لقد فقد الإعلام «العربي» مصداقيته، حينما بدأ الآن يذكّر العرب بما يسميه «الاحتلال التركي» الذي انتهى منذ مائة عام، ثم يغض الطرف عن الاحتلال الحالي الصهيوني للقدس، والاحتلال الصفوي لبغداد ودمشق وصنعاء، إضافة إلى الاحتلال الرسمي للجزر العربية الثلاث، بل ويسكت عن الدعوات الصريحة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وجعل «أمن المواطن الإسرائيلي» من أولى الأولويات.
إن نبش التاريخ بهذه الطريقة لا يخدم العرب بكل المقاييس، إضافة إلى أنه محاولة لمحاكمة واقع بمقاييس واقع مختلف، فالعرب الذين فتحوا البلاد المجاورة، ووصلوا إلى القسطنطينية وبخارى وقرطبة، إنما فتحوها تحت ظل العقيدة الإسلامية الجامعة، ولم يكن ثمّة استعلاء قومي أو تمييز عنصري، بل كان العرب يتقبلون المنافسة على الصدارة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً، ومن هنا كان قبولهم بمحمد الفاتح وسليمان القانوني وعبد الحميد الثاني، يكافئ قبول الترك أيضاً بأبي أيوب الأنصاري، ثم هارون الرشيد والمعتصم، وبهذه العقيدة الجامعة لمع أيضاً اسم طارق بن زياد، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، كما لمع اسم أبي حنيفة، والبخاري، والترمذي، والغزالي.
إن نبش التاريخ بهذه الطريقة يحمل أيضاً فكرة مغلوطة هدفها تخويف العرب من خلافة عثمانية جديدة، مع أن الذي يروّج لمثل هذا عارف بأن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، وأن الفلسفة التي تقوم عليها الدولة التركية الحديثة مختلفة إلى حد كبير عن الفلسفة التي تكونت على أساسها الدولة العثمانية، ثم إن السياسة العالمية الحالية لا يمكن أن تتسع لمثل تلك الصيغ في بناء الدول، ومن ثم فالذي نطرحه بقوة هو بناء تحالف بين دول حديثة على أساس الندية والمصالح المشتركة ووفق النظام الحديث وليس بصورة سلطان السلاطين وملك المماليك.
هنالك من يستغفل مشاهديه ومتابعيه، فيلتقط صورة تجمع القادة الأتراك بنظرائهم الإيرانيين أو الروس أو غيرهم في أي مناسبة كانت، ليستنتج من ذلك أن الأتراك متحالفون مع أعداء العرب، متغافلاً أن الدول التي يفترض أنه يعبّر عن سياساتها ربما تتمتّع بعلاقات أكثر نعومة، وأوسع دائرة مع كل أولئك، والأهم من هذا أنه يتغافل عن أن تركيا تملك قرارها السيادي، وتبني علاقاتها السياسية وفق ذلك، بخلاف كثير من الدول العربية، وعليه فالتوازن المطلوب في المنطقة إنما يتحقق بوجود توازن فعلي على الأرض من حيث الإمكانيات والقدرات، وليس بالسباب والشتائم ولا بالمقاطعة السلبية التي قد تضر بنا وبشعوبنا أكثر مما تنفع.
إن تركيا قادرة على التأثير في سياسة المنطقة بوزنها الاقتصادي وموقعها الجيوسياسي وببنائها الداخلي المتماسك، ومن ثم فلا خشية من علاقاتها المتعددة والمتشعبة، لأنها بكل الأحوال لن تكون ذيلاً لأحد، ولا أداة وظيفية بيد أحد.
أغرب من ذلك من يقول: إن تركيا تهمها مصالحها! وكأن المطلوب من أردوغان أن يقول لشعبه: سأضحّي بمصالحكم من أجل إخواننا العرب!
إن الذي يقرأ الساحة بشكل جيد يدرك أن تركيا بحاجة إلى العرب للوصول إلى الكثير من مصالحها، وحاجة العرب إلى تركيا أكبر، والفرصة ما زالت قائمة لبناء تحالف استراتيجي بين الطرفين لتحقيق المصالح المشتركة وإعادة التوازن المطلوب في المنطقة.
أقرأ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق