الاثنين، 18 سبتمبر 2017

الشيخ توم والمستر جيري

الشيخ توم والمستر جيري

أحمد عمر



توم ذكر وجيري أيضاً..
كانت هِرّتنا لولو، المحلى اسمها بمسك ختام حرف اسمها، ميركل، مصغراً، تثب من مكان إلى آخر، وهي تراقب أشباحاً لا ترى، فقلت لبناتي: هِرّتكم المستشارة، بها مسٌ من الجن، أو أنّ في بيتنا أرواحاً لا تراها إلا الهِرّة.
فقالت الصغرى التي بصرت بما لم أبصر به: الأمر أبسط من هذا يا سيد الخواتم الخشبية، العقل تاج على رؤوس ذوي النهى، يا أزرق اليمامة والفيسبوك، فهي تستطيع براداراتها الإلهية، تحديد أمكنة الفئران فوق السقف الخشبي، وهي تلحق بأشباحها و آثارها سماعاً، أو بأشعة عينيها السينية، فأعجبت بنباهتها التي ورثتها من أمها اللبوة البنغالية، وتذكرت قوله تعالى، متعوذاً بالله من العمى الذي أصاب دولة عربية، فحاصرتنا، وهي تأخذنا إلى المهالك: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

ثم بدأت أغزو بهِرّتي السقف، فور ذهاب البنات إلى المدارس، واللبوة البنغالية إلى الجامعة، فهنَّ يعارضن صيدها للفئران، الهِرّة هِرّة زينة ومؤانسة، لا هِرّة صيد وحرب وغنائم، ويرينَ صيد الفئران صيداً مرذولاً لا يليق بهرتهن الشريفة. أحملها إلى السقف، عبر سلم ذكي يطوى، ويعقد، ويفرد مثل آلة الأوكورديون الموسيقية، فبيتنا أولى من الحرش المجاور بالصيد.
هناك الصيد مندوب، وهنا واجب.
لكل زمان نساء، ولكل احتلال جلاء.
الزير سالم كان يصيد الأسود، وأنا أصيد الفئران، بئس الرفد المرفود؟!

في اليوم الرابع من عيد الأضحى، ويسميه الألمان عيد السُكّر، وقبل أن يأتي هِرّتي الحبلى الطلق، هيأنا لها بيتاً، وكانت تبحث في شقتنا عن خزانة أو عش، الهِرّة تحب الأعشاش والأماكن الضيقة، ولو رسم لها على الأرض مربع أو دائرة لجلست فيه، فولدتْ حال حصولها على وطن، وسكنتْ يومين كاملين، من جهد الولادة، وكانت من قبل تثب، وتسبقنا إلى المطبخ، أو تستقبلنا على الباب.
استمرت مضاعفات الولادة يومين كاملين، لم تأكل فيها شيئاً سوى مشيمتها، فكل الحيوانات حتى العاشبة، تأكل مشيماتها، وهي مغذيّة، طعام غني، هبة من الخالق البارئ المصور، يغنيها عن الطعام، ويقوم مقام عدة وجبات.

ولدت هِرّتنا ثلاث هرّيرات، فتقاطرت الوفود إلى دارنا، بعد أن أخبرت بناتي زملاءهن وزميلاتهن الألمان، فوفدوا زرافات ووحدانا، يتأملون هذه المعجزة، وأبدى جاري بالدور شفقة على حالي، فرعاية هِرّة منزلية مكلفة لنازح مثلي، فأخبرته أني سأهدي الهِرّيرات إلى من يريد من الجيران والأصدقاء، قريباً، بعد أن يفطمن، واستبقي هِرّة واحدة، للغزو والطراد، في ديزني لاند فوق السقف.
وأخبرت جاري أني رعيت هِرّة في الوطن الأم، ولا يوجد في العربية لفظ اسمه الوطن الأم، أو الوطن الأخ، أو الوطن ابن الحرام... وأنها كانت هِرّة سائبة، ماتت عنها صاحبتها الأرملة، بصاروخ طائش، وأني ناديتها، فأنست بصوتي، ولحقت بي إلى الطابق السادس، وكانت هِرّة أصيلة، شريفة المحتد، من الهِرّرة الغطاريف، ذات حسب ونسب، هِرّة أميرة، وأني كنت أشتري لها أقفاص صدور الدجاج والسيقان، وأطحنها لها، فتأكل، ثم سكن نازحون في بيتي، بعد أن هجرتـه، وأخبروني أن هِرّة تتردد على الدار، وأنها تموء بحرقة ثاكل.
 تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ، سوى الهِرّ والقط الرُّدينيِّ باكيا.
أوصيتهم أن يطعموها ويحسنوا إليها، وإن الله يحب المحسنين، ثم انقطع الاتصال، فسألت عنها بَعْدَ أُمَّةٍ، فقالوا: نطعمها!! من أين نطعمها.. لقد أكلناها من الجوع يا هِرّ.
  صادت لي هِرّتي فئراناً كثيرة، ونظفت السقف، تصطاد وتأتيني بصيدها، وأمريكا تحب هذه اللعبة حباً جماً، بل إنها قامت عليها، الأمريكي الأبيض صيّاد، يصيد البشر. العدالة الأمريكية مقلوبة، الهِرّ في عقيدتها السياسية هو الصيد، والفأر هو الصائد، وحكاية تأسيس أمريكا هي حكاية 130 جرذاً من القراصنة، غزوا القارة الأمريكية، فأبادوا هِرّرتها إبادة تامة، حتى لم يبق منهم سوى بعض "الهنود الحمر"، لزوم التمثيل في السينما، والفولكلور، وهم حالياً لا يتجاوزون ربع مليون نسمة، من أصل 130 مليوناً، وهم محاصرون في مقاطعات مغلقة، محرومة. الأقليات التي تعطف عليهم أمريكا ليسوا من الهنود الحمر، ولا من الروهينغيا.
قلت في نفسي: إن أمريكا تعمل جاهدة، وبإخلاص، على تحويل السنّة إلى أقلية، حتى تعطف عليهم.
ووجدت أن الهِرّة تصلح رمزاً للسلام، مثل الحمامة التي حملت غصن الزيتون بعد الطوفان، لكن ديزني لاند، وجدت أنها تصلح للحرب، فأشعلت بسوساً بين توم وجيري منذ سنة 1940، ولم تهدأ حتى الآن. أمريكا لا تحب السلام، فهي مصنع الأسلحة الأول، والأكبر في العالم.
توصف الثقافة العربية بأنها ذكورية، ومن المفارقات المضحكة، أني سمعت مرة صائب عريقات من زمن قريب، ومذيعة الجزيرة تسأله عن جولة سلام جديدة مع إسرائيل. كان الخبر أن أمريكا سترعى مسلسلاً جديداً بين جيري الصهيوني، وتوم الفلسطيني.
سألَته المذيعة عن أوراق القوة بيد السلطة الفلسطينية، فانطلق ينشد نشيداً، هو النشيد البالي نفسه، منذ أن بدأت المفاوضات البيزنطية بينهما، فقال: إن العرب لديهم لوبي في أمريكا -ربما كان يقصد الإمارات التي تكيد للعرب- ولديهم نفط، وأمريكا ستعي مصالحها، وسترشُدُ يوماً، فتذكرتُ مثلاً عربياً شعبياً عن الزبيبة وعودها. وكانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية ليفني قد صرحت بأنها قد عزفت له على العود والربابة، ألحان الفراش الوثير.
إنها المرة الأولى التي نسمع فيها مثل هذا الفجور: أنثى تشغل منصباً سيادياً، تتباهى بأنها قضت وطرها من خصمها، الذكر الفلسطيني!
ولكل مقام بنات حواء، ولكل زمان ليفني وهيفاء.

المفكر المصري عبد الوهاب المسيري يقول: إن قصة توم وجيري هي قصة داروينية، الانتصار فيها للقوي، والقوي ليس هو الكبير في الحجم دائماً، فإسرائيل دولة صغيرة، دولةٌ فأر، لكنها تنتصر دوماً على جيرانها الهِررة، التي تحب النوم في العسل.
تابعنا منذ أيام خلتْ، على الصفحات الزرقاء، فيلماً لجرذ، يتحرش بهِرّ نائم على الرصيف، أيقظه من النوم، وبدأ يصفعه على وجهه، ويبصق في وجهه: ويقول له: ردَّ عليّ، إن استطعت.
حاول الهِرّ المصعوق من هجمة الجرذ، الذي لا يجاوز نصف ساقه طولاً، دفعه، فلم يرعوِ، واستمر في إهانة الهِرّ ولطمه. اضطر الهِرّ إلى سياسة النأي بالنفس، التي اتبعتها عدة دولة مجاورة لسوريا، إلى أن انتهت المعركة بأن وضع الهِرّ طرف جلابيته في فمه، وهرب من وجه الجرذ الباسل.
 محمود درويش قال بمشيئة الملاح تجري الرياح، في عصر التفاؤل الثوري.
شبعنا من نشيد إذا الشعب يوماً أراد الحياة.

حاول العلامة القرضاوي أن يتأوّل البيت الشعري خيراً، فالمشيئة هي مشيئة الله، ونتائج أربع ثورات أو خمس تقول: إن القدر لم يستجب للشعب، هناك شيء ناقص في الثورات العربية، ولعل السبب هو أننا لسنا على قلب رجل واحد، وإنما على قلوب قطيطات، أمثال هيفا وهبي، ونانسي عجرم، وايفانكا.
يقول الباحث علي فهمي خشيم: إن أصل كلمة الهِرّ، التي تعني السيد، عربي. وفي الألمانية ألف كلمة عربية، وربما أكثر.
 مسلسلة توم وجيري توصف بالعنف المفرط، لكن الأمريكان أبطال في فلسفة الذرائعية وفن التبرير.
 يقولون في التسويغ: لا يوجد دماء في أفلام توم وجيري! السلاح الكيماوي أيضاً لا يوجد من أثره دماء، سلاح بارد، وقد أدانت الأمم المتحدة النظام السوري، لكن الجرذ الشباطي دي مستورا، يبشرنا - بدم بارد- بأن الأسد انتصر، وعلى المعارضة الاعتراف بالهزيمة.
 وفي أفلام توم وجيري، يلجأ جيري بين الحين والآخر للكلب سبايك، هرباً من الهِرّ توم، كما نلجأ إلى أمريكا، من المحتل جيري. وسبايك كلب يحرس الصراع، ولا يحلّه.
الهِرّرة تنام طويلاً، لكن نوم الهررة العرب طال أكثر من اللازم.
ولكل إرهاب كباب، ولكل زمان كلاب.
أهدافنا : وحدة، "هرية"، اشتراكية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق