عيدية الدواعش
في حافلات مكيفة، وبعد وداع تفاوضي حار، من حزب الله ونظام بشار الأسد، انتقل الدواعش، بكل أريحية، من الحدود السورية اللبنانية، إلى الحدود السورية العراقية، ليستقروا في منطقة دير الزور.
أكثر من 500 كليومتر قطعها المقاتلون الدواعش، مجرّدين من أسلحتهم، لم يتعرّض لهم أحد، لا قوات الجيش الحر، ولا قوات النظام، ولا القوات الأميركية، أو الروسية، أو حتى الكردية.. كأنهم في رحلة صيد، أو سفاري، لم يكن ينقصها سوى أن تلقي القوات السابق ذكرها الورود عليهم، وترحب بهم، وتمنحهم العيدية.
أربع سنوات هي عمر الثورات المضادة في بلاد العرب، هي أيضاً عمر الدواعش، وكأنهما توأمان، ولدا على فراش واحد، ورضعا من ثدي واحد، قدّم فيها التنظيم خدمات جليلة لكل الأنظمة التي أعلنت الحرب على ثورات الربيع العربي، وحان وقت المكافأة.
كل الطغاة استثمروا في "داعش"، بدءًا من نوري المالكي في العراق، مروراً ببشار الأسد في سورية، وعبد الفتاح السيسي في مصر، وخليفة حفتر في ليبيا، كل هؤلاء مدينون بالفضل للتنظيم الذي أتاح لهم سحق الشعوب الثائرة، وابتزاز العالم بذريعة الحرب على الإرهاب، بل إن للتنظيم أيادٍ سوداء في صعود متطرفين إلى الحكم، كما مع دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، مثلاً، والذي لعب على وتر حماية أميركا والعالم من شبح تطرّف جماعات تنتسب إلى الإسلام.
في العام 2014 كان نظام عبد الفتاح السيسي على موعد مع اختبار حقوقي عنيف في المفوضية الدولية لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة، وقبل أن تبدأ مناقشة الملف المصري المجلل بعار مذابح رابعة العدوية وأخواتها، جرى استدعاء "داعش" إلى قلب القاهرة الكبرى، حيث جرى الإعلان عن عملية إرهابية نفذها التنظيم في منطقة الهرم، حتى أن أحد الأصدقاء تندر على التصريحات الأمنية بضبط عناصر "داعش" في تلك المنطقة في محافظة الجيزة بتسميته "تافه" اختصاراً لـ"تنظيم الدولة في فيصل والهرم".
ومنذ ذلك التاريخ، و"داعش" يبيع خدماته لمن يطلب، من بنغازي وحتى حلب، إذ لم يكن أي من الأطراف لديه الإرادة للقضاء على التنظيم قبل أن يتمدّد ويستفحل، فقد كان مطلوباً أن يبقى، مثل كائن فرانكشتاين الأسطوري، أو تعويذة سحرية، تبرّر جرائم طغاة الانقلابات على الثورات العربية، وكما وصفته قبل ما يقرب من أربع سنوات"هو إله الثورات المضادة عند قدماء المستبدين، ومحدثيهم، إذ ينهض بوظيفة الحل السحري المطلوب لدى عموم الكارهين الألداء لموجة ثورات الربيع العربي في المشرق والمغرب، فقد وجدوا فيه ضالتهم لكي "يقاوموا الإرهاب وينتقموا من الثورات" على طريقة اليهودي العتيد "كوهين ينعى ولده ويصلح الساعات".
وقلت إن الاستثمار ذا العوائد الكبيرة في مشروع "الحرب على داعش" تجاوز مسألة غسيل الأيدي من الدماء، وغسيل السمعة من القتل، وغسيل التاريخ من المجازر، وإسقاط الديون والجرائم، إلى محاولة الحصول على أرباح إضافية، تتمثل في مواراة ما تبقى من ملامح للربيع العربي الثرى، تحت سنابك هذه الحملة "التترية" الصاخبة التي تستبق الحرب بإعلان انتصارها على "العدو" قبل أن يبدأ القتال، لا بل قبل أن توضع خطةٌ واضحة الأهداف والوسائل لهذه"الحرب لمجرد الحرب".
منذ البداية، والتقارير تتحدث عن أن قطعان "داعش" سُيرت بعلم (ورغبة) نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي في ذلك الوقت، من بغداد إلى الأراضي السورية، حين أطلق أعدادا هائلة من السجناء، باتجاه سورية، مسلحين، لينخرطوا في قتالٍ أراده نظام الأسد، لتتحول معه الثورة السورية إلى حربٍ طائفية، تمنح حزب الله وقوات الحرس الثوري الإيراني فرصة الدخول على الخط، وتتيح لسفاح دمشق حرية ارتكاب المجازر، بحجة الحرب على الإرهاب، وتوفر لرديفه في مصر، عبد الفتاح السيسي، المناخ الملائم لمواصلة سلسلة جرائمه ضد الإنسانية، والحجة: حتى لا تصبح مصر مثل سورية والعراق.
ولكل ما سبق، قطعت جحافل التنظيم رحلتها الطويلة من لبنان إلى العراق، مثل أسراب الضواري المهاجرة، من دون أن يتعرّض لها أحد من الذين يتحدّثون عن كونها التحدي الإرهابي الأخطر الذي يواجه المنطقة والعالم، في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان عملية إعادة الانتشار البرية لمقاتلي داعش الذين رصدتهم العدسات يتنقلون، منسحبين، من مناطقهم على الرحب والسعة، بينما يواصل طيران الأسد غاراته المجنونة على المدنيين وقوات المعارضة الثورية. في حلب والرقة، أبريل/ نيسان من العام الماضي.
أي أدوارٍ سيلعبها "داعش" بعد انتقاله المريح من حدود لبنان إلى حدود العراق وتركيا في الفترة المقبلة؟
هذا ما سوف تجيب عنه الأيام، لكن من الواضح أن دواعش الأنظمة لا تزال تريد المزيد من خدمات دواعش التنظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق