عليهم وكانهم لم يسمعوا بها أبدا رغم أنهم كانوا يعملون على حل مسألة من نفس النوع! لذا يبدو الأمر وكأن كل تجربة سابقة قد وضعت في كبسولة فانقطع الاتصال بينها وبين ماجاء في الأوقات الماضية أو ما سيجيء في قادم الأيام. وتفكيرهم هذا هو ما يدعوه علماء النفس "المعرفة العرضية للواقع"( فورشتاين، راند، هوفمان،ميللر 1980) أي أن كل حدث من أحداث الحياة منفصل عن غيره ومنعزل بحيث لا يبقى له أي ارتباط بما قد أتى في ما مضى ولا علاقة له بما قد يأتي في المستقبل. أي أن ما يتعلمونه موضوع في كبسولة محكمة الإغلاق بحيث يبدون غير قادرين على استخلاص النتيجة من حادث وتطبيق ذلك في سياق آخر.
9- التفكير والتوصل بوضوح ودقة: تركز هذه العادة على أهمية التواصل اللغوي وهذا يذكرنا بقول فولتير المشهور: " إذا أردت أن تحاورني فحدد مفاهيمك " وهذا إشارة منه إلى أهمية التوصيل الدقيق والجيد لعملية المعرفة أو للأفكار التي يريد المرء إيصالها إلى الآخرين.
وهنا تلعب مقدرة المرء على تهذيب وتشذيب اللغة دورا مهما في تعزيز خرائطه المعرفية وقدراته على التفكير النقدي الذي يشكل القاعدة المعرفية لأي عمل ذي فاعلية ونجاعة. ومن شأن إثراء تعقيدات اللغة وتفاصيلها الخاصة في آن معا أن ينتج تفكيرا فاعلا. فاللغة والتفكير أمران متلازمان جوهريا، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. واللغة الغامضة ماهي إلا انعكاس للتفكير المضطرب، ولذا فإن الناس الأذكياء يكافحون من أجل توصيل ما يريدون قوله بدقة سواء أكان ذلك كتابيا أم شفويا، جاهدين ما استطاعوا كي يستعملوا لغة دقيقة وتعبيرات محددة وأسماء وتشابهات صحيحة. يكافحون من أجل تجنب الإفراط في التعميم والشطب والتشويه ويسعون بدلا من ذلك إلى دعم مقولاتهم بإيضاحات ومقارنات وقياسات كمية وأدلة.
10- استخدام الحواس: يجري التأكيد في هذا المستوى على أهمية توظيف الحواس وتنمية القدرات الحسية للمرء في عملية بناء المعرفة. فبعض الطلاب يقضون مسيرة الدراسة والحياة غافلين عن طبيعة المواد والأنغام والأصوات والأنماط الألوان التي تحيط بهم من كل جانب، في بعض الأحيان يخشى الأطفال لمس الأشياء أو توسيخ أيديهم، بينما لا يريد بعضهم أن يلمس شيئا ما مخافة أن يكون موحلا أو قذرا، ولذلك فإنهم يعملون في إطار ضيق من الاستراتيجيات الحسية لحل المشكلات راغبين"فقط في وصف ما ينبغي عمله دون توضيح عملي أو فعل تنفيذي" أو" يريدون أن يستمعوا دون أن يشاركوا" ص 31.
وهنا يلح الكاتب على أهمية بناء الحس النقدي عند الفرج وعند الناشئة لأن المعرفة لا تقوم إلا بمعطيات الحس وما يوجد في العقل هو منظومة إدراكات حسية قام بتحويلها إلى أنماط ذهنية وفكرية ومتقدمة. والغاية هنا هي كيف نوظف مدركاتنا الحسية توظيفا خلاقا في عملية بناء المعرفة وهذه هي أحدى أم العادات والمهارات التي يجب على العقل الناقد أن يكتسبها.
11- الخلق والابتكار: المستقبل ليس مكانا نحن ذاهبون إليه بل مكان نحن نبنيه كما يقول جون سكار. فمن طبيعة الناس الخلاقين أنهم يحاولون تصور حلول للمشكلات بطريقة مختلفة متفحصين الإمكانات البديلة من عدة زوايا، ويقدمون عل المخاطر وكثيرا ما يوسعون حدودهم المدركة، إنهم منفتحون على النقد ويقدمون منتجاتهم للآخرين كي يحكموا عليها ويقدموا تغذية راجعة لمبدعيها الذين يبذلون كل جهد ممكن لتهذيب أساليبهم والارتقاء بها. لا يعجبهم البقاء في الوضع القائم بل يثابرون من أجل تحقيق المزيد من الطلاقة والتفصيل والجدة والبساطة والحرفية والكمال والجمال والتناغم والتوازن. ويعتقد بعض الناس أن الخلاقين يولدون هكذا "وأن هذه الموهبة موجودة في موروثاتهم الجينية وكروموسوماتهم". ولكن الحقيقة هي أن الابتكار والابداع عادة ذهنية وعقلية مرهونة بالوسط الذي يعيش فيه الطفل، وأنه يمكن لنا عبر التجربة والممارسة والتعليم أن نجعل الطفل قادرا على الابتكار والابداع وأن نجعل من الابداع فطرة في الإنسان عبر التجربة والعمل.
12- الدهشة والرهبة: إن أجمل تجربة في العالم هي التجربة التي يكتنفها الغموض والإبهام كما يقول ألبرت آنشتاين. إذ لا يكتفي الناس الفاعلون بتبني موقف "أناأستطيع" بل يضيفون إليه موقف "أنا أستمتع". وتجدهم يسعون إلى المشكلات ليحلوها لذواتهم وليقدموا تلك الحلول للآخرين، ويبتهجون لتمكنهم من وضع مشكلات ليحلوها بأنفسهم. وتبلغ متعنهم في مواجهة تحدي حل المشكلات ذروتها لدرجة أنهم يسعون وراء المعضلات والأحاجي التي قد تكون لدى الآخرين، ويستمتعون بإيجاد الحلول بأنفسهم ويواصلون التعلم مدى الحياة. فنحن نريد طلابا لديهم حب الاستطلاع والتواصل مع العالم من حولهم والتأمل في التشكيلات المدهشة، طلابا يشعرون بالانبهار أمام برعم يتفتح، والإحساس بالبساطة المنطقية للترتيب الرياضي في طبيعة الشياء وفي بنيتها.
13- المسؤولية والإقدام على مخاطرها: في كل مرحلة من مراحل التطور الأمريكي كانت هناك مخاطر محسوبة، فالرواد الأوائل لم يخافوا من الفيافي، ورجال الأعمال لم يخشوا الفشل، والحالمون لم يخافوا من الإقدام على العمل.
وفي مدارسنا كما يقول الكاتب " بعض الطلاب يعزفون على المخاطرة وبعضهم الآخر يتجنبون الألعاب وتعلم شيء جديد وتكوين صداقات جديدة لأن خوفهم من الفشل أقوى بكثير من رغبتهم في المخاطرة أو المغامرة. ويتعزز هذا بالصوت العقلي الذي يخاطبهم من دواخلهم قائلا، "إذا لم تجرب فلن تخطئ" أو "إذا جربت وأخطأت فسوف يعتبرك الآخرون غبيا". أما الصوت الآخر قد يقول، "إذا لم تجرب فلن تعرف الصواب"، وهذا يجعل الفرد حبيس الخوف وعدم الثقة. مثل هؤلاء الطلاب ينصب اهتمامهم على معرفة ما إذا كان جوابهم صحيحا أم لا أكثر من اهتمامهم بمواجهة التحدي الذي تفرضه عملية حل المشكلات والاهتداء إلى الجواب بمرور الزمن: ولذلك تراهم يبتعدون عن المواقف الغامضة. إنهم بحاجة إلى اليقين أكثر من الميل نحو الشك. وهنا يتوجب علينا ان نستوحي في الناشئة صوت الإقدام وصوت كانط عندما يقول تجرأ واستخدم عقلك نريد أجيالا مغامرة خلاقة بناءة لا تخشى الفشل ولا ترهب من فعل المغامرة الخلاقة وهذا أمر يمكن تعويده للطلاب والناشئة بسهولة.
14- التفكير التبادلي: ولعل من أهم التوجهات في عصر ما بعد الصناعة هو المقدرة المتزايدة على التفكير بالاتساق مع الآخرين، ,وأن نجد أنفسنا أكثر تواصلا مع الآخرين وأكثر حساسية تجاه احتياجاتهم، لقد أصبح حل المشكلات على درجة عالية من التعقيد لدرجة أن لا أحد يستطيع أن يقوم به لوحده. إن العمل في مجموعات يتطلب القدرة على تبرير الأفكار واختبار مدى صلاحية استراتجيات الحلول على الآخرين. ويتطلب أيضا تطوير استعداد وانفتاح يساعد على تقبل التغذية الراجعة من صديق ناقد، فمن خلال هذا التفاعل يواصل افرد والمجموعة عملية النمو الذهني والعقلي.
15- الاستعداد الدائم للتعلم: الجنون هو أن يواصل المرء عمل نفس الشيء مرة بعد أخرى وأن يتوقع نتائج مخالفة كما يقول ألبيرت أنشتاين.
إننا نتمنى أن نرى طلابا خلاقين وأناسا مشوقين للتعلم. إن عادة العقل تتضمن تواضعا قوامه أننا لا نعرف وذلك أرقى أشكال التفكير التي يمكن أن نتعلمها. وأننا ما لم نبدأ متواضعين فلن نصل إلى أي نتيجة معرفية أو ذهنية. فالتعلم المستمر مدى الحياة وتعلم التعلم المستمر هو شعار ترفعه اليوم التربية الحديثة والمؤسسات التربوية العالمية. والتعلم الستمر أمر يمكن تاصيله في العقل عادة تتصف بطابع الديمومة والاستمرار.
16- توليد المعرفة: من الأشياء الجميلة المتعلقة بالتعلم هو أن لا أحد يستطيع أن يأخذه منك كما يقول كينج. ومع أن كل عقل بشري قادر على توليد وعي ذاتي، فإن الناس لا يتساوون في استعماله". فهناك في الواقع أشخاص قليلون يصلون فعلا إلى مرحلة التعقيد المعرفي الكامل ونادرا ما يكون ذلك قبل بلوغ أواسط العمر.
عادات العقل هذه تتجاوز بل وتسمو فوق جميع الأشياء المادية التي يتعلمها المرء في المدرسة. فهي خصائص تميز من يصلون إلى القمة في أدائهم في جميع الأماكن: المنزل، المدارس، الملاعب، المنظمات، القوات المسلحة، الحكومات، دور العبادة، الشركات.
وهذه العادات تريد أن تعلم الحقيقية وأن تجعل الأطفال قادرون على أبداعها وتوليدها من جددي. " لا تعلموا هؤلاء الأولاد والبنات سوى الحقائق فهي وحدها المطلوبة في الحياة. لا تزرعوا غيرها واجتثوا ما عداها. ونحن لا نستطيع تشكيل عقول الحيوانات العاقلة إلا على أساس من الحقائق ولا شيء غير ذلك سيكون مفيدا لهم كما يقول تشارلز ديكنز. والمعرفة الحقة سرعان ما تتدفق عندما نشعل النار في فرن العقل بالحقائق.
لماذا نعلم عادات العقل: في المبحث الثالث يبحث الكتاب في الغاية من تعليم عادات العقل. والغاية هي أن يكون المرء مبدعا وخلاقا وإنسانا في جوهر الأمر لأن التفكير المبدع خاصة إنسانية خلاقة في الإنسان. فعادات العقل المنشودة تؤكد بصورة عامة على حب الاستطلاع والمرونة وطرح المشكلات، وصنع القرارات والتصرف المنطقي، والخلق والإقدام على المخاطر وسلوكيات أخرى تدعم الفكر النقدي والخلاق. ومن الخصائص البارزة لجميع هذه القوائم احترام قدرات الناس على صنع اختياراتهم بعد الحصول على المعطيات وعلى توجيه سلوكياتهم الفكرية.
يقول شوبنهاور: إن المتطلبين الرئيسين لإجراء الفحص الفلسفي هما، أولا، امتلاك الشجاعة لطرح جميع الأسئلة دون إبعاد أي منها، وثانيا، تحقيق وعي واضح لأي شيء مقبول دون عناء بحيث يمكن فهمه بصفته مشكلة". إلا أن الناس يمتلكون أنواعا مختلفة من القدرات لكنهم لا يستعملونها أو على الأقل لا يستعملونها بطريقة سليمة.
فعلى سبيل المثال لدى الكثير من الناس القدرة على صنع قرارات حكيمة، لكن ليس هناك ما يدفعهم إلى ذلك، كثير من الناس يعرفون كيف تطرح المشكلات والأسئلة لكنهم كثيرا ما لا يرون الغرض من وراء ذلك. وكثير من الناس يمتلكون المقدرة على الإصرار والمثابرة لكن تنقصهم الإرادة أو الميل إلى ذلك. وكثير أيضا من الناس يمتلكون المقدرة على التفكير مع التعاطف لكنهم لا يرون في ذلك جزءا ثمينا من عملية التعلم.
أين هو مكان العاطفة: تذكرنا العواطف التي ينطوي عليها التثمين والالتزام بالسلوكيات الفكرية مثل عادات العقل بما يدعوه عالم النفس ر.س.بيترز(1974) "العواطف العاقلة". إن هذه معتقدات والتزامات جياشة بالعاطفة تكمن في أساس السعي وراء المعرفة، وهي تتضمن عاطفة نحو الحقيقة والصدق، وحبا للدقة وبغضا لعدم الأمانة الفكرية. إنها عواطف صادقة لأنها تدخل إلى عمق المشاعر وتلعب دورا قويا في تحفيز السلوك. يلاحظ الفيلسوف شيفلر(1977) أن العواطف العاقلة تسهم في تسهم في تكوين الضمير الفكري الذي يتواجد على شكل اهتمام عميق بأن يكون المرء صادقا قدر الإمكان تجاه الحقيقة الواقعة، وانزعاج من الزيف وعدم الأمانة الفكريين. فبدون الضمير الفكري يصبح الذكاء أعمى، ومع أن العواطف العاقلة ليس إحدى عادات العقل بنفس المعنى الذي نقوله عن المثابرة وحل المشكلات والتفكير فوق المعرفي فإنها تفيد كبوصلة عاطفية ترشدها وغيرها من السلوكيات الفكرية المشابهة إلى الاتجاه الصحيح.
الشمولية: عادات العقل كما يبين الكتاب تتصف بشموليتها وتكاملها وتداخلها أيضا. فعلى سبيل المثال نجد أن عادة التفكير بمرونة والقدرة على رؤية الأشياء من مناظير متنوعة أمر مهم عند قيامك بتفسير الظواهر على نحو علمي. وهناك عاملان يجب أن نتذكرهما. أولا، إن الميل إلى التحويل هو بحد ذاته عادة عقلية وهو ما أطلق عليه في هذا الكتاب "تطبيق المعارف الماضية على أوضاع جديدة".
في هذا الكتاب تقدم عادات العقل على أنها سلوكيات فكرية تؤيد وتدعم التفكير النقدي. والتفكير النقدي مناسب أكثر ما يكون للثقافة الديموقراطية لأنها تمثل أفضل تدريب للمواطنين المطلعين الأذكياء الديموقراطيين. والتفكير النقدي يتضمن أيضا طرح الأسئلة وسبر غور الافتراضات والبحث عن الأسباب وهذا ليس موضع تقدير في بعض الثقافات السلطوية. لذا فعندما يواجه الطلاب الذين يعيشون هذه الثقافات في بيوتهم التفكير النقدي في المدرسة فقد يسبب لهم ذلك الانزعاج والاحباط.
في المبحث الرابع: يتحدث الكتاب عن عادات العقل وكيفية تاصيلها في المناهج المدرسية ويسرد الآليات والأنماط الممكنة لفعالية منهجية تمكن هذه لمناهج من تفعيل عادات العقل الإيجابية والانتقال بالعقل من حالته السلبية إلى حالة فاعلة نشطة وجريئة في الكشف عن الحقيقية وفي التضحية من أجلها.
وفي البحث الخامس نجد تناولا لأخلاق العمل وعلاقتها الجوهرية بعادات العقل. وهنا يجري التأكيد على أهمية التفاعل الاجتماعي بصيغه الإنسانية والديمقراطية التي تشحن العقل بروح نقدية فاعلة في ميدان العمل والانتاج والابداع.
وفي المبحث السادس يتناول آرثر وكاليم تأثير عادات العقل والنتائج التي يمكن أن يقود إليها في سياق اقتصاد معرفي. فعندما يتمكن مجتمع ما من ترسيخ هذه العادات يتحول إلى مجتمع منتج وفعال ومبدع ومشارك وخلاق، وهذه الأمور جميعها تعد شروطا ضرورية في عملية بناء الحضارة وانتاج التكنولوجيا ومواجهة التحديات الكبرى التي يزخر بها عالمنا المعاصر في عالم الحداثة ومابعدها. وفي هذا المبحث نجد دعوة صريحة ذات طابع تربوي لتعلم عادات العقل وتعليمها من أجل تطوير المجتمع بأبعاده الإنسانية والأخلاقية.
وفي البحث الأخير: يستعرض آرثر وكيلك مهارات استخدام العقل وتوظيفه ويتطرق إلى مختلف الفاعليات التربوية التي تمكن العقل من الاشتغال وفقا لمعيار الذكاء والانطلاق والابداع والنهضة. في هذا المبحث يستعرض أهمية الحوار وحلقات النقاش والتفاعل التربوي في انتاج ذهنية علمية متفتحة مبدعة وقادرة. ويسرد مجموعة من التساؤلات حول تعليم عادات العقل منها:
- ما التغيرات التي تنجم عن ادخال عادات العقل في منهج التربية؟
- كيف ستتحول طرق التدريس؟
- كيف سيتم اختيار المحتوى والمضمون؟
- كيف سيكون جدول عملنا اليومي إذا تبنينا عادات العقل؟
- كيف سيكون التفاعل الاجتماعي في داخل المدرسة؟
هذه بضعة أسئلة عديدة يطرحاها الباحث في كتاب آخر من سلسلة عادات العقل ومنهجياته. وفي هذا السياق يقدم الكتاب بعض المنهجيات التي يمكن للمؤسسات التربوية أن تعتمدها في بناء الإنسان على خلفية عادات العقل النقدية.
وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة التي يتضمنها هذا الكتاب إلا أن الترجمة كانت تعاني من بعض الثغرات حيث لم يثبت المترجم كثيرا من المفاهيم المنهجية باللغة الإنكليزية وهذا يؤدي إلى إغفال كثير من الحقائق والتصورات التي تتصل بطبيعة المفاهيم والتصورات التي يتضمنها الكتاب. ومما لا شك فيه أن الكتاب لا يسير على منهجية واحدة وذلك لتعدد المؤلفين وتعدد المستويات المنهجية التي ينطلقون منها.
أهمية الكتاب: يعرف المطلعون والدارسون أن الثقافة الغربية غنية جدا بالأبحاث والدراسات والمنهجيات التي تبحث في قضايا العقل وفي قضايا التفكير وفي بناء منهجيات متقدمة لتطوير الذكاء الإنساني في المدارس والمؤسسات التربوية بمختلف تنوعاتها واتجاهاتها. ولكن مثل هذا الكتاب وغيره من الكتب المترجمة يكتسب أهمية صارخة في التربية العربية وذلك لما تعانيه هذه التربية من أساليب تقليدية ظلامية في عملية التعامل مع العقل والذكاء. ومع أن الكتاب العرب يستصرخون العقل العربي ويناشدونه أن ينطلق إلا أن ما يقدمونه لا يتجاوز حدود الانتقادات ولا يصل إلى مستوى التفكير بالتقنيات الممكنة للانطلاق بالعقل وتطوير الذكاء, وهذا يعني أن المفكرين العرب لا يقدمون حتى الآن استراتيجيات منهجية كفيلة بتنمية الذكاء وتطوير العقل. ومن هنا فإن هذا الكتاب يوفر للقارئ العربي رؤية مجهرية محكمة لأهمية البحث عان وسائل منهجية قادرة على استنهاض الذكاء وتطوير إمكانيات العقل إلى الحدود القصوى.
فالتربية العربية تعيش أكثر مراحلها سوداوية وظلامية لأنها لم تستطع أن تخرج من دائرة الحجر على العقل وتدمير طاقاته عبر عمليات التلقين والتسلط والترويض. وتأسيسا على ذلك تتهم التربية العربية السائدة بأنها المسؤولة عن العطالة والجمود العقلي في مختلف جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية. ومع أن المفكرين العرب أصحاب الرؤى النقدية ما زالوا يصرخون ويستصرخون إلا أن صراخهم واستصراخهم لا يستجلب إلا رجع الصدى المحزن. فالتربية العربية ما زالت تقليدية بوسائلها ومضامينها ومحتوياتها. وأن هذه التربية مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى للخروج بالعقل العربي من الدوائر المظلمة في اتجاه التنوير. وبالتالي فإن الخروج من هذه الأزمة مرهون بطاقة خلاقة تستوحي شعار عصر التنوير الذي يطالب بكسر الحصار التي تفرضه الوصاية على العقل من منطلق أن تفجير طاقات هذا العقل هو الأمل الأكبر للخروج بالإنسان العربي من مقامات الجمود إلى دوائر إنسانية رحبة.
وإذا كان من كلمة تقال في نهاية هذا التجوال في رحاب هذا الكتاب فهي كلمة شكر وعرفان بالجميل إلى هؤلاء الذين أثمرت جهودهم في ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية فأحسنوا وأغنوا ثقافتهم العربية بعطاء معرفي خلاق لا ينقطع فيه الرجاء. وإذا كانت من أمنية ترتسم في هذا المقام فإنها أمنية أن يقوم الباحثون والمفكرون العرب بالعمل على انتاج أعمال ابداعية في هذا الميدان في اتجاه بناء عقل عربي يستطيع أن ينهض بالحضارة العربية الإسلامية في وجه التحديات المصيرية.
استكشاف وتقصي عادات العقل
تحرير
آرثر ل.كوستا Arthur L. Costa
بينا كاليك Bena Kalick
ترجمة: حاتم عبد الغني
مراجعة: صلاح داود و فوزي جمال
إشراف: مدارس الظهران الأهلية – المملكة العربية السعودية
إصدار: دار الكتاب التربوي للنشر والتوزيع عام 2003
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق