الإنسان العربي المُستورَد | |
الاستاذ محمد بن سعيد الفطيسي |
هكذا تحدث المستعمر الأجنبي لبلادنا العربية منذ أكثر من نصف قرن , ووراء ذلك الهدف قد سعى بتعاون مع أعوانه من العملاء والمرتزقة في الداخل العربي على تنفيذ مخططاته الإجرامية السياسية منها والثقافية والاقتصادية , فنجح الى حد بعيد في تحقيق غاياته الاستراتيجية الدنيئة , وعلى رأسها تحويل الأوطان العربية الغالية الى كيانات اقتصادية هامشية هشة ومهمشة بين أمم الأرض , تتبع إرادته وإدارته العابرة للقارات , وتحويل الإنسان العربي فيها الى كائن بشري مستورد في كل شئ , وذلك بفقدان القدرة على الاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية الوطنية والقومية وتحديد الأولويات المستقبلية 0
فتحولت مدننا العربية الى مصانع وأسواق تقليدية كلاسيكية لترويج البضائع الأجنبية المستوردة , بهدف تسمين المواطن العربي بالسعرات الحرارية والدهون النباتية والحيوانية , فلم نعد نشاهد في الشوارع غير ملايين الجثث الآدمية المتحركة التي أشبعها ملح الطعام تكلسا وتصلبا وفساد , ففقدت إمكانية التفكير والإبداع والإنتاج بسبب عسر الهضم الذي لم " ولن " نجد له دواء من الخارج , ان كان منا من ينتظر ذلك يوما0
فكل شئ أصبح مستوردا – وللأسف الشديد - في بلادنا العربية , بداية بأدوات الثقافة والتعليم والفكر , كالقلم والحبر والورق , ومرورا بالطائرة والجرار الزراعي ومن في شاكلتها من أدوات التنمية والتطور التكنولوجي الحديثة , وأدوات البناء والعمران والصناعة , وأدوات الدفاع عن الوطن والدفاع عن الجسم البشري, وليس انتهاء بطعامنا وشرابنا وملابسنا الداخلية التي يستحي البعض منا أن يشاهده الناس وهو يقتنيها من المحلات التجارية الكبرى , والتي تحولت الى حصالات استثمارية وصناديق ادخار للرأسمالية وأصحاب رؤوس الأموال الأجنبية ,والذين تعاونوا مع أمثالهم في الداخل على تفريغ عقولنا وجيوبنا وخيرات أوطاننا تحت أسماء وشعارات تجارية واقتصادية واستثمارية لاحصرلها.0
وكل شئ أصبح يأتينا ببراءة اختراع ومناقصة خارجية , وباتفاقية أجنبية مختومة بختم الاستعمار الاقتصادي والأسواق الحرة , وكأن هذا العالم العربي قد أصابه العقم أو الجنون أو الموت السريري , فلم يعد يقدر على الصناعة والإنتاج والاختراع والإبداع وتلبية متطلبات أبناءه وحاجاتهم من خيراته وثرواته وإمكانياته الداخلية الغير محدودة , فتحول فيه الإنسان الى مجرد كائن للتعبئة والتفريغ والاستهلاك , والوطن الى محرقة لكل بضاعة رخيصة فاسدة وغير قابلة للاستهلاك البشري في مصادرها الطبيعية.0
نعم ... لقد فقدنا الاستقلالية الصناعية والتجارية والاقتصادية , فتحولنا الى أذناب تابعة للاستعمار الاقتصادي والصناعي الغربي , مع ان وطننا العربي الكبير قادر على تلبية رغبات الشعب العربي بأكمله من الغذاء والكساء , بل ومن العقول العظيمة التي لن تعجز عن صناعة الصاروخ والطائرة والسفينة وغيرها من أدوات الحضارة والتقدم , وهذا ما هو حاصل بحق في بلاد الغرب كالولايات المتحدة الاميريكية وأوربا , والتي تشهد بان جزء كبير من بناءها الحضاري والتكنولوجي ونهضتها الصناعية قائم على تلك العقول الإسلامية والعربية العظيمة .0
لقد كنا نحن السبب المباشر في هذا التخلف الصناعي , وهذا التراجع الاقتصادي والتكنولوجي الذي يلف العالم العربي بخناق قاتل من الجهل والتبعية منذ أكثر من نصف قرن , كنا السبب لأننا عجزنا عن تحقيق الاستقلال والوحدة ولم الصف العربي تحت راية واحدة , وقوة واحدة , ومرجعية واحدة , كنا السبب وراء هذه الظاهرة الاقتصادية البغيضة التي باتت تغلب على حياة الإنسان العربي وحكوماته – واقصد – ظاهرة الاستهلاك , فلم يعد يقوى على الحراك سوى ان مد الغرب له يده , ولا يقوى على الكلام والتفكير سوى ان علمه الغرب ثقافته وعلومه وحضارته , ولا يقوى على الإبداع والصناعة والإنتاج إلا بأدوات مستورده 0
نعم .... لقد استوردنا كل شئ من الغرب , فلم نكتفي بالآلات والأدوات حتى بتنا نستورد الأفكار والديمقراطيات والحريات , لقد جربنا كل شئ تقريبا على الطريقة الغربية , حتى بات الواحد منا أشبه بإنسان مستورد بالكامل , فكره وتعليمه وثقافته وطريقة حياته وممارساته اليومية والحياتية , فإذا نزلت الشوارع فانك لن تجد الإنسان العربي , ولن تسمع اللسان العربي , ولن تشاهد العالم العربي المفقود .0
فلقد باتت شوارعنا – وللأسف الشديد , وبالطبع فإننا هنا لا نعمم - مليئة بالرث من ثقافة الشوارع الغربية المنحلة , فأينما تتجه ببصرك في بعضها ستجد أنسانا فاقدا لدينه وعروبته وعاداته وتقاليده العربية الأصيلة , لا يعرف للانتماء الوطني , أو الفكر العربي طريق , ستشاهد أقواما لا يعرفون سوى ثقافة الجينز والهمبرغر , ولا " يرطنون " سوى باللغات الأجنبية , ولو سألتهم أين يقع المسجد الأقصى الشريف لأجابوك في إسرائيل ؟!!!0
إن العالم العربي اليوم لا يستطيع ولن يستطيع أن يحارب الاستعمار والاحتلال الأجنبي لأنه ( مدين له في ماله , عيال عليه في لباسه وبضائعه , لا يجد قلما يوقع به على ميثاق مع الغرب إلا القلم الذي صنع في الغرب , ولا يجد ما يقاتل به الغرب , إلا الرصاص الذي فرغ في الغرب , ان عارا على هذه الأمة العربية ان تعجز عن الانتفاع بمنابع ثروتها وقوتها , 0000 وان يدرب جيوشها وكلاء الغرب وضباطه , ويدير بعض مصالح حكوماتها رجاله , فلابد للعالم العربي ان يقوم هو بنفسه بحاجاته : تنظيم التجارة والمالية , وحركة التوريد والتصدير , والصناعة الوطنية , وتدريب الجيوش , وصنع الآلات والماكينات )0
إننا اليوم بأمس الحاجة الى نشر ثقافة الاستهلاك بين أبناء الشعب العربي , والوعي بطرق الاستقلال والوحدة , بأمس الحاجة الى ان تفهم حكوماتنا العربية بأنها مستهدفة من الخارج والداخل , من الخارج من خلال التبعية السياسية والاقتصادية وغيرها من أشكال الاستعمار والاحتلال والابتزاز , ومن الداخل من خلال بعض من يدعي انه من أبناءها والخائفين عليها والحريصين على سلامتها , وهو في حقيقة الأمر أول من يسعى الى تفتيتها وإضعاف بناءها الاقتصادي والسياسي , وذلك من خلال ترسيخ مفهوم العجز الصناعي والتجاري , وزيادة مستوى الخنوع والتبعية والاستهلاك , ونشر عادات الاتكال والضعف والاستسلام 0
ان المسؤولية الأولى عن تنمية وتطوير البلدان النامية تقع على عاتق حكوماتها ومن ثم على أكتاف أبناءها , وذلك من خلال الالتزام بتحمل المسؤولية الفردية والجماعية ( ان البلدان النامية , مطالبة بأن تتفحص وتفحص جيدا ما هي التكنولوجيا التي تحتاجها وتتطلبها مسيرتها التنموية , حتى لا تشتري أو تمتلك تكنولوجيا لا تستطيع تشغيلها , ومن ثم الإفادة منها الفائدة المرجوة ) , كما هو حال الكثير من بلداننا العربية اليوم – وللأسف الشديد - والتي تشتري احدث النظم والحواسيب والتكنولوجيا وغيرها , في وقت لا يفقه فيه الإنسان فيها كيفية العمل على تلك الأجهزة وغيرها , وتبني البنايات الفارهة ذات النمط العمراني الحديث والمتطور , بينما يعيش أبناءها بعقلية أكواخ القش والطين 0
كفانا أيتها الحكومات العربية اتكالا على الآخرين في الإنتاج والصناعة والاقتصاد والسياسة , كفانا تبعية للاستعمار وأعوانه في كل شؤون حياتنا , فقد آن الأوان للاعتماد على النفس والذات والعقل العربي , وقد آن ان نتنبه لما يحاك لأوطاننا العربية الغالية في الخارج والداخل من مؤامرات وحيل ومكائد لتقسيمها وإضعافها , وبالطبع فان ذلك لن يكون سوى من خلال الدفع بالتنمية والتطوير من الداخل أولا , من خلال تطوير الإنسان وعقله وفكره قبل العمران وناطحات السحاب , وبناء العقول من خلال التعليم المستمر الى ما لا نهاية , وتطوير الرؤى المشتركة بين مختلف القطاعات لرسم سياسات موحدة تمكن الحكومات من إتاحة الفرصة أمام مواطنيها للمشاركة الفعلية في اتخاذ القرار , وغيرها من أساليب رفع مستوى الوعي بأهمية الصناعات الوطنية والعربية والانتماء الوطني 0
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية
مقال موجع، يصف واقع الحال الذي لا يسر ... يستحق قراءة متأملة
ردحذف