التعذيب هواية.. روهنغيا مصرية
حسناً، لنتجاهل تقرير "هيومان رايتس ووتش" الجديد عن التعذيب في مصر، ولا نعطي آذاننا إلا للحكومة المصرية، ولا نصدّق إلا ما تقول، فعندها الخبر اليقين، والمعلومة الصحيحة، غير المسيسة، باعتبار أنها حكومةٌ لا تشغل نفسها بالسياسة، وتقضي وقتها كله في العزف على القيثارة ومحاولة التجديد في قصيدة النثر.
نأخذ من كلام المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية، أحمد أبو زيد، وهو يرد على تقرير المنظمة الدولية التي يصفها، على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، بأنها "منظمة مشبوهة ومسيسية في مواقفها على مر التاريخ ضد مصر".
من حيث أراد المتحدث باسم الخارجية نفي وجود التعذيب في المعتقلات والسجون وأماكن الاحتجاز، كما قالت المنظمة في تقريرها، فإنه يعترف بالآتي "الالتزام المصري الرسمي على أعلى المستويات السياسية بمحاسبة من يثبت تورّطه في عمليات تعذيب أو أية انتهاكات لحقوق الإنسان، وهو ما أكدت عليه الممارسة الفعلية من جانب القضاء المصري بتوقيع عقوبات على العشرات ممن ثبت إدانتهم في مثل تلك الانتهاكات".
يتحدث المتحدث عن عقوبات "على العشرات ممن ثبت إدانتهم في هذه الانتهاكات"، وهذا بحد ذلك يكفي إقراراً باستخدام التعذيب على نطاق واسع لدى الأجهزة الأمنية المصرية، فكون العشرات ثبتت إدانتهم، فهذا يعني، بالبداهة، أن هناك مئات، بل وآلاف، لم يفكر أحد في إدانتهم، ولن يهتم بإثباتها.
منذ البداية، قدّم السيسي حوافز تشجيعية لضباط التعذيب، بإطلاق مقولته الشهيرة، في بواكير الانقلاب، إن زمن محاسبة ضابط على قتل المتظاهرين قد ولى، مردفاً "إن المتظاهرين أدركوا ذلك"، فما بالك بالمعتقلين الذين يقعون بين براثن ساديين، تجاوزوا مرحلة اتخاذ التعذيب حرفة وأسلوباً لإكراه الضحايا على الاعتراف بما لم يرتكبوه، إلى هوايةٍ ووسيلةٍ للاستمتاع والتلذذ واقتناص لحظات من السعادة والنشوة!
كتبت سابقاً إننا بصدد نظامٍ تفوق على كل قصص الطغاة التي أوردها المفكر المصري، إمام عبد الفتاح إمام، في كتابه "الطاغية"، والذي يتحدّث فيه عن النظام السياسي السيئ: "يعمل على تدمير الإنسان، وتحطيم قيمه وكرامته، ليتم تحويل الشعب إلى جماجم وهياكل عظمية، تسير في الشارع منزوعة النخاع، شخصيات تافهة تطحنها مشاعر العجز والدونية واللاجدوى".
وفي شهادةٍ لمعتقل سابق من شباب ثورة يناير، تتجسّد أمامك سيكولوجية الضابط الذي يمارس التعذيب من أجل المتعة الشخصية، وفيها "كنت مستسلماً تماماً لما أظنه قادماً (الموت). تم صعقي عدة صعقاتٍ كان يعلو معها صراخي، وفجأة شعرت بعصا ترفع عضوي الذكري (آسف)، ثم شعرت بحبلٍ يمسكه من بدايته، ويشدّه، وصوت الضابط يضحك بجنون، وهو يقول "أنت كدا كدا قاعد معانا 30 سنة، يعنى دا مش محتاجه تاني". ثم يقوم بصعقي فيه، ويتحرّش بي بعصا، كان يمسكها مهدداً باغتصابي. فقدت الوعي أخيراً، لأفيق، وأنا ممدّد على البلاط خارج المكتب، وجسدي يرتعش، وأحدهم يرشّ الماء علي، فطلبت منه أن أشرب، فوضع الزجاجة على فمي، وما إن لامس الماء شفتيّ، حتى رفعها مجدداً، وهو يقول: كفاية كدا، علشان المياه بعد الكهرباء غلط".
تلك كانت شهادة حية ومباشرة من أحد العائدين من سلخانات التعذيب، وليست مما ورد تقرير "هيومان رايتس ووتش" الذي يسجل قصصاً مشابهة، مما بات معلوماً ومدركاً في مصر، ولا يحتاج إلى تقارير، ذلك أن المأساة بدأت بابتذال عاطفة "حب الوطن"، لتصبح صيحة "تحيا مصر" ملاذاً آمناً للقتلة والفاسدين والفاشلين، ومنتهكي حقوق البشر، فمن يرى القتل عملاً مبرّراً ومستساغاً، طالما كان في حب مصر، هل يتورّع عن ممارسة التعذيب ضد من تشتغل آلة إعلامية جبارة على تصنيفهم خونة وأعداء للوطن؟!
الذين ارتكبوا مذابح بحجم "رابعة العدوية" والغوطة وحلب، من الطبيعي، بل والمنطقي، أن ينظروا إلى معارضيهم كما يفعل نظام ميانمار في أقلية الروهنغيا، وتكفي نظرة سريعة على أرشيف خطابات عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد التي تصنف قطاعاً من الشعب باعتباره عدواً، وتنزع عنه حقوق المواطٓنة، لكي تتوقع ما يمكن أن يجري داخل جحيم السجون والمعتقلات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق