حفل إفطار رمضاني
نص أدبي بقلم :د. محمد عباس
الخميس 1 رمضان 1500هـ- الموافق22 يوليو 2077
-1-
ها هو ذا رمضان يعود، ما أجمله، كم أحبه، رغم أيام العناء والجوع والعطش، ومنذ كنت أفطر عند الظهر، وكل عام يطول صيامي ساعة أو ساعتين، حتى صمت اليوم كاملا للمرة الأولى في العام الماضي، وكانت جائزتي الكبرى أن قربني جدي، بل وسمح لي في بعض الأحيان أن أتوسد فخذه، فلا يوقظني إشفاقا ورحمة إذا غلبني النوم و أنا أسمع حكاياته.
ظللت أعواما و أعواما، كلما سمعت حكاية بطل، تجسد ذلك البطل في شكل جدي. وظننته يخفي علينا أنه كان هو بنفسه البطل. وتخابثت عليه مرة فسألته:
- جدي: هل كنت موجودا أيام صلاح الدين وهل شاهدته؟
وكنت أموت شوقا لأن يحتويني في حضنه ويخصني بالسر وحدي قائلا: أنا صلاح الدين.
لكنه انفجر ضاحكا فملأني العار والخزي، وقلت لنفسي ربما قطع على نفسه عهدا ألا يفشي السر لأحد.
وبرغم خزيي وعاري لم أتوقف، بل إنني كنت أظن أنه حتى الملائكة تشبهه، وأنها لو ظهرت لنا على الأرض فلن يكون شكلها إلا شكله.
-2-
لم أستوعب حكايات كثيرة من حكايات جدي، إما لأنها كانت صعبة عليّ، و إما لأنني كنت أنام وهو يحكيها فينقطع مني الخيط وتضيع الحبكة. ولولا أن إخوتي و أبناء عمومتي أسعفوني برتق ثقوب الذاكرة ما استطعت أن أسجل هذه الذكريات بعد حدوثها بما يقارب ربع القرن، أي في بدايات القرن الثاني والعشرين.
-3-
حكى لنا جدي عن الطاغوت ألف حكاية، فسألته ذات مرة في دهشة:
- كم ألف عام عاش هذا الطاغوت.
وضحك جدي قائلا أن الطاغوت ليس شخصا، و إنما هو لقب، كالملك، والرئيس، وكفرعون.
-4-
ثمة حكاية لم يمل جدي من حكايتها ألف مرة، لم تكن مرة منها مثل سابقاتها، كان فيها دائما يتوهج، وكان وجهه يضيء بضوء غريب، وكنت أختلس النظر إلى الحائط كل حين، متوقعا في كل مرة أن أرى ظلال أجسادنا الناتجة عن نور وجهه المنسكب علينا تتمدد على الحائط.
وكان جدي في كل مرة يقول:
كان هذا الحدث هو أهم حدث في العقد الأول من هذا القرن.
أما الحدث فكان قيام الطاغوت بإلغاء حفل لإفطار رمضاني كانت تقوم به كل عام جماعة إخوة الإسلام.
وسألت جدي غير مصدق:
- وكيف استطاع الطاغوت أن يتحدى جماعة يحكم رجالها دول العالم الإسلامي كله
واكتسى وجه جدي ببسمة نصفها ألم و نصفها انتصار وتمتم
- في ذلك الوقت لم يكن الواحد منا يأمن أن يبيت في بيته دون أن يتخطفه خدم الطاغوت وجلاديه، ولم يكن الواحد منا يستطيع أن يدير أي عمل أو أن يملك أي مشروع، بعد أن استولى أعوان الطاغوت على كل ما نملك ونهبوه، ابتداء من المصادرة والتأميم لتكوين القطاع العام ومرورا ببيع القطاع العام لتصفيته ومرورا بشركات توظيف الأموال ثم المحاكمات الاستثنائية والمدعي الاشتراكي، كانت عملية نهب، ونزح للثروة من فئة لصالح اللصوص الذين يملكون الإذاعة والتليفزيون والصحف والأمن. وكان شعارهم الذي لم يعلنوه ولم يتحولوا عنه أن رعي الخنازير خير من رعي الجمال!.
كرر جدي الحكاية ألف مرة، حاولت أن أجمع الروايات لكنها اختلفت في التواريخ، فأكد أبناء عمي الأول أنها حدثت منذ سبعين عاما، أبناء العم الثاني قالوا بل منذ خمسة وستين، أما أختي فقالت بل منذ خمسة وسبعين عاما، وبعد أن استبدت بي الحيرة، و بعد مراجعتي للاحتمالات جميعا، رجحت أن منع حفل الإفطار تكرر ثلاث مرات، والأرجح أنه على يد طاغوتين أو ثلاثة، لأن المؤكد أن الطاغوت الأول هلك بعيد الحدث، بطريقة أسطورية مذهلة قلبت كل الموازين، حتى أن الناس كانوا يسيرون في الشوارع يضربون كفا بكف هاتفين:
- أخذ عزيز مقتدر.
وكان البعض الآخر يرتل:
- (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) .(26)آل عمران.
وكان آخرون يقولون في ذهول
- (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدا)ً (35)الكهف
-5-
في ليال كثيرة، بعد أن كبرت قليلا، وتوجت حفلات الإفطار اليومية بصلاة التراويح، كان جدي يجلس معنا بعد الصلاة ليحكي، وفي حكايات كثيرة، كانت دموعي تسيل في صمت، لكن في أحيان أخرى كنت أبكي و أنتحب، بل إنني في مرات لم أكتف بالنحيب فانفجرت أصرخ في نوبات عاتية، كان جدي يحكي لنا عن شهيد في مثل عمري، اسمه محمد الدرة، وكان يحكي كيف قتلوه، فصرخت، ويوما آخر كان يحكي عن شهيدة أصغر مني، اسمها إيمان حجو، أرانا جدي صورتها في كتاب ضخم كان لا يكاد يفارقه، كان حجم الجرح الناتج عن القذيفة في ظهرها هائلا، حتى تخيلت أنه في عرض السماوات والأرض، في المرة الثالثة، كان جدي الذي كان يستعين بفنون التكنولوجيا يعرض لنا مشهدا مصورة عن طفلة اسمها هدى غالية، خرجت مع أهلها للتنزه على شاطئ بحر غزة، كانت تبني قصرا من الرمال بعيدا عنهم، وفجأة انطلقت قذيفة إسرائيلية مزقت الأسرة، وفي لحظة، في لحيظة، في ثانية، في عشر ثانية، كان الأب والأم والإخوة أشلاء، كان الماضي والحاضر والمستقبل أشلاء، كان الحب والوئام والرحمة والحنان أشلاء. كان العدل على الأرض مزقا مزقا تتجسد حتى كدت أراها و أشم ريحها، قال جدي أنه بكي كثيرا يوم حدث ذلك، وعندما لمحت جدي يكبح دمعة فيعجز فيمسحها خفية تحول نحيبي إلى صراخ، حاولت إسكات نفسي فعجزت، حاولوا إسكاتي فعجزوا، كنت أجد نفسي مكانها، وكان و أبي و أمي و إخوتي وأبناء عمومتي هم الأشلاء، وكانت رأس جدي مقطوعة، وعلى الرغم من ذلك كانت عيناه مفتوحتان، وشفتاه تتحركان وهو يكمل الحكاية، وظللت أصرخ و أصرخ وأصرخ، ولم يكن ثمة مناص من استدعاء الطبيب.
بعد ذلك كان جدي أكثر حرصا، وكان يجمل حين يروي لنا تاريخ المذابح والنكبات والأهوال.
-6-
حكى لنا جدي عن طاغوت ارتدت أمه و أخته عن الإسلام من أجل الشهوة، ولم يكن ذلك أفظع جرائمهما.
كانت نخب الطواغيت كلها قد ابتعدت عن مرجعية القرآن والتزمت مرجعية الشيطان. وكانت قد هجرت الإسلام لتغرق في الاستسلام.
وواصل جدي الحكاية فقال أن نصف أبناء الطواغيت قد ارتدوا بعد الثورة الإسلامية ليحافظوا على مصالحهم وليجدوا ملاذا آمنا، ما زالوا يفضلون رعي الخنازير. النصف الآخر يتسول.
-7-
لم أبرأ من الكابوس الذي كنت أرى فيه رأس جدي مقطوعة، وعيناه مفتوحتان، وشفتاه تتحركان وهو يكمل الحكاية، إلا بعد أن حكى لنا كيف تبخرت إسرائيل وتلاشت بعد الثورة، دون طلقة رصاص واحدة. هنالك فقط، ذهب فزعي واختفي روعي وتلاشى غضبي واسترحت.
-8-
حكى لنا جدي عن اشتعال الخلافات بعد الثورة والوحدة الإسلامية، وكيف تنافست دمشق وبغداد والقاهرة وإسلامبول على أن تكون عاصمة للخلافة، لكن مجالس الشورى الإقليمية ورئاسته المركزية اجتمعوا فاتفقوا على قرار لم يختلف عليه أحد، وهو أن تعود الخلافة إلى العاصمة التي اختارها لها الرسول صلى الله عليه وسلم: المدينة المنورة.
-9-
من أجمل صفات جدي أنه كان مثلنا، يبكي ويضحك، ويفرح ويحزن، ولكم بكى وانتحب وهو يحكي لنا عن سقوط عاصمة الخلافة منذ قرن ونصف قرن، و إنشاء إسرائيل، ولقد سمعته ينتحب حين حكى لنا عن هزيمة 67 و عن إعدام سيد قطب وعن التعذيب والتزوير والانهيار أمام أمريكا وإسرائيل. كما كان وجهه يشرق بالنور وهو يحكي لنا عن انتصار العاشر من رمضان، أو عن حفل الإفطار الرمضاني الذي انبثقت منه الشرارة التي أدت إلى الثورة الإسلامية الكبرىٍ.
-10-
قال جدي أن الأمر بدأ طبيعيا تماما، ولم يتخيل أحد أبدا أن يحدث ما حدث، وبرغم مرور نصف قرن فما تزال الحقيقة عصية والروايات مختلفة والآراء متضاربة، كان إخوان الإسلام قد تقدموا بطلب إلى أعوان الطاغوت للسماح لهم بحفل إفطار رمضاني، ورفض الطاغوت ، لكن الإخوان ردوا بأنهم سيقيمون الاحتفال مهما كلفهم الأمر، فإذا رفضتهم كل الفنادق والقاعات فسوف يقيمونه في الشارع أو في الصحراء، وفي اليوم الموعود جهز فرعون سحرته من الكتاب الذين يلبسون الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق كما جهز أمنه من شياطين البشر الذين لم يصفدوا بعد.
وبدأت أهم أحداث منذ سقوط بغداد الأول على يد التتار الأُوَل.
الأحداث التي بدأت بسيطة وهينة ثم تدافعت تداعياتها لتغير وجه العالم.
كيف حدث ذلك؟ ما هي التفاصيل؟ لدينا عشر ملايين رواية!.
كان جدي يتساءل في روايته للأحداث: هل تعمد الإخوان بلبلة الأمن؟ لا أحد يعلم، لكن المتيقن منه أن الشائعات قد ملأت البلاد، من أن حفل الإفطار سيكون في مكان غير متوقع، وراحت التكهنات تذهب كل مذهب، فمن تكهن يؤكد أن الحفل لن يكون في القاهرة لتجنب الحشد الكثيف للأمن، و أنه قد يكون في الإسكندرية أو أسيوط أو أسوان أو طنطا، هل كانت هذه الشائعات مدبرة؟ وهل كانت تستهدف تشتيت الأمن؟ كانت الأقلام تكتب والإذاعات تذيع والفضائيات تنشر وتتلمظ, إحدى الشائعات أكدت أن الحفل سيقام في أحد المساجد الكبرى، على أمل أن تتحرج قيادات الأمن من الأمر باقتحام مسجد، رغم أن هذا حدث من قبل كثيرا، بل وقتلوا العاكفين في المساجد ومزقوا المصاحف وسجلوا أسماء من يصلون الصبح في جماعة لكي يسجلوهم في كشوف الإرهابيين. كان المرشد و إخوانه يردون على التساؤلات بابتسامات صامتة، لم ينفوا أو يؤكدوا أي شائعة. قيل أن الاحتفال سيتم في عمق الصحراء، وأن البعد عن العمران سيتم تعويضه بتكثيف حضور الفضائيات. ولم تكتف الشائعات بذلك، فقد كانت بعض الشائعات غريبة والأخرى مجنونة، كتلك الشائعة الغريبة التي أكدت أن الاحتفال سيتم في مئات القوارب في النيل أو في البحر، أو تلك الأخرى المجنونة التي توقعت أن يبتكر الإخوان ابتكارا غير مسبوق فيقيموا الحفل في مئات المناطيد الصغيرة السابحة في الفضاء.
قال جدي أنه واثق أن الإخوان و إن التزموا بالغموض إلا أنهم لم يشاركوا في ترويج الشائعات، أبدا، أبدا، أبدا، فالصدق عند الإخوان ليس مكرمة و إنما فريضة، والكذب ليس رذيلة و إنما شرك بالله. كتاب أمن الشيطان لم يدركوا ذلك، لم يفهموه، وكيف يفهموه وقد خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ. لذلك اتهموا الإخوان أنهم وراء الشائعات، قال جدي أنه يعتقد أن أهم سبب لانتشار الشائعة هو الشوق الدفين في قلوب الناس لحدوث موضوع الشائعة. شوق دفين طال أمده وعجزت الآليات الطبيعية عن تحقيقه، فلا أحلام اليقظة تكفي ولا النكات تشفي، ويتزايد الضغط فيقترب من نقطة الانفجار ، انفجار الشائعة، كبديل عن الأمل الذي طال انتظاره ولم يتحقق. الأمل، الذي يرى كل واحد أنه نهاية الهم وزوال الغم وانقشاع الظلام والظلم والإيذان بالعدل والنور والحرية، إنه الغريق الذي أيقن بالهلاك فتأتي موجة فتدفعه للشاطئ فيصرخ فرحا وشكرا واستقبالا لحياة جديدة ويردد صرخته كل من كان في مثل حالته. الشائعة هي تلك الموجة، إلا أنها موجة كاذبة كالسراب.
قال جدي وهو يتعجب من آيات الله أن الناس، الأمة، لم يكونوا مصدر الشائعات، بل كانوا التربة المتعطشة إليها، والمضحك، الغريب، أن حالة السعار التي انتابت كتاب السلطة، جعلتهم هم الذين ينثرون بذور الشائعات، إذ يكتبونها في بلاغات لأجهزة الأمن رغم أنهم يسمونها مقالات، وينشرونها في صحفهم، لتتلقفها الأرض العطشى لها. تتلقفها وترعاها وتنميها حتى تسد الأفق.
وهكذا كان.
من المؤكد أن انتشار الشائعات بعثر الأمن، يقول جدي أن أمرا جاءه صبيحة ذلك اليوم بالتوجه للفيوم، وقبيل العصر جاءه أمر بالتوجه إلى الإسماعيلية، قبيل المغرب – وكان قد وصل إلى الجيزة- جاءه الأمر الأخير: ميدان التحرير.
نعم..
ميدان التحرير..
كان ذلك اسمه في ذلك الوقت لكن اسمه تغير بعد ذلك اليوم ليصبح الاسم الحالي: "ميدان الشهداء". لم يكن قد استمد اسمه القديم من تحرير الوطن، بل من لحظة انكسار للوطن، ألقت فيه بعض النساء –بينهن زوجة سعد زغلول، ابنة رئيس الوزراء المتعاون مع الاحتلال- بأوشحتهن وغطاء رؤوسهن ودسنها بالأقدام، كان تحررا من الهوية لا من العبودية، وكان سقوطا في التبعية، كان التحرر من الرباط الجامع الذي يربط الأمة حتى لو تفرق الحكام، لم يكن تحريرا بل تدميرا، نعم، كانت تسميته بالتحرير خسوفا للضمير. الحمد لله الآن يستمد اسمه من دماء الشهداء التي أريقت فيه.
لم تكن أسوأ احتمالات الأمن تخيل له أن الحفل سيتم في الميدان المعروف آنذاك بميدان التحرير، ومع ذلك فقد كان ثمة عشرة آلاف جندي يقبعون في الميدان تحوطا، كان عدد حضور حفلات إفطار الإخوان قبل ذلك لا يتجاوز الألفين، وكان عشرة آلاف يكفون لمواجهة هذا الاحتمال البعيد، لكن المفاجئ والمذهل لقوات الأمن، أن العدد تجاوز المائة ألف، كان ذلك قبل المغرب بنصف ساعة، لم يفطن رجال الأمن لما يحدث، قدروا أن ما يرونه هو الزحام الطبيعي لكل يوم، لم يدركوا الأمر إلا بعد انطلاق أذان المغرب، حين فوجئوا بمائة ألف يقيمون الصلاة ثم يفترشون الأرض ويبدؤون الإفطار. بعد المغرب بنصف ساعة كان العشرة ألاف جندي قد أصبحوا مائة ألف، لكن المائة ألف محتفل كانوا قد أصبحوا مليونا، صدرت الأوامر المسعورة باستدعاء المزيد من قوات الأمن، ونظرا للارتباك الهائل فقد تم سحب القوات المحيطة بالعاصمة كي تمنع توافد الناس من الأقاليم إليها، وبسحب هذه القوات خلا الطريق أمام الجماهير المتدافعة، في البداية كانت الغالبية من الإخوان ، لكن الفضائيات بدأت تذيع الخبر، مؤكدة أنه ليس شائعة، وإذا بالوطن ينفجر، وكأنه يوم الحشر، تنشق الأرض فيفور منها الناس كما تفور المياه من شلال أو من ينبوع متدفق، عند الفجر كان مليون جندي في وسط المدينة، لكن عدد من جاءوا لحفلة الإفطار وبعدها كان قد بلغ في أقل التقديرات خمسة ملايين. قيل أن هذا المشهد العظيم لم يتكرر منذ معركة العاشر من رمضان-السادس من أكتوبر- حين فوجئت دولة كان اسمها إسرائيل كانت تحتل إقليم فلسطين بأنها تواجه مائة ألف جندي مصري في خلال ساعات قليلة.
في حياتي كلها، منذ كنت طفلا، لم أشاهد جدي متحمسا ومنفعلا كما شاهدته وهو يحكي هذه الحكاية، مرات وراء مرات، و أعواما وراء أعوام، كان وجهه يصطبغ بلون الدم، وكانت عيناه تغرورقان بالدموع، وكانت ملامحه تختلج وتتقلص، ويتسارع شهيقه وزفيره مُصَاحبا بصوت كالأنين، وكنت أحيانا من فرط حماسته، أنسي أننا نجلس في بيتنا، و أتخيل أننا معه في ميدان الشهداء، ما زلنا في حفل الإفطار الذي لما ينته. كنت أحس بمذاق الطعام و أسمع دوي الرصاص و أشم الدخان و أرى الدم.
كان جدي يحكي نفس الأحداث في كل مرة، لكنه كان يزيد في مرة وينقص في أخرى، ويركز على جانب في رمضان، لكنه في رمضان التالي يركز على جانب آخر، كما أنه كان يطعّم الأحداث بما لم يكن معروفا يوم ذلك الحفل، والذي كشف عنه بعد ذلك اليوم بأعوام طويلة، بسبب قانون حرية المعلومات، والذي بمقتضاه فتحت أضابير المخابرات الأجنبية، وعلاقاتها بحكامنا، كاشفة من التفاصيل المخزية ما لم يكن يتصوره عقل.
قال جدي أنه في شبابه الباكر كان يظن أن كمال أتاتورك أخون المسلمين و أن محمد دحلان أخون العرب، لكنه بعد أن انكشف الخبئ أدرك أنه ما من حاكم مسلم إلا وكان أتاتورك، وما من حاكم عربي إلا وكان دحلان.
لطالما تساءل جدي عن الحد بين الذي خططت له قيادات الإخوان بالفعل وبين التداعيات التي حدثت بعد ذلك ولم يكن تصرفهم إزاءها سوى رد فعل لتداعيات لم يحسبوا حسابها. وذات مرة قال وهو يلهث: فاجأتنا الأحداث، كنا كمن يدفع عربة معطوبة على منحدر، وفجأة انطلقت السيارة فحاولنا كبحها لكنها جرتنا خلفها. كان جدي جزءا من التخطيط فله إذن أن يتحدث بعين الشاهد المشاهد. وله أن يتساءل ولو بعد الحدث بنصف قرن: ما هو الأمر الذي دبر الإخوان له و أعدوا له العدة؟ من المستحيل أن يكونوا دبروا لوجود العشرة ملايين الذين سدوا قلب المدينة. بل إن رقم المليون كثير، يقول جدي وقد كان قريبا من الأحداث أن أملهم كان لا يتجاوز حشد مائة ألف، وكان المتشائمون لا يتوقعون أن يأتي أكثر من عشرة آلاف، فالمخاطر جمة، والطاغوت سفاح دموي لا يرتوي أبدا من الدماء، كما أن الأمن جبار ووحشي وقاس ومجرم. قال جدي وما يزال الانفعال يأخذ بتلابيبه وما يزال يلهث كأن الحدث يحدث لتوه: لقد أعدوا حسب طاقتهم، أقصى طاقتهم، أعدوا ما استطاعوا فجاءهم نصر الله. سخر لهم حتى أعداءهم ليحتشدوا معهم. كما أن ما حدث بالقدرة الإلهية يفوق أعظم التخطيطات و أكثرها عبقرية. كان تدبير الله، وكان مكر خير الماكرين، لقد كان الأمن يتصور عددا محدودا من الحضور الصائمين، كان يتصور حضور ألفين سيحاصرهم ويشتتهم بعشرة آلاف، لكنه فوجئ أن المحاصرين ليسوا ألفين بل مائة ألف ، ثم استدعوا الجنود المحيطين بالعاصمة ليشاركوا في الحصار، وفي خلال ذلك كان مئات آلاف الصائمين قد توافدوا فحاصروا دون تخطيط الجنود الذين يحاصرون الصائمين، لكنهم عندما تركوا أماكنهم حول العاصمة تدافع الملايين فحاصروهم، وتم استدعاء تعزيزات من كافة محافظات الجمهورية فجاءت على عجل وحاصرت الجماهير، لكن ملايين أخرى تدفقت فأصبح الكل يحاصر الكل.
بكى جدي وهو يحكي كيف أحس بملابسه مبتلة، وتحسسها فوجد دما دافئا، لم يكن دمه، كان دم شاب بجواره، لا يعرفه، كان قد أصيب بطلقة رصاص. كان من المستحيل نقله إلى المستشفى، أو حتى إسعافه، وظل ينزف حتى أسلم الروح بين يديه، كانت الأوامر الهستيرية المسعورة قد انهالت على الجنود:اقتلوا الناس جميعا، انسفوهم نسفا، مزقوهم، افرموهم. خرج الطاغوت (المفدى!) على شاشة التلفاز ينادي بسحق الإرهابيين وقتلهم أيا كان عددهم و أينما كانوا، ووجه إنذارا إلى الصائمين أنه سيفرق حفلهم الإرهابي بالدبابات والطائرات، وكان معنى هذا أنه سيستدعي الجيش. بثت الخطبة شاشات ضخمة لا يدري جدي كيف ولا متى نصبوها.
كانت الأوامر المشددة علينا – يقول جدي- ألا نحمل معنا كل ما يمكن أن يشتبه أنه سلاح، فلا عصيّ ولا حتى أمواس حلاقة أو مقصا لقص الأظافر. كانت الأوامر المشددة ألا نرد على إجرام السلطة بالعنف. وكانت الخطة التي بلّغوا بها أن ينصرفوا بعد صلاة التراويح، وبغض النظر عن النوايا، فإن الواقع الميداني قد جعل ذلك مستحيلا، كيف كان يمكنهم الانصراف والشرطة تحاصرهم والناس يحاصرون الشرطة التي تحاصر الناس، والشرطة تحاصر الناس الذين يحاصرون الشرطة التي تحاصر الناس، وهكذا إلى ما لا نهاية. هل كان ذلك ضمن المتوقع؟ هل كان جزءا من التخطيط، لا يجزم جدي بالأمر، لكنه يرجح أن الأحداث هي التي ساقت الجميع رغما عنهم. لكن على أي حال، كان هناك توجيه بالانصراف في هدوء إذا تيسر الانصراف، فإذا لم يتيسر، كان هناك أمر ببدء الاعتكاف. وكان عنف الشرطة الإرهابية متوقعا، وكانت الأوامر ألا نقاوم ولو بالحركات الرياضية التي كنا نمارسها في النوادي الرياضية، فذات مرة منذ سبعين عاما اتهمت السلطة الغادرة شبابا يمارسون الرياضة بأنهم يدبرون للانقلاب على نظام الحكم. يقول جدي أن أحد إخوانه صرخ: هل تمنعوننا من المقاومة إذا ما تطورت الأمور على غير ما نحب؟ أنتركهم يقتلوننا دون مقاومة؟ وكانت الإجابة الحاسمة الصارمة الباترة: نعم، دعوهم يقتلونكم، سوف تنتصر العين على المخرز، والصدر العاري على الخنجر، وعلى الدم المسفوك سوف تنبت شجرة الولاء والبراء. ولكن الحقيقة أنه لم يكن هناك توقعات لمذبحة، توقع المتفائلون أن يكون عدد الشهداء سبعة أو ثمانية، و ألا يزيد عن عشرة، المتشائمون تكلموا عن مائة أو مائتين، في اليوم الثالث قيل أن عدد الشهداء تجاوز عشرة آلاف، والغريب أن قتلى الشرطة كانوا ألفا، المؤكد دون شك، هو أن الإخوان لم يقتلوا شرطيا واحدا، كان الشيوعيون أذل و أهون و أجبن من أن يقتلوا هذا العدد أو حتى معشار معشاره، وكانت معظم الحركات السياسية الأخرى إما هزيلة لحد المهزلة و إما عميلة، كانت شاشات التلفاز الضخمة المنصوبة تتحدث عن الإرهابيين الذين يقتلون رجال الشرطة، بل وبلغ الأمر، أن هذه الشاشات أذاعت، أن السلطة قد اكتشفت تفاصيل مؤامرة الإرهابيين أكلة لحوم البشر، و أن القانون سيأخذ مجراه، لمعاقبتهم على جرائمهم التي لم يسبقهم إليها في التاريخ مجرم، وأكدت الشاشات الضخمة، أن الإرهابيين يأسرون رجال الشرطة المسالمين ثم يلقون بهم في نهر النيل، ثم تطور الأمر بعد ذلك ليكون التعذيب والقتل البطيء هو المآل. ثم بلغ الأمر منتهاه عندما أذاعت الشاشات الضخمة أن الإخوان المعتكفين يقتلون رجال الشرطة ثم يطهونهم ويأكلونهم بعد أن شح عندهم الطعام، وقد قدمت الشاشات مئات الأدلة على ذلك، ولكن أكثرها إفحاما كان اعترافات مجموعة من الإخوان، أكدوا أن المرشد العام نفسه قد أمرهم بذبح رجال الشرطة والتهامهم، و أكد المتحدث أنه شخصيا أكل من لحم عقيد وملازم وجندي. وقدمت الشاشات الضخمة صورا تجمع بين هؤلاء وبين المرشد، وانفجرت الفضيحة عندما صرخ أحد المحتشدين: لا تصدقوهم: هذا الرجل أخي، وهو ليس من الإخوان، بل من الشرطة السرية، وانتشرت الحقيقة انتشار النور، خاصة عندما تجاوز بعض الإخوان التعليمات، فاستطاعوا بحركة بارعة أسر الرجال الثلاثة الذين زعموا أنهم من الإخوان، و أن المرشد هو الذي أمرهم بذلك، أسروهم، وكانت بعض الفضائيات قد صمدت، أو سُدّ عليها منافذ الهرب، فبثت صورهم واعترافاتهم على الفور، حيث أقروا أنهم من رجال الشرطة السرية، ولكن، على الرغم من هذا بقي الواقع دون تفسير، واقع أن ألف شرطي قد قتلوا، وكان الأمر واضحا عند الإخوان لكن قطاعات الشرطة لم تفهمه إلا في اليوم العاشر، يوم التحول العظيم، كان القتلة قوات خاصة من الشرطة نفسها!! كان الطاغوت قد أدرك خطورة ما يحدث، فدبر لإذكاء الفتنة وزرع الثأر بين الشرطة وبين الناس، فدفع ببعض رجاله لقتلهم. حاول بعض الإخوان إثبات ظنهم بأسر بعض هذه القوات الخاصة، لكنها كانت مدربة تدريبا عاليا جدا، لذلك انتهت كل محاولة لأسر أي واحد منهم بالقتل، لكن الفرج جاء من حيث لم يحتسب أحد، وحدث التحول، كيف حدث؟ لا أحد يدري بالضبط. قيل أن شرطيا هشم رأس أحد المعتكفين بهراوته، كان قد غافله وهاجمه من الخلف وهو يتجرع آخر جرعة ماء قبل الإمساك، وسقط الرجل على ظهره فرأى الجندي وجهه، كان أباه. وقيل أن شرطيا أصاب معتكفا إصابة بالغة، فانبثق الدم كنافورة منه، وفي هذه اللحظة بدأ أذان المغرب فإذا بالمصاب يقدم إلى الجندي تمرة ليفطر عليها، وقيل أن جنديا قتل أخاه، لكن هل كانت هذه الأحداث الفردية على فرض صحتها هي سر بداية التحول، حين خلع الجنود بزاتهم العسكرية وانضموا إلى الناس، أم أن الغضب قد تفجر عندما اكتشف رجال الشرطة أن من يقتلونهم إخوانهم وزملاءهم، وانتشرت شائعات هنا وهناك عن كيفية اكتشاف الأمر وتباينت الرؤى، فقد انتشرت شائعة ، عن جندي مذبوح طفت جثته في نهر النيل، لكن الغريب فيها أنها كانت تتحرك عكس اتجاه التيار، وعند مقياس الروضة حدثت المعجزة، فقد ردت إلى الجثة الحياة، فنهضت وسارت على الماء حتى الشاطئ، واشتعل الناس حماسا وذعرا وذهولا أمام المعجزة وساروا خلف الجثة التي ردت إليها الحياة، واستمر الموكب يتزايد حتى وصلوا إلى معسكر من معسكرات الأمن، وحاول الجنود سد الطريق أمام الناس بالمتاريس، لكن الجثة الحية أزاحت المتاريس كما لو كانت تزيح قشة أو كتلة من الإسفنج لا من الحجارة، واقتحم الموكب المعسكر، وظلت الجثة الحية تتحرك حتى قبضت على ثلاثة جرتهم بمنتهى السهولة و ألقت بهم في وسط المعسكر، كان منهم قائد المعسكر و أحد ضباطه وجندي من جنوده، وتحدثت الجثة الحية فأمرتهم بالاعتراف بما حدث، فاعترفوا أنهم هم القتلة، و أن الأمر بدأ بالطاغوت ثم بالوزير ثم بالمدير الأعلى ثم بالمدير ثم بالجندي. عندما تم ذلك، بدأ الدم ينزف من عنق الجثة مرة أخرى، فسارعت بالعودة إلى النهر، لتمشى على الماء داخلة كما مشت خارجة، وفي المنتصف، سلبت الحياة، وسقطت الجثة لتعوم في وسط النهر، لكن هذه المرة مع التيار. أكد جدي أنه لم يصدق تلك الشائعة، والتي لا تعبر إلا عن عجز الناس عن اقتناص ما يريدونه في الحياة فيقتنصونه بالوهم، فما الشائعة إلا وهم. ما يعتقده جدي، أن قبضة الشرطة كانت قد تهاوت بعد منتصف رمضان، وعندما وهنت قبضة الطاغوت الجبار بدت للشرطة سوءاتها، و أن ما يفعلونه إجرام يفوق إجرام أشد العصابات إجراما، لاحت بوادر عهد جديد فاستيقظت ضمائر ما هي بضمائر، عندما بدأ ربهم يتهاوى بدءوا يخافون عواقب جرائمهم، وربما يكون بعضهم- وهذا مستبعد- قد خشي عقاب الله الواحد القهار.
يعلم الله هل تم كشف الأمر بيقظة ضمير أم كبراءة من نظام أوشك على التلاشي وتزلفا لنظام يوشك أن يأتي. فقد تم كشف الأمر-بعيدا عن الشائعات- عندما تقدمت إحدى الفرق الخاصة التي كانت مكلفة بقتل رجال الشرطة، تقدمت لتعلن توبتها إلى الله وانضمامها إلى الناس معترفة بكل شيء.
ليس ثمة اتفاق حول تفاصيل الأحداث الدقيقة في تلك الأيام. انتشرت الشائعات، وتناثرت الأقاويل، ويعترف جدي أنه لم يصدق جل هذه الشائعات وتلك الأقاويل، فقد كان دائما يحترم العقل ويقدس المنطق، فكيف كان له أن يصدق تلك الشائعة التي أكدت أن البعض شاهد الإمام الحسين يخرج من ضريحه ممتطيا جواده شاهرا سيفه ليقود المعتكفين مرددا آية:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (39)الحج.
قال جدي أنه لم يصدق تلك الشائعة لكن الناس والجنود صدقوها، وتدافع الآلاف بل والملايين ليكونوا تحت راية الحسين رضي الله عنه، وقد علم جدي فيما بعد، أن تلك الشائعة أقلقت قيادات الإخوان إلى حد كبير، كانت تخشى أن بكون شيطانا من أتباع الطاغوت هو الذي أطلقها كي يغير مسار الثورة، وبعد اشتداد الكرب والموت والأشلاء والجوع ونقص الأموال والطعام انتشرت شائعة أخرى أن السيدة زينب خرجت من ضريحها وجعلت من حيها ملاذا آمنا يأوي إليه من أراد من الشرطة والناس، وأنها أخذت تعالج المرضى وتداوي الجرحى وتدفن الموتى. لم يصدق جدي الشائعة رغم أنه أقر أنه ذهب إلى هناك ليضمد جرحا أصابه، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فثمة شائعات انتشرت عن رؤى صادقة رأى الناس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن جدي رفض بإصرار أن يخوض في الأمر منزها الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول لا يمكن إثباته.
قال جدي أنه و إن كان قد رفض الشائعات إلا أنه لا ينكر ذلك الضوء الخفي الذي كان ينير ظلمة مدينة انقطع عنها التيار الكهربائي، ليس ضوء القمر والنجوم، و إنما ضوء التسليم لله والإيمان به، ضوء الرضا والتوكل والحمد، كما لا ينكر حالة الطمأنينة والسكينة المخيمة على المعتكفين وسط الرصاص والدم والأشلاء والموت.
لم يأت اليوم الخامس عشر من رمضان إلا وكانت الشرطة كلها قد ذابت!
خلع الجنود ثيابهم العسكرية وانضموا إلى الناس، وارتفعت المشاعر إلى عنان السماء، وفي دعاء القنوت، الذي كان ينطلق من بعض المساجد في صلاة الصبح، ومن بعضها الآخر في وتر العشاء، ارتفع عدد من يبكون خشوعا وتأثرا وخوفا من الواحد القهار، وقيل أن ارتفاع عدد المصلين ليس بسبب زيادة الإيمان فقط، بل إن كثيرا من رجال الشرطة، بعد أن انضموا للناس، وذابوا فيهم، وعاشروهم، أدركوا أي نوع من المجرمين كانوا، عندما كانوا يعذبون هؤلاء الناس ويقهرونهم ويزورون أصواتهم.
أسقط في يد الطاغوت، كان ما يزال لديه عددا كبيرا من جنود الأمن، نصف مليون على الأقل، لكنه لو وجههم لحصار الجماهير المعتكفة، التي انضم إليها مليون من الشرطة، لحدثت مذبحة لا يعلم مداها إلا الله. على أي حال فإن نصف المليون الباقي لم يبق على حاله، فنصفه على الأقل قد ذاب!!، خلعوا ملابسهم العسكرية وانضموا إلى المعتكفين. الباقي من الشرطة كانوا من كبار السن القائمين بالأعمال المعاونة. ولم يكونوا يصلحون لأي مواجهة.
أذاعت الشاشات الضخمة أن الإرهابيين أقاموا محاكم خاصة أخذوا يحاكمون فيها ضحاياهم المختطفين من المسئولين، لكن بعض الفضائيات التي تمكنت بصورة أو بأخرى من التواجد، بالإضافة إلى بعض المواقع الإليكترونية التي راحت تغطي الحدث بطريقة غير معروفة، فأذاعت هذه وتلك، أن بعض ضباط القسم السياسي يحاولون التسلل وتحريض الجنود على بعضهم البعض وعلى الناس، بل إن بعضهم حاول تفخيخ بعض السيارات والأماكن، كي ينسبوا الفعل إلى الإخوان ، أمسك بهم الجنود وحاكموهم، واعترف الضباط، وكاد الجنود يقتلون بعضهم، لولا رجاء حاسم من الإخوان أن ينتهي الأمر دون إراقة قطرة دم واحدة.
كان عدد التائبين من الجنود كبيرا، وتاب بعض صغار الضباط، أما كبار الضباط فلم يتب منهم إلا أقل القليل، لكنهم رغم قلتهم حملوا معهم كما هائلا من المستندات والأسرار، وكان ضمن ما فضح، أنه لا توجد قضية واحدة للإخوان منذ عام 1928 وحتى أيامها: 2019، قد تمت كما صورها الأمن أو الإعلام، و أن معظم هذه القضايا كانت تنسج تفاصيلها في أروقة المخابرات الأجنبية، وبعضها في الموساد.
قال جدي أنه فكر كثيرا جدا دون أن يصل إلى نتيجة حاسمة، فكر في اللحظة التي أدرك فيها الإخوان أنهم أمام ثورة شعبية كبرى، و أن عليهم ألا يكرروا خطأهم في 1952 و 1977 عندما كانوا هم وقود الثورة لكنهم تركوها ليستفيد بثمارها اللصوص والأشرار. وثمة بدايات كثيرة تصلح لتكون بداية هذا الوعي، منها على سبيل المثال، أن الموظفين في المطارات والموانئ لاحظوا حركة تهريب ونزح هائلة لكبار المسئولين، كانوا يهربون محملين بما خف حمله وغلا ثمنه، وأن الموظفين بادروا من تلقاء أنفسهم بإلقاء القبض عليهم واحتجاز المسروقات، وإيداعهم سجن المطار، ودون اتفاق مسبق فعل موظفو البنوك نفس الشيء. لقد رفضوا تحويل الأموال أو صرفها.
انفرط عقد السلطة، وبدأت الاعترافات تتوالى، والفضائح تنتشر، فالأمين ليس إلا لصا، والمؤتمن ليس إلا خائنا، وكشفت الاعترافات الأولية عن حجم هائل من الجرائم في حق الأمة، حجم لم يمكن لأحد أن يتصوره، كانت الخيانة كاملة والعمالة كاملة والاتفاق مع أعداء الأمة ضد الأمة كاملا. وفي الوثائق السرية والمراسلات التي كشفت، كانت المؤامرة على الإسلام واضحة وكاملة، ليس على الإرهاب، بل على الإسلام، على القرآن، على الأحاديث، على الصحابة، على السنة، كانت المؤامرة كاملة، وافتضحت كل تفاصيلها. ولم تكن على الدين كدين فقط، بل بغض النظر عنه، كان استهدافهم له لأنه أهم رابط يحمي الأمة والدولة والناس. وكانوا هم يريدون تدمير الأمة والدولة والسيطرة على الناس. كان الإسلام هو الراية الوحيدة الكفيلة بحشد الأمة، ولذلك كان على العدو تمزيقها، ولم يشارك في تمزيقها إلا خائن مارق. فالملاحدة الإسرائيليون لم يكفوا عن الدفاع عن اليهودية لأنه يعلمون أنها الرباط الضام الذي يحمي الدولة من الانفراط.
قيل أن الطاغوت أمر الجيش بالتدخل، لكنه ووجه بموقف صارم من قياداته، قيل أن تلك القيادات رفضت التدخل رفضا باتا، وقيل أن بعض كبار القادة زاد على ذلك أنه لو تدخل الجيش فسوف يتدخل لعزل فخامته ومحاكمته، لأنه لم يتصرف كرئيس جمهورية بل كرئيس عصابة، وأن ما يمنع الجيش من التدخل هو قرارات سابقة صارمة بعدم التدخل في الحياة المدنية، بعد تجربتهم المرة منذ عام 1952، حين ورطوهم ليكونوا ضد الأمة، وتوالت على الجيش الهزائم، لولا أن جاء نصر العاشر من رمضان ليعيد الجيش إلى موقعه في ضمير الأمة، وأن قيادات الجيش، قد اتخذت بعد نصرها المجيد آنذاك قرارات نهائية بعدم مواجهة الأمة، لكنها لم تستطع الالتزام الكلي بهذه القرارات، بعد أن ورطها الطاغوت في محاكمات عسكرية لا ناقة لها فيها ولا جمل، إلا تنفيذ أغراض الطاغوت ورغباته، التي لم تكن سوى أغراض أجهزة المخابرات الأجنبية ورغباتها، حيث لم تكن تلك المحاكم نفسها تعلم، أن تلك المحاكمات كانت في كثير من الحالات تنفيذا لاتفاقات أبرمها الطاغوت مع مخابرات أجنبية، وكانت جزءا من مخطط الحرب على الإسلام.
قال جدي أنه لم بكن أحد يتوقع ما حدث في ليلة القدر، كان الناس ما يزالون معتكفين، وكان عددهم يزداد، حتى قال قائل أن الناس قد هجروا المدن والقرى والنجوع، و أن المائة مليون مصري يعتكفون جميعا في شوارع القاهرة، بل قيل أن عددا كبيرا من الأقباط انضم إلى الحشد الرهيب. وكان صوت الطاغوت يجلجل كل مساء على الشاشات الضخمة مهددا الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكن الشائعات كانت قد بدأت في الانتشار عن انهيار النظام بعد انهيار القوة التي تحميه، وفي ليلة القدر، كان الناس يجأرون بالدعاء أن يكشف الكرب، وفي صبيحة ليلة القدر، أعلنت إسرائيل أن الطاغوت قد لجأ إليها، و أنها تضمن حريته وحياته. وذكرت وكالات الأنباء أن هذه الصفقة هي أكبر صفقة في حياتها، فقد كانت ثروة الطاغوت التي نهبها من شعبه، تتجاوز السبعين مليار دولار.
في نفس الليلة، نجح خمسة آلاف على الأقل في اللجوء إلى إسرائيل، منهم وزراء وقادة وضباط أمن و أعضاء نيابيين وقضاة ونواب عموم سابقين ورجال أعمال. لكن التحقيقات مع الجزء الذي لم يتمكن من الهرب في الوقت المناسب، كشفت عن أن كل ما نشرته صحافة المعارضة، وكل ما روجته الشائعات، رغم فظاعته، كان لا يكاد يذكر أمام الحجم الحقيقي للفساد واللصوصية والخيانة التي تم الكشف عنها.
-11-
يقول جدي أن الإسلام الذي غاب عن مصر منذ غزوة نابليون قد عاد يومئذ، و أصبح الإسلام هو المرجعية لحكومة مدنية، و أن مصر، الدولة المحورية، قد عملت كالنواة، فراحت تجمع حولها الأطراف، وفي خلال ثلاثة أعوام بعد سقوط الطاغوت سقط كل طواغيت العرب، تماما كما يحدث في لعبة الدومينو الشهيرة، وفي خلال سبعة أعوام سقط كل طواغيت الدول الإسلامية، وبعد عشرة أعوام، أي في غرة رمضان 1450 هجرية، الموافق 16 يناير 2029، تم إعلان الولايات الإسلامية المتحدة، لتشكل ربع العالم وقلبه.
-12-
قال جدي، أنه عندما صفت النوايا، وتوقفت السياسة عن أن تكون عنصر فساد و إفساد، أمكن حصار وحصر الخلافات بين الستة والشيعة، فأصبحت لا تزيد عن الخلاف بين مذهبين من مذاهب أهل السنة، وكانت إيران إقليما هاما في الاتحاد الإسلامي، وكان سلاحها النووي المتطور درعا لحماية الدولة الإسلامية التي عادت أقوى قوة في العالم، رغم الفتوى الصارمة بتحريم استعمال السلاح النووي إلا في إطار العقاب بالمثل وردا على هجوم نووي.
-13-
كنا في غاية الدهشة حين أخذ جدي يحدثنا عن شكل العالم منذ سبعين عاما، واستبد بنا الذهول عندما عرفنا أن الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت كانت أقوى من دول المسلمين مجتمعة، وأنها كانت تذلهم وتهينهم وتسومهم سوء العذاب.
-14-
حكى لنا جدي وهو يضحك عن الخلاف الذي نشب بين دولة دالت كان اسمها إسرائيل وبين الولايات المتحدة الأمريكية، فقد بلغ حجم الأموال المهربة التي سرقها اللصوص الذين لجئوا إلى إسرائيل أكثر من ألف مليار دولار، وكان ذلك مبلغا هائلا في ذلك الزمن قبل انهيار الدولار وصعود الدينار، وطلبت إسرائيل من اللاجئين إليها تحويل تلك الأموال لاستثمارها فيها، وكان معظم الأموال مودعا في بنوك أمريكية، ورفضت أمريكا التحويل، و أصرت إسرائيل عليه، وجعلت التحويل شرطا للجوء وإعطاء جواز السفر. فحيل بينهم وما سرقوا. وقيل أن هذا كان بالاتفاق بين الدولتين، و أنهما اقتسمتا الأموال، وقضى ثلث اللصوص من القهر، وهلك ثلثهم من الجوع والفقر، وبقي الثلث الثالث يتسول.
-15-
قال لي جدي أن من أعجب ما رآه في عمره، أنه مر يوما على قصر الطاغوت في الجزء الجنوبي من الضاحية الشمالية، وكان المرور يتوقف في العاصمة كلها عندما يأتي الطاغوت إلى القصر، كان رئيس الحرس لواء، وقد انتظر الطاغوت نهارا ونصف ليل، فأهلكه الإرهاق والتعب، ففرش أوراق صحف ونام على الأرض يتقلب في مدخل البوابة التي سيدخل منها الطاغوت، ثم مر الزمن، وخربت بيوت الطاغية، ومررت يوما على ذات المكان، فرأيت فلاحا وقد ربط حماره في نفس المكان، وكان مستلقيا في ذات المكان الذي رأيت فيه اللواء، وكان يتمرغ في التراب.
-16-
رتل جدي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون) النمل (50-53)
-17-
قال لنا جدي أنه رأي كثيرا من عجائب قدرة الله سبحانه وتعالى، ومن آيات ذلك أن رجلا صالحا في الزمن القديم اسمه خيرت الشاطر، كان كلما كون ثروة حلالا من كده وعمله استولى عليها الطاغوت ونهبها، حتى لقي ربه ولم يترك لأولاده إلا التقوى بينما الطاغوت يملك عشرات المليارات وربما أكثر، لكن جدي عاش حتى رأى أحفاد الطاغوت يتقاتلون حتى يحصلوا على الصدقات التي يخرجها أحفاد خيرت.
-18-
رتل جدي:
( فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) المؤمنون (54-56)
-19-
قال لنا جدي أن ضابطا مجرما من القلم السياسي، وكان من الذين يعذبون الناس، وكان قد عذبه بوحشية قبل حفل الإفطار الرمضاني الشهير، صرخ جدي في وجهه:
- نعم..أنا من الإخوان.
فصرخ في وجهه و هو معلق على الجدار والسياط تنهال عليه والكلاب تنهش لحمه:
- ليس هناك شيء اسمه الإخوان يا حشرة.. سنبيدهم عن بكرة أبيهم.
ورد عليه جدي:
- بل تبيد و آلهتك الذي تعبد من دون الله ويبقون.
وواصل جدي:
- بعد حفل الإفطار الشهير أنقذته من بعض ضحاياه الذين كانوا يعذبونه وكادوا يفتكون به. وفي السجن، كنت الوحيد الذي يزوره بعد أن تبرأ منه أهله، وعندما مات صليت عليه ودفنته في مقابر الصدقة، بعد أن استأجرت من يحمل نعشه.
-20-
سألنا جدي
- لكن ماذا عن تلك الدولة العجيبة التي دوخت المسلمين، تلك الدولة التي كان اسمها إسرائيل؟
و أجابنا جدي:
- سقطت دون إطلاق رصاصة واحدة، سقطت قبل أن تكمل مائة عام، فبعد إنشاء اتحاد الدول الإسلامية، وبعد انهيار أمريكا وتراجع دور أوروبا، أدرك القاطنون فيها أنهم لا مكان لهم بيننا، غادروا وكأنهم كانوا يسكنون شقة مفروشة، وسمحنا لهم بالمغادرة، لكننا اشترطنا محاكمة كبار مجرميها.
-21-
سألنا جدي:
- ولكن كيف انهارت أمريكا؟
فأجابنا:
- أنهكتها أفغانستان وضعضعتها العراق وفضحتها إيران ثم تكفلت تركيا والباكستان بالباقي فانهار اقتصادها وتفرقت شيعها وانطوت وانقسمت، وكان هذا من نعمة الله علينا، لأنها لو كانت قد احتفظت بقوتها ما كانت تترك مصر لأهلها. ولكانت قد بادرت بإجهاض الثورة، وقد تعالت بالفعل أيامها أصوات تناشدها بالتدخل لحماية الطاغوت كما فعلت دائما، ولكن حكامها رفضوا بحزم، كان عشرة آلاف في أفغانستان قد أذلوهم، وثلاثون ألف في العراق قد مرغوا كرامتهم في الوحل، فكيف يفعلون مع مائة مليون مصري؟!
-22-
قال لنا جدي أنه فتن في شبابه بسياسي كان في الحزب الناصري حل الحزب وقضى عليه ثم انضم إلى جماعة المسلمين، وكان مما قاله: نصف أعضاء هذا الحزب يعلم أن الرجل كان عدوا للإسلام ولا يحبون فيه إلا ذلك لكنهم يتسترون عليه مداهنة للعامة وتجنبا لغضبهم، أما النصف الآخر فيجهل أنه كان عدوا للإسلام.
-23-
وثائق المخابرات الأجنبية فضحت العملاء والخونة لكن بعد أن انتهى الأمر، فما من شيوعي أو علماني إلا وكان مرتبطا بجهة تحارب الإسلام، وكان عميلا مأجورا ويقبض الثمن.
ولقد تدخلت الدولة فصادرت ثمن خياناتهم.
-24-
أصدرت الحكومة الإسلامية عفوا طال كل المتهمين خير إلا المجرمين الذين عذبوا الناس أو زوروا الانتخابات فقد نكل بهم وفضحوا وصودرت أموالهم الحرام.
-25-
اجتهدت الحكومة كثيرا كي تمنع انتقام الناس ممن عذبوهم، وبرغم الجهد الجهيد قتل الآلاف من الجلادين وماتوا ميتات بشعة، حتى بعد صدور الفتوى أن من يقيم الحد في ظل حكومة إسلامية مفتئت على السلطة.
-26-
حكى لنا جدي كيف مرض الطاغوت في إسرائيل، واحتاج إلى إجراء جراحة خطيرة ، وفضل أن تجرى له في الولايات المتحدة، فقد كان يخاف أن يقتله الإسرائيليون أثناء الجراحة كي يرثوا أمواله، لكن الولايات المتحدة التي لم تكن قد تفرقت بعد رفضت منحه تأشيرة دخول لأنها كانت تخشى أن يستغل وجوده فيها لفضح الملابسات التي صاحبت تجميد ثروته المهربة هناك، و أجريت الجراحة في إسرائيل، فمات أثناء إجرائها.
-27-
في أيام جدي الأخيرة لم يكن يكف عن تلاوة القرآن وقراءة الأحاديث، رحمه الله رحمة واسعة.
-28-
قال جدي قبيل موته:
" تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم يكون ملكا عضوضا ، أو عاضا( وراثيا ) ، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه، ثم يكون ملكا جبريا ، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ." رواه أحمد
-29-
كان جدي دائما يرتل:
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ) (105) الأنبياء
-30-
وكان يرتل أيضا:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ) (5) القصص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق