الثلاثاء، 8 أبريل 2014

التجربة النهضوية التركية



التجربة النهضوية التركية 




التجربة النهضوية التركية
كيف قاد حزب العدالة والتنمية تركيا إلى التقدم ؟
 المؤلف:محمد زاهد جول
عرض/نزار الفراوي
تستأثر التجربة النهضوية التركية بجاذبية متنامية في الجوار الإقليمي، وخصوصا العربي.

الإرث التاريخي المشترك بين العرب والأتراك خلال قرون الهيمنة العثمانية على جل أمصار المنطقة، وتشابك المصالح الجيوسياسية بين العالمين، الذي لم تبدده المرحلة الكمالية القومية، فضلا عن تماثل البنيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، كلها عوامل جعلت من الإقلاع الاقتصادي التركي والمشروع التنموي الرائد الذي تخوضه بلاد الأناضول بقيادة حزب العدالة والتنمية، محل اهتمام ومتابعة حثيثة من قبل بعض النخبة العربية، وبات يدعو لاستلهام قصة نجاح في الجوار قابلة للتطبيق، أخذا في الاعتبار خصوصيات كل بلد وميزاتها المقارنة.

تلبية لهذا الطلب المتزايد على تفكيك أسرار المشروع النهضوي التركي خلال العشرية الأخيرة، يأتي صدور كتاب بعنوان "التجربة النهضوية التركية" للكاتب التركي محمد زاهد جول، وبعنوان فرعي يطرح سؤالا: "كيف قاد حزب العدالة والتنمية تركيا إلى التقدم؟" 

تعتد تركيا اليوم ببنيات اقتصادية واجتماعية وثقافية قوية، تمنح قاعدة صلبة ومستدامة لمشروع رفاه ونهضة قوميين، بغض النظر عن الطبيعة الإيديولوجية للحكومة القائمة.
ويعرض الكتاب -الصادر عن منشورات مركز نماء للبحوث والدراسات- مختلف مقومات وتجليات النهضة التركية الحديثة في أبعادها المختلفة: الفكرية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، قبل أن يخلص إلى الدروس المستفادة من هذه التجربة التاريخية بالنسبة للعالم العربي لما بعد الربيع.

هذه النظرة الشاملة التي لامست مختلف جوانب الإقلاع، لم تحجب تركيزا شديدا لدى الباحث على الأسس الفكرية لهذا المشروع. فهو ينطلق من إدانة المقاربة العلمانية الإقصائية التي استهدفت منذ بداية القرن الماضي المرجعية الدينية للأتراك، فكان مصيرها الفشل، ليثمن النهج الفكري البراغماتي والمرن الذي اعتمده حزب العدالة والتنمية في المواءمة بين المرجعية الدينية وقواعد الدولة الحديثة.

"فقد جعل حزب العدالة والتنمية من الشورى ديمقراطية، ومن العلمانية حرية ومساواة، ومن المواطنة انتماء وعطاء، ومن الإجماع دستورا، ونجح في جعل التاريخ فخرا لا عارا، ومن التدين عزة لا ذلة، ومن الاقتصاد قوة لا تسولا، ومن السياسة عظمة لا تبعية".

وما إن يبدو للقارئ أن الباحث يسقط في تمجيد دعائي لإنجاز حزب العدالة والتنمية مفصولا عن السياق التاريخي وقانون التراكم، حتى تلمع العبارة التالية: "حزب العدالة والتنمية درس وتعلم من تطور الحياة السياسية، ومن تطور الاجتهاد الفكري الإسلامي منذ قيام الجمهورية، وبالأخص في تطوره الأخير قبل وصول الحزب إلى السلطة السياسية عام 2002، في تجربة حزب الرفاه وحزب السلامة وغيرهما".

إن الفكرة الأساسية التي يتمحور حولها الكتاب تحيل إلى العمق الثقافي والوعي "البيداغوجي" اللذين أطرا الطفرة التركية المعاصرة، من منطلق أن أحد الأسباب المهمة لعدم الكفاءة في النظرية الإستراتيجية هو وجود تناقضات في موضوعي الهوية والوعي التاريخي باعتبارهما عاملين أساسيين في ضعف الاستعداد النفسي لإنجاز التغيير المجتمعي والنهضوي الشامل.
النخبة التركية الكمالية صنعت القطيعة بين الشعب التركي وتاريخه وإيمانه ووجدانه، مما جعله بعيدا عن الدولة التركية والحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية طوال القرن الماضي
وفي هذا السياق، يلاحظ الكاتب أن النخبة التركية الكمالية صنعت القطيعة بين الشعب التركي وتاريخه وإيمانه ووجدانه، مما جعله بعيدا عن الدولة التركية والحكومات المتعاقبة والأحزاب السياسية طوال القرن الماضي، "فلم يتحرك مع مشروع الدولة جمهور الشعب، بقدر ما تحركت مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والحكومية".

والحال أن مشروع التنمية الناجع والمستدام يقتضي حركة جماعية مندمجة في الأمة بكل مكوناتها المؤسساتية والشعبية.

في المقابل، سعت التيارات ذات المرجعية الإسلامية -وصولا إلى حزب العدالة والتنمية- إلى إعادة التوازن للعقل التركي الحديث، بأن يتوافق مع نفسه، ويسترجع الوعي التاريخي للأتراك، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومرجعيته الاشتراكية.

ويسجل الكاتب أن حزب العدالة والتنمية راهن على تحقيق المصالحة بين الدين والدولة من خلال إعادة النظر في فلسفة الاستثمار التربوي والتعليمي، في اتجاه توفير الدعم اللازم للتعليمين الديني والدنيوي معا، دون تكريس غلبة أحدهما على الآخر.

الحزب القائد لم يعارض العلمانية لكنه قدّم مقاربة جديدة لها. فهو لم يجعل من العلمانية الأوروبية مرجعا قطعيا، وإنما فهم أن العلمانية دعوة إلى العلم وتحرير تفكير الإنسان وعقله ورفض الأفكار التي تلغي حرية الإنسان وتحرمه من عقله وتمنعه من اتباع العلم واكتشاف الحياة وتسخيرها لمصلحة الإنسان (ص 89).

ويعتبر الكتاب أن السياسة التعليمية التي طبقها الحزب في العقد الأخير من التجربة النهضوية لتركيا عامل أساسي في النجاح والتقدم والازدهار الذي تمتع به الشعب التركي، وكان عاملا قويا في بناء مجتمع متعلم وجيل مثقف يحمل مشروع دولته بوعي واقتدار.

وتم تصريف هذه السياسة عبر عدة محاور، من أهمها مراجعة مناهج التعليم الأساسية بما يتوافق مع متطلبات العصر واحتياجات المجتمع التركي، وتعميم التعليم إلى أقصى القرى، وضمان تكافؤ الفرص للخريجين، وضمان مجانية التعليم الأساسي، ورفع جودته في المدارس الحكومية وتطوير إمكانياتها التكنولوجية، والتوسع في المؤسسات التعليمية الخاصة والاهتمام بالتعليم الفني.

على غرار العديد من التجارب النهضوية الرائدة، يلاحظ الكاتب أن البحث العلمي اكتسى مكانة طليعية في تسطير مفاتيح الإقلاع التنموي المنشود، الذي ينقل تركيا إلى مرحلة جديدة، في عالم يفرض تحديات من جيل جديد.

من هنا، كان البحث العلمي الآلية الصحيحة التي تقوم بتحويل العلم والتكنولوجيا إلى فائدة اقتصادية واجتماعية.

انصب الاهتمام هنا على محاور كثيرة، من بينها إنشاء نظام الابتكار الوطني، والتوسع في الأبحاث العلمية والتكنولوجية، ودعم مراكز البحث والتطوير، وتمكين العلماء الأتراك من المشاركة في المشاريع البحثية العلمية المشتركة، وتحقيق التعاون بين الجامعات والمؤسسات الصناعية ووقف هجرة العقول.
راهن الحزب على تحقيق المصالحة بين الدين والدولة بإعادة النظر في فلسفة الاستثمار التربوي والتعليمي، في اتجاه توفير الدعم اللازم للتعليمين الديني والدنيوي معا، دون تكريس غلبة أحدهما على الآخر
وفي هذا السياق، انتقل مبلغ الإنفاق العمومي في قطاع البحث العلمي من خمسين مليون دولار سنة 2002 إلى خمسمائة مليون دولار عام 2010، أي عشرة أضعاف.

ويتابع الكتاب رصد المقومات التي وضعها حزب العدالة والتنمية من أجل إسناد المشروع النهضوي القومي، متوقفا عند الجهود المبذولة من أجل توفير مناخ سليم للإنتاج والاستثمار، ذلك أن القدرات الإنتاجية القادرة على المنافسة الدولية لها أهمية كبيرة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتطبيق السياسات الاقتصادية الناجحة.

وبدت إدارة الدولة في فلسفة الحزب واعية بأن إرساء مناخ الثقة يسرع في عملية دخول الأموال الأجنبية إلى البلاد.

ومن الأعمال التي استحضرها الكتاب على هذا الصعيد دعم إنشاء المناطق الاقتصادية، ودعم الخدمات الهندسية، وتشجيع الصناعات الدفاعية الوطنية، وتشجيع استخدام أدوات الاقتصاد الجديد، وإطلاق حملة لزيادة الصادرات، وتشجيع صناعات المنتجات ذات القيمة المضافة العالية، والعمل على إنعاش التجارة الإقليمية.

إنها قصة مشروع تنموي بلغ مرحلة النضج، وأرسى مقومات صلبة لتثمين مقدرات البلاد، وتحفيز القوى الإنتاجية، على قاعدة رؤية شمولية وجذرية تضع الإنسان في صلب العملية التنموية، بوصفه محركها الحيوي، وهدفها في الآن ذاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق