أشواق المنفى السبعة
أحمد عمر
كادتْ بناتي من وراء ظهري كيداً، وتواطأن مع عائلة إيطالية على ابتياع هرتهم، لولا أنّ القانون الألماني يشرط موافقة الوالدين، لتمّت الصفقة، وقضي الأمر، وأُوهنتْ نفسية الأمة، وأُضعف الشعور القومي..
استوى الكيد على لهيب ضجر سيدة سورية نازحة من هرتها، نضج معدل اندماجها قَبْلَ نُضْجِ التينِ والعِنَبِ.، فتخلتْ لنا عنها، وحلّ كلبٌ مكان هرتها في بيتها وقلبها.
هرّة ، "هدية ما من ورائها جزية"، سميناها باسم المستشارة الألمانية مركل، تيمناً. وصرنا نناديها بميراث الحرف الأخير ؛ لولو.
مكرتُ مكرا، ونويت بيع الهرّة، وإرسال ثمنها لمن يهمه الأمر، وثمنها يبلغ ثمن كبشين أملحين أقرنين، في عيد الأضحى، وأحياناً أكثر، لكن ليس أقل، ثم سكتُّ على مضض، وأنا أراها، تلحق ببناتي الثلاث، تؤنسهن، ويلعبن معها. فصرتُ قائد فرقة "الفور كات" المتقاعد من غير طاعة، أما الأم فلبوة بنغالية.
قرأتُ لتوّي تقريراً علمياً عن فوائد تربية الحيوان في المنزل، وكان هواي في ناقة عشراء، أو قعود، أو حوار. اختلف العلماء في الفوائد والأضرار. وتقارير مراكز الأبحاث الغربية مضحكة، فهي تقوم بالاستبيانات التي تتغير بتغير أمزجة الناس ونوازعها.
ومن الطرائف العجيبة أنّ العجائب الأرضية السبع تتغير كل عام.
من ثمار الديمقراطية الغربية حلوها ومرها، أنهم ينتخبون رؤساءهم وآلهتهم. استغربتُ أن أجد الهرّة بنلوبي كروز في مقدمة النساء المثيرات في العالم، وهي جلد على عظم، لو قضتْ ليلة معي في غرفة واحدة، ما خطر للشيطان أن يكون ثالثنا أبداً.
وكنتُ قد قرأتُ لعبد الوهاب المسيري رأياً، قارن فيه مقارنة فكرية وتجريدية، بين الهرّة والكلب في الحديث النبوي، وكانت الهرّة قد أدخلتْ امرأةً حبستها، إلى النار، وأدخل كلبٌ عطشان رجلاً إلى الجنة. المقارنة التي عقدها مثيرة، وممتعة، أضفتُ إليها بعض الفواكه الفكرية، وكتبتُ عنها مقالاً، وجدت فيه أن الهرّة من أهل ديار الإسلام، والكلب من ميراث النصارى.
بل إني أسرفتُ، فقلتُ: إن الهرّة مسلمة الإيمان، والكلب نصراني العقيدة، واستشهدت بكلب أهل الكهف قطمير، وهذا شطط في القول، وما ذلك إلا لأن الإسلام يفضّل الهرّة على الكلب في منازل المسلمين، وحشدت لفكرتي الرأي والشواهد الفقهية، ثم رأيت أن المسلمين في سوريا المفيدة، يقدسون الكلاب البشرية الوحشية، ولا يرعون في الهررة إلّاً ولا ذمّة. وكان من نتائج العهد المنقوض، أننا خسرنا الجنة، وصرنا من أهل النار في الدنيا، قبل الآخرة.
" الفور كات" يتحدثن بالألمانية، وأنا الغريب الوحيد الأعجم، أجلس منفياً في جزيرة البيت النائية، ثم وجدت أنّ الهرّة مؤنسة، عجماء مثلي. لقد صارت الهرّة من نصيبي، وصرت من نصيبها، نتحاور بعبرة ومواء وتحمحم، وكُلُّ غَرِيـبٍ للغَريـبِ نَسِيـبُ.
أيقنت أن الهرّة هرتي، وليست هرّة بناتي، فهي تمكث معي النهار كله، تنام في حضني، وتؤنس وحشتي، أناجيها، ونفطر سوياً، وتسليني في وحشة مدفن الفيسبوك الزجاجي الأزرق، وأسمع هريرها الذي يشبه خرير جدول في ليل طويل. وكان صديقي الروائي جان دوست قد أرختْ عليه الوحشة بكلكلها، فعمد إلى الانتحار الافتراضي، ونزح نزوحاً تاماً من الحياة الزرقاء، فطوى خيامه الزرقاء والخضراء على الفيسبوك، والواتس، والانستغرام، وعشائر اللينكدن، وبقية قبائل التواصل الاجتماعي الرحل الباحثة عن كلأ" اللايك "وعليقة المرعى، وزهد فيها، وركب المطايا، وشردَ عن عشرة آلاف صديق، أيتاماً وثكالى. لقد تخلى عن عرشه، والله الموفق والمستعان.
الفيسبوك يسبب الاكتئاب الحاد، واللايكات المسمومة أو "الدايت"، تسبب الغرور داء وسقم الوحدة.
ربِ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين.
اتصل بي جان دوست مستوحشاً مثل الشمع يبكي في مواقده، ولم أعلم أهو من حرقة الغربة أم من فرقة الأزرق؟ وأخبرني أنه يتعاطى عقاقير تجعل المغترب عن أهله مواطناً في جماعات كذابة، وكان أن نصحته بهرّة.
تحول سكان الأطلس الأزرق أسماكاً برّية في حوض الفيسبوك!
أخبرته أن فلم الوحيد ( Cast Away) الصادر عام 2000 من إخراج روبرت زيمكيز، وبطولة توم هانكس، نسخة حداثية وعصرية من قصة روبنسون كروز التكوينية الغربية. روبنسون كروز هو آدم المستعمرين المحتلين المستوطنين. وقلت: إنّ هانكس، وهو في الفلم بلا اسم، يشبه روبنسون كروز في أمور كثيرة؛ أولها أنّ الغربي لا يريد الانطلاق من الصفر، صحيح أنه اكتشف النار في الجزيرة التي سقطت طائرته قربها، فجعل من كرة سقطت معه، سماها "ويلسن" رفيقاً وأنيساً، بدلاً من الحيوان. وقلت: إن الفلم الذي راق للمشاهدين والنقاد، علامة على الحداثة، وأنه لو كان في الفلم حيوان، لكان له شأن آخر. وذكرت له متعة صحبة الحيوانات في الملاحم المعروفة: البراق في رحلة الإسراء والمعراج، الكلب في قصة أهل الكهف، الحوت في قصة يونس عليه السلام، وأفلام الكاوبوي ما نالت هذا الشيوع والشغف إلا بالحصان... لو عددت له الحيوانات، لما انتهيت من إحصائها.
أعود وحيداً، فالهررة الثلاث في المدارس، واللبوة البنغالية في العمل، يحاولن الاندماج، تاركين الراعي الذي لم يعد يرعى سوى النجوم وهي آيبة، ونجا من الغرق في ألمانيا، مع الهرّة، التي تقضي وقتها في النوم نهاراً، ولعق وبرها، وبرةً وبرةً. إنها لا تكفُّ عن لعق نفسها، وتستفيق حال سماع همسات مفاتيح العائدات من حرب العيش في أذن القفل، فتثب إلى الباب مرحبةً ببنات جنسها من البشر، وتقودهن إلى أوعية طعامها الثلاثة. وعاء للطعام الطري من لحم الطير، ووعاء قضامة الهررة وفستقها، ووعاء السوائل.
وفي المساء تتسلل عبر الشرفات إلى الحرش المجاور، وتعود وفي فمها ميكي ماوس، ثم تعابثه أمامنا إلى أن يقضي من اللهو قهراً، وهو يحاول اللواذ بوبرها، أو حضنها ...حضن الوطن.
أمس تابعتُ مع هرتي؛ المناظرة بين أقوى هرّة في أوربا؛ زعيمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وبين رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني شولتز . كانت معركتهما حول النازحين والاندماج والإسلام وأردوغان، لا قضايا ألمانية سوانا، نحن شغل أوربا الشاغل.
ميركل وشولتز؛ يشتركان مع جميع الألمان في كرههم لأردوغان، فالماكنة الألمانية الإعلامية تضخ كراهية أردوغان بالقناطير والأغاني الساخرة. لم ينس الغرب قط هلال العثمانيين، الذي حولوه إلى خبز كرواسان، يؤكل مع الفطور صباحاً. الملوك العرب، مشغولون بالعبث بشعوبهم، وأشد السياسيين كرهاً لأردوغان، هو التركي جيم ازدومير، وهو تركي علوي المذهب، شركسي الأصل، اختير بطلاً للأناقة ذات سنة، كلما شهق أو زفر، اتهم المساجد بتفريخ الإرهاب.إنه أبو لهب الترك في ألمانيا.
في ألمانيا أكثر من 7 مليون كلب، و12 مليون هرّة، تبلغ التكلفة السنوية لرعايتها قرابة 4 مليار يورو، أي أكثر من ميزانية سوريا السنوية بشبيحتها ومخابراتها ومخدراتها، لكن ليس في تركيا، التي وجدتُ هررتها أكثر دلالاً، وأقرب رحماً، فهي أليفة، يستطيع السائح مداعبتها، أما هررة ألمانيا، فهي وحشية نفورة.
وكنا رأينا في الأخبار العالمية، كيف فتح لها الترك بيوت الله في أيام الثلج، أما في سوريا، فكنا نأكلها من شدّة الحب ومجاعة الوطنية.
لا تزال هرتي مكتومة القيد، هي بلا هوية، كما كنتُ وأكون، نحن نشبه بعضنا في النشأة الأولى والآخرة. لم يكشف على عورتها طبيب حتى الآن، أما جارتنا كريستينا، فقد رأتْ أن تقلع لهرتها أنيابها المنخورة بعملية جراحية، وجارتنا شيللر استدعت الإسعاف لهرتها ليلاً، لإجراء عملية ولادة، كلفتها ألف ومائة يورو، يورو يعضّ رقبة يورو. بناتي أيضاً يشترين للهرّة طعامها الخاص، كل علبة ثمنها خمسون سنتاً، وهو أرخص أنواع الأطعمة، أما أنا، فأجد نفسي معها أكثر كرماً من بناتي، فأنا أطعمها مما آكل، وأسقيها مما أشرب.
حالي معها حال الفرزدق مع ذئبه العسّال:
فَبِتُّ أسَوّي الزّادَ بَيْني وبَيْنَه- على ضَوْءِ نَارٍ، مَرّةً، وَدُخَانِ.
تركتُ هرّتي، وخرجت مع صديقي نوري للمشي على ضفاف نهر الماين، بحثاً عن نجوم الظهر، مرّتْ بجانبنا كتيبة من الحوريات الألمانيات الشقراوات، اثتنا عشرة هرّة ألمانية شابة، صافات، جاريات جري الهرولة، في تنورات قصيرة جداً، فتركني نوري، وجرى خلفهن يهرول، وهو يعتذر: خال عن إذنك.. إني أرى في الرياضة حياة.
إنه يركض وراء سراب بقيعة...
عدتُ بعد مفازة قطعتها، إلى غرفتي، فوجدت هرتي نائمة تحلم بديزني لاند. الصحافة الألمانية، تتربص بالنازحين، وتكيد المكائد، وازدومير، عضو البوندستاغ، ممثل حزب الخضر، وليس الكوكلس كلان، لنا بالمرصاد. كانت قد انتشرت أخبار جريمتين ارتكبها سوريان، ضجت بهما الصحافة الألمانية.
ماذا لو وقع سوء لهرتي؟ كأن تتسمم بطعامي، وهو طعام الزهّاد، فتقضي. ستكون كارثة. سيشمت حزب البديل و أزدومير بنا أيما شماتة. أقررت بأن الهرّة ميركل هي شفيعتي الوحيدة إلى جنة الآخرة، وجنة الدنيا أيضاً.
أنظر في عيني لولو المذهلتين، اللتين تذكراني بثروتي القديمة، من لؤلؤ كرات اللعب الزجاجية ، في الصبا، حتَّى كأنَّ جلابيبَ الدُّجى رغبتْ، عَنْ لَوْنِهَا وكَأَنَّ الشَّمْسَ لَم تَغِبِ، والتي باع رئيس قبيلة من الهنود الحمر، بحفنات منها، أراض وسواحل وقرى وجنات عدن، للمحتلين الأمريكان!
وألحن لها عنوان رواية غادة السمان، نشيداً لأشواق المنفى السبعة:
عيناك قدري...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق