إيرما.. إعصار من الكراهية
ليس كل الأميركيين دونالد ترامب، وليس كل المسلمين دواعش.
تلك هي الحقيقة التي يغفلها محترفو الكراهية في كل مكان، ممن لا يتورعون عن التعبير عن مشاعرهم "الرقيقة" وأمنياتهم"المرهفة" بهلاك البشر وإبادتهم.
تكشف موجة الأعاصير التي ضربت ولايات أميركية عن إعصار الكراهية النشط داخل نفوس قطاع، لا ينبغي تجاهله، ممن يضيقون رحمة الله الواسعة، ويحتكرون لطفه، ولا يجدون غضاضةً في تمنّي الفناء التام للمناطق التي تواجه أهوال الأعاصير والزلازل، إلى الحد الذي تخيلت معه تدشين حملات إلكترونية تحمل شعار"كلنا إيرما".
أعلم أن نزيفاً إنسانياً مرعباً أصاب العالم منذ تسيّده تجّار الحروب، وتولى إدارته حمقى مسكونون بهوس الاستعلاء العنصري والكراهية المؤسّسة على تطرف عقائدي مفرط، غير أن ذلك كله كان محصوراً في نطاق تلك الطبقة من المستثمرين في فوبيا الدين والعرق واللون. أما الآن، وهذا هو المخيف في المسألة، فقد تحولت نزعة الكراهية، ولوثة ادعاء اليقين المطلق، إلى شرائح من الجماهير، ما ينذر بارتداد البشرية إلى عصور الهمجية والتوحش.
شخصياً، أفزعني أن يحتفي بعض البشر باحتمالات فناء البشر، بواسطة الظواهر الطبيعية المدمرة، لكن المفزع أكثر أن يعتبر هؤلاء أن في دمار مساحةٍ من العالم مناسبة للبهجة بما أنعم به الله عليهم من كوارث الطبيعة، بزعم أن غيرهم يستحق الهلاك، فيما هم، وحدهم، الجديرون بالبقاء.
ينطلق المبتهجون بأعاصير أميركا من أن رئيسها عنصريٌّ متطرفٌ وداعم لكل المستبدين والطغاة في بلادنا، وبالتالي تستحق الفناء والهلاك، هكذا، من دون تفرقةٍ بين شعوب تتظاهر بعشرات الآلاف ضد عنصريته، ودفاعاً عن المهاجرين، المسلمين والعرب، وغضباً من دعم القمع والبطش الذي يمارسه حكامٌ قتلة، وبين رأس النظام الذي يستثمر في الاستبداد داخل بلادنا.
هؤلاء لا يستشعرون أدنى تناقض، أو ازدواجية، وهم يكبّرون ويهللون لتقارير المنظمات الحقوقية الدولية المندّدة بالانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية في بلادنا، ويفرحون بقطع المعونات عن العصابات الحاكمة، بقرار من نواب الشعب الأميركي، ثم، بعد ذلك، يغتبطون لكوارث الإعصار الذي يفترس الشعب الأميركي، بل ويعتبرونه من جنود الله في معركتهم ضد ترامب وتابعيه.
لن أحدثك عن ملايين المسلمين والعرب الذين يعيشون في الولايات والمدن الأميركية، ومئات المساجد ودور العبادة تقع في مرمى الإعصار. ولن أسألك إن كانت دعوتك بالهلاك والفناء تشملهم أم لا، فقط أذكّرك بأن كوارث الطبيعة ليست حكراً على أميركا والغرب وحدهما، بل أنها تقع على نحو أضخم في مناطق أغلبيتها من فقراء المسلمين الذين لا يمارسون العنصرية ضد أحد، ولا يدعمون نظماً مستبدة وإجرامية، خارج حدودهم، وليست كوارث تسونامي في إندونيسيا وفيضانات بنغلاديش بعيدة، فهل كان ذلك عقاباً من الله لبسطاء من عباده، لا حول لهم ولا قوة؟!
هنا أستغرب أن علماء مسلمين، ثقاتً ومحترمين، لا يتصدون لهذا الإعصار من مشاعر الشماتة والكراهية، وتمنّي الفناء للمختلفين معنا في العقيدة، خصوصاً أن المسألة باتت تمور بفتاوى وآراء، فيها كثير من الافتئات على جوهر الإسلام، بوصفه رسالة خير وبناء وإعمار للأرض، وعطف ورحمة وسلام، وليس وعاء لرغبات التشفّي والانتقام والتطاوس على البشر، ومخاصمة ممجوجة لأصحاب العقائد المختلفة.
أدرك أن الآثار الناجمة عن الكوارث السياسية، المدعومة أميركيا وغربياً، في بلادنا أحدثت شروخاً وتصدّعات هائلة في المواطن العربي، في سنوات الانقلابات والثورات المضادة، التي بعثرت أحلامه وتطلعاته إلى التغيير الذي ينقله إلى عصر تحترم فيه آدميته وإرادته الحرة، كما أن هذه الموجة من الاستبداد والطغيان والمظالم أطفأت الكثير من قيم التسامح والتعايش، في ظل هذا الانحياز الواضح لأنظمةٍ أوسعت شعوبها قمعاً وقهراً..
لكن ذلك كله لا ينهض مبرّراً لأن نحقق رغبة الطغاة ورعاتهم في أن نثبت لهم أننا مثلهم، منسلخون من إنسانيتنا، ومستسلمون لطوفانٍ من الكراهية على الهوية، يجتاح كوكبنا، على نحو أشرس من الإعصار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق