السبت، 30 سبتمبر 2017

الإنسان العربي المُستورَد

الإنسان العربي المُستورَد
الاستاذ محمد بن سعيد الفطيسي

( فلنعط هذا العالم ما يشاء , ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي ‏والفني , فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة , وتحرر العملاق من عقدة عجزه الفني ‏والصناعي , أصبح خطر " العالم العربي " وما وراءه من " الطاقات الإسلامية " الضخمة , ‏خطرا داهما ينتهي به الغرب , وينتهي معه دوره القيادي في العالم ) . ‏

‏ هكذا تحدث المستعمر الأجنبي لبلادنا العربية منذ أكثر من نصف قرن , ووراء ‏ذلك الهدف قد سعى بتعاون مع أعوانه من العملاء والمرتزقة في الداخل العربي على تنفيذ ‏مخططاته الإجرامية السياسية منها والثقافية والاقتصادية , فنجح الى حد بعيد في تحقيق ‏غاياته الاستراتيجية الدنيئة , وعلى رأسها تحويل الأوطان العربية الغالية الى كيانات ‏اقتصادية هامشية هشة ومهمشة بين أمم الأرض , تتبع إرادته وإدارته العابرة للقارات , ‏وتحويل الإنسان العربي فيها الى كائن بشري مستورد في كل شئ , وذلك بفقدان القدرة على ‏الاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية الوطنية والقومية وتحديد الأولويات المستقبلية 0 ‏

‏ فتحولت مدننا العربية الى مصانع وأسواق تقليدية كلاسيكية لترويج البضائع ‏الأجنبية المستوردة , بهدف تسمين المواطن العربي بالسعرات الحرارية والدهون النباتية ‏والحيوانية , فلم نعد نشاهد في الشوارع غير ملايين الجثث الآدمية المتحركة التي أشبعها ‏ملح الطعام تكلسا وتصلبا وفساد , ففقدت إمكانية التفكير والإبداع والإنتاج بسبب عسر ‏الهضم الذي لم " ولن " نجد له دواء من الخارج , ان كان منا من ينتظر ذلك يوما0 ‏

‏ فكل شئ أصبح مستوردا – وللأسف الشديد - في بلادنا العربية , بداية بأدوات ‏الثقافة والتعليم والفكر , كالقلم والحبر والورق , ومرورا بالطائرة والجرار الزراعي ومن ‏في شاكلتها من أدوات التنمية والتطور التكنولوجي الحديثة , وأدوات البناء والعمران ‏والصناعة , وأدوات الدفاع عن الوطن والدفاع عن الجسم البشري, وليس انتهاء بطعامنا ‏وشرابنا وملابسنا الداخلية التي يستحي البعض منا أن يشاهده الناس وهو يقتنيها من ‏المحلات التجارية الكبرى , والتي تحولت الى حصالات استثمارية وصناديق ادخار ‏للرأسمالية وأصحاب رؤوس الأموال الأجنبية ,والذين تعاونوا مع أمثالهم في الداخل على ‏تفريغ عقولنا وجيوبنا وخيرات أوطاننا تحت أسماء وشعارات تجارية واقتصادية واستثمارية ‏لاحصرلها.0 

‏ وكل شئ أصبح يأتينا ببراءة اختراع ومناقصة خارجية , وباتفاقية أجنبية مختومة ‏بختم الاستعمار الاقتصادي والأسواق الحرة , وكأن هذا العالم العربي قد أصابه العقم أو ‏الجنون أو الموت السريري , فلم يعد يقدر على الصناعة والإنتاج والاختراع والإبداع وتلبية ‏متطلبات أبناءه وحاجاتهم من خيراته وثرواته وإمكانياته الداخلية الغير محدودة , فتحول فيه ‏الإنسان الى مجرد كائن للتعبئة والتفريغ والاستهلاك , والوطن الى محرقة لكل بضاعة ‏رخيصة فاسدة وغير قابلة للاستهلاك البشري في مصادرها الطبيعية.0

نعم ... لقد فقدنا الاستقلالية الصناعية والتجارية والاقتصادية , فتحولنا الى ‏أذناب تابعة للاستعمار الاقتصادي والصناعي الغربي , مع ان وطننا العربي الكبير قادر ‏على تلبية رغبات الشعب العربي بأكمله من الغذاء والكساء , بل ومن العقول العظيمة التي ‏لن تعجز عن صناعة الصاروخ والطائرة والسفينة وغيرها من أدوات الحضارة والتقدم , ‏وهذا ما هو حاصل بحق في بلاد الغرب كالولايات المتحدة الاميريكية وأوربا , والتي تشهد ‏بان جزء كبير من بناءها الحضاري والتكنولوجي ونهضتها الصناعية قائم على تلك العقول ‏الإسلامية والعربية العظيمة .‏0

‏ لقد كنا نحن السبب المباشر في هذا التخلف الصناعي , وهذا التراجع الاقتصادي ‏والتكنولوجي الذي يلف العالم العربي بخناق قاتل من الجهل والتبعية منذ أكثر من نصف ‏قرن , كنا السبب لأننا عجزنا عن تحقيق الاستقلال والوحدة ولم الصف العربي تحت راية ‏واحدة , وقوة واحدة , ومرجعية واحدة , كنا السبب وراء هذه الظاهرة الاقتصادية البغيضة ‏التي باتت تغلب على حياة الإنسان العربي وحكوماته – واقصد – ظاهرة الاستهلاك , فلم ‏يعد يقوى على الحراك سوى ان مد الغرب له يده , ولا يقوى على الكلام والتفكير سوى ان ‏علمه الغرب ثقافته وعلومه وحضارته , ولا يقوى على الإبداع والصناعة والإنتاج إلا ‏بأدوات مستورده 0 ‏

‏ نعم .... لقد استوردنا كل شئ من الغرب , فلم نكتفي بالآلات والأدوات حتى ‏بتنا نستورد الأفكار والديمقراطيات والحريات , لقد جربنا كل شئ تقريبا على الطريقة ‏الغربية , حتى بات الواحد منا أشبه بإنسان مستورد بالكامل , فكره وتعليمه وثقافته وطريقة ‏حياته وممارساته اليومية والحياتية , فإذا نزلت الشوارع فانك لن تجد الإنسان العربي , ولن ‏تسمع اللسان العربي , ولن تشاهد العالم العربي المفقود .0

‏ فلقد باتت شوارعنا – وللأسف الشديد , وبالطبع فإننا هنا لا نعمم - مليئة بالرث ‏من ثقافة الشوارع الغربية المنحلة , فأينما تتجه ببصرك في بعضها ستجد أنسانا فاقدا لدينه ‏وعروبته وعاداته وتقاليده العربية الأصيلة , لا يعرف للانتماء الوطني , أو الفكر العربي ‏طريق , ستشاهد أقواما لا يعرفون سوى ثقافة الجينز والهمبرغر , ولا " يرطنون " سوى ‏باللغات الأجنبية , ولو سألتهم أين يقع المسجد الأقصى الشريف لأجابوك في إسرائيل ؟!!!0 ‏

‏ إن العالم العربي اليوم لا يستطيع ولن يستطيع أن يحارب الاستعمار والاحتلال ‏الأجنبي لأنه ( مدين له في ماله , عيال عليه في لباسه وبضائعه , لا يجد قلما يوقع به على ‏ميثاق مع الغرب إلا القلم الذي صنع في الغرب , ولا يجد ما يقاتل به الغرب , إلا ‏الرصاص الذي فرغ في الغرب , ان عارا على هذه الأمة العربية ان تعجز عن الانتفاع ‏بمنابع ثروتها وقوتها , 0000 وان يدرب جيوشها وكلاء الغرب وضباطه , ويدير بعض ‏مصالح حكوماتها رجاله , فلابد للعالم العربي ان يقوم هو بنفسه بحاجاته : تنظيم التجارة ‏والمالية , وحركة التوريد والتصدير , والصناعة الوطنية , وتدريب الجيوش , وصنع ‏الآلات والماكينات )0 ‏

‏ إننا اليوم بأمس الحاجة الى نشر ثقافة الاستهلاك بين أبناء الشعب العربي , والوعي ‏بطرق الاستقلال والوحدة , بأمس الحاجة الى ان تفهم حكوماتنا العربية بأنها مستهدفة من ‏الخارج والداخل , من الخارج من خلال التبعية السياسية والاقتصادية وغيرها من أشكال ‏الاستعمار والاحتلال والابتزاز , ومن الداخل من خلال بعض من يدعي انه من أبناءها ‏والخائفين عليها والحريصين على سلامتها , وهو في حقيقة الأمر أول من يسعى الى تفتيتها ‏وإضعاف بناءها الاقتصادي والسياسي , وذلك من خلال ترسيخ مفهوم العجز الصناعي ‏والتجاري , وزيادة مستوى الخنوع والتبعية والاستهلاك , ونشر عادات الاتكال والضعف ‏والاستسلام 0 ‏

‏ ان المسؤولية الأولى عن تنمية وتطوير البلدان النامية تقع على عاتق حكوماتها ‏ومن ثم على أكتاف أبناءها , وذلك من خلال الالتزام بتحمل المسؤولية الفردية والجماعية ‏‏( ان البلدان النامية , مطالبة بأن تتفحص وتفحص جيدا ما هي التكنولوجيا التي تحتاجها ‏وتتطلبها مسيرتها التنموية , حتى لا تشتري أو تمتلك تكنولوجيا لا تستطيع تشغيلها , ومن ‏ثم الإفادة منها الفائدة المرجوة ) , كما هو حال الكثير من بلداننا العربية اليوم – وللأسف ‏الشديد - والتي تشتري احدث النظم والحواسيب والتكنولوجيا وغيرها , في وقت لا يفقه ‏فيه الإنسان فيها كيفية العمل على تلك الأجهزة وغيرها , وتبني البنايات الفارهة ذات النمط ‏العمراني الحديث والمتطور , بينما يعيش أبناءها بعقلية أكواخ القش والطين 0 ‏

‏ كفانا أيتها الحكومات العربية اتكالا على الآخرين في الإنتاج والصناعة والاقتصاد ‏والسياسة , كفانا تبعية للاستعمار وأعوانه في كل شؤون حياتنا , فقد آن الأوان للاعتماد ‏على النفس والذات والعقل العربي , وقد آن ان نتنبه لما يحاك لأوطاننا العربية الغالية في ‏الخارج والداخل من مؤامرات وحيل ومكائد لتقسيمها وإضعافها , وبالطبع فان ذلك لن يكون ‏سوى من خلال الدفع بالتنمية والتطوير من الداخل أولا , من خلال تطوير الإنسان وعقله ‏وفكره قبل العمران وناطحات السحاب , وبناء العقول من خلال التعليم المستمر الى ما لا ‏نهاية , وتطوير الرؤى المشتركة بين مختلف القطاعات لرسم سياسات موحدة تمكن ‏الحكومات من إتاحة الفرصة أمام مواطنيها للمشاركة الفعلية في اتخاذ القرار , وغيرها من ‏أساليب رفع مستوى الوعي بأهمية الصناعات الوطنية والعربية والانتماء الوطني 0 ‏
‏ ‏
‏ ‏
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ‏
رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية

هناك تعليق واحد:

  1. مقال موجع، يصف واقع الحال الذي لا يسر ... يستحق قراءة متأملة

    ردحذف