السبت، 30 سبتمبر 2017

أطيعوا ولي الأمر واكفروا


أطيعوا ولي الأمر واكفروا


محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة


قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] على تلك الآية يعتمد علماء السلطة وعملاء الشرطة في مهمتهم القبيحة: ترقيع دنيا الملوك والسلاطين بدينهم، رغم أنهم يعلمون أنهم يحرفون كلام الله عن مواضعه، ويستعملونه على غير مراد الله منه، فالآية في حقيقتها ضدهم بل وهي حجة عليهم.

تلك السطور هي بيان لحجم الكذب والإفك والتضليل والفجور الذي يمارسه هؤلاء في تفسير الآية:
1. جاءت الآية في سياق أن تكون الأمة المسلمة هي اليد العليا، لأنها صاحبة الرسالة المكلفة بإقامة العدل في الأرض، ففي الآية التي قبلها يقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. ولا يمكن للأمة القيام بهذه المهمة لو لم تكن في قوة ونظام ووحدة، أي عليها أن تخرج من طبيعتها العربية القبلية الجاهلية النافرة من نظام يجمعها ومُلك يدبر أمرها وزعيم يقودها. فها هنا جاءت طاعة أولي الأمر لتمنع المسلمين من الارتداد إلى الجاهلية والفرقة والنفور من النظام وإعجاب كل قبيلة بصاحبها. قال ابن تيمية: "فأهل الجاهلية لم يكن لهم رأس يجمعهم، والنبي صلى الله عليه وسلم دائما يأمر بإقامة رأس، حتى أمر بذلك في السفر إذا كانوا ثلاثة، فأمر بالإمارة في أقل عدد وأقصر اجتماع"[1].

ليس في الآية "ولي الأمر"، بل فيها "أولي الأمر"، وهذه الصيغة الجمعية تدل على أن خليفة الأمة نفسه ليس له أن يستبد بالأمة ولا أن ينفرد بأمرها لنفسه، فليس مطلق اليد والحكم.. وإنما أمر الأمة منصرف إلى "مجموعة" هم "أولي الأمر"
رويترز
فالمقصود من وجود أولي الأمر للأمة هو انتقالها من حال الفرقة والعصبية والتمزق إلى حال الوحدة والقوة، والغاية هي إقامة العدل بين الناس.. فأما مهمة عبيد السلاطين اليوم فهي تعبيد الناس لمن فرقوا وحدة الأمة ومزقوها وجعلوها نهبا لكل طامع، وأنزلوا العدو في أرضها وأنفقوا عليه أموالها وحفظوا له مصالحه من شبابها ودمائها وثرواتها.

2. ليس في الآية "ولي الأمر"، بل فيها "أولي الأمر"، وهذه الصيغة الجمعية تدل على أن خليفة الأمة نفسه ليس له أن يستبد بالأمة ولا أن ينفرد بأمرها لنفسه، فليس مطلق اليد والحكم.. وإنما أمر الأمة منصرف إلى "مجموعة" هم "أولي الأمر".. وللعلماء في تفسير تلك اللفظة كلام طويل، وهل هم الأمراء أم هم العلماء أم هم الأمراء والعلماء معا. والمهم المقصود في سياقنا الآن أن المسألة جمعية لا فردية، وهو ما يناقضه علماء السلاطين الكذابين الذين يجعلون أمر الأمة بيد واحد هو "ولي النعم"! فإن زادوا على ذلك وضعوا معه ابنه، وليس أي ابن، بل هو الابن الذي يعده الملك لوراثة الملك من بعده قهرا وقسرا وبعيدا عن رأي الأمة فيه وفي ابنه.

3. أوضحت الآية أن طاعة أولي الأمر ليست مستقلة ولا مطلقة، إنما هي تابعة لطاعة الله وطاعة رسوله، فهي محددة باتباعهم منهج الله ورسوله، فقالت الآية "أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ"، فلم تجعل لأولي الأمر طاعة مستقلة. فطاعة الله وطاعة رسوله فوق طاعة أولي الأمر وسابقة عليهم، بل الطاعة لهم هي بقدر طاعتهم هم لله ورسوله، وهو ما قاله بجلاء الخليفة الأول أبو بكر في أول خطبة سياسية "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

إن عبيد السلاطين قد فجروا إلى الحد الذي أفتى فيه بعضهم بأن (البابا شنودة) إن حكم مصر فهو ولي أمر، وأن بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق هو ولي أمر تجب طاعته!! فما أبعد هؤلاء أن يكونوا داخلين تحت قول الله تعالى (منكم)
وقد صرح إمام الحرمين الجويني بأن الأمير "إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطل الثغور، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم.. وذلك أن الإمامة إنما تعني لنقيض هذه الحالة، فإذا أفضى الأمر إلى خلاف ما تقتضيه الزعامة والإيالة، فيجب استدراكه لا محالة، وتَرْكُ الناس سُدًى ملتطمين مقتحمين لا جامع لهم على الحق والباطل أجدى عليهم من تقريرهم اتباع من هو عون الظالمين وملاذ الغاشين وموئل الهاجمين ومعتصم المارقين الناجمين"[2].

أما عبيد السلاطين فإنهم يحثون الناس على طاعة سلاطينهم ولو قام نظامهم كله على مناقضة الدين وعصيان الله ورسوله، بل ولو كانت سياستهم هي الحرب على الدين وحبس العلماء والصالحين والتمكين للمفسدين والمجرمين. حتى لو منعوهم من الحج لبيت الله الحرام كما فعل عبد الله ملك السعودية ومبارك مع أهل قطاع غزة في 2007، وكما فعل سلمان مع أهل قطر والمقيمين فيها. والأمثلة تطول وتتكاثر ولا تُحصى، وإنما نسوق منها ما هو شديد الوضوح قريب العهد.

4. وتحصر الآية "أولي الأمر" بأنهم من المؤمنين، فلفظ (منكم) يعني أن أولي الأمر هم "من الذين آمنوا"، وبهذا يخرج من وصف أولي الأمر من كان مفروضا على الأمة قهرا وقسرا بغير رغبة منها ولا اختيار، كأن يفرضه الاحتلال الأجنبي العسكري، أو يستمر في موقعه بدعم هذا المحتل.

وسنفهم لفظ (منكم) بشكل أدق حين نتذكر قصة نوح عليه السلام، حين دعا ربه فقال (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، فقال الله له (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ).. ولا تكاد تجد في عالمنا العربي المنكوب من رضي به شعبه وقدموه، إنما حكموا بالقهر وبقوة المحتل، وساروا في نقيض مصالح الأمة وعلى عكس رسالتها ومنهجها، فما أبعد أن يكون هؤلاء "منكم".

وإن عبيد السلاطين قد فجروا إلى الحد الذي أفتى فيه بعضهم بأن (البابا شنودة) إن حكم مصر فهو ولي أمر، وأن بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق هو ولي أمر تجب طاعته!! فما أبعد هؤلاء أن يكونوا داخلين تحت قول الله تعالى (منكم)، إلا أن فجور علماء السلطة لا حد له.

حين يقع التنازع بين الأمة وبين أولي الأمر فإن جهة الفصل في المنازعة تكون بالعودة إلى المرجعية العليا النهائية: الكتاب والسنة
5. والآية نفسها تصرح بحق الأمة في مخالفة أولي الأمر، في قوله تعالى (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)، أي أن للأمة أن تنازع "أولي الأمر" الذين هم "منها"، فلم يصنع الإسلام أمة من العبيد والرعاع والغنم، بل ضمن لهم حق المنازعة والاعتراض والاختلاف، وهو الحق الذي يسبقه حق المراقبة والنقد والتقويم.. وفي الخطبة الأولى للخليفة الأول قال: "إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني".

وقد أجمع علماء السلاطين عند تلاوتهم للآية أن يتوقفوا عند "أولي الأمر"، فلا يُجاوزون الكلام إلى ما يليها مباشرة "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ..." وهو شبيه بفعل أحبار اليهود حين يريدون أن يكتموا ما أنزل الله من الكتاب، ولولا أن كتاب الله محفوظ تكفل الله بحفظه، لقام عبيد السلطان هؤلاء بتحريف الكتاب كما قام به أسلافهم واشتروا به ثمنا قليلا.

6. وحين يقع التنازع بين الأمة وبين أولي الأمر فإن جهة الفصل في المنازعة تكون بالعودة إلى المرجعية العليا النهائية: الكتاب والسنة، (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)، ومقتضى هذا أن يكون الفصل بين الحكام والأمة للعلماء، حيث هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله.

(لتقريب الصورة: يشبه الأمر في الدول العلمانية المحكمة الدستورية العليا، الجهة التي تقيم وتفصل في الخلاف بين السلطة والشعب طبقا للدستور، إلا أن الفوارق بين النظام الإسلامي والعلماني ضخمة من أهمها: أن العلماء نبت الأمة لا يستندون في مكانتهم على شهادة من السلطة كما لا تجمعهم منظومة كهنوتية ولا نظامية تُسهل التحكم فيهم وفي قرارهم، كما أن الدستور المكتوب ليس نصا وضعته لجنة في ظرف سياسي ففيه كل عوار عمل البشر وضغط الظرف وإنما هو نص مقدس مطلق لم يكتبه بشر وخُدِم بالتفسير عبر قرون وأجيال وعلى اتساع نصف العالم بما يجعل إمكانية التحريف والانحراف عنه مفضوحة مكشوفة مستنكرة. لمزيد إيضاح للفكرة انظر هنا وهنا وهنا وهنا وهنا).

تلك ست كذبات وتحريفات فاجرة يرتكبها عبيد السلاطين في آية واحدة لا تتجاوز السطرين، مكونة من تسع عشرة كلمة فحسب، لا لغرض إلا لترقيع دنيا سلاطينهم من دينهم هم، فبئس ما يفعلون!
هوامش:
[1] ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط1 (الرياض: جامعة الإمام، 1986)، 1/557.
[2] الجويني، الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، ط1 (جدة: دار المنهاج، 2011م)، ص275، 276.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق