الجمعة، 19 يوليو 2019

11 سبتمبر.. تأملات في الذكرى الرابعة

كتب الاستاذ محمد بن المختار الشنقيطي عبر

على موقع التواصل الاجتماعي
كتبتُ منذ نحو 14 سنة عن الصهيوني المتعصب (جوول روزمبزغ) وروايته (الجهاد الأخير) التي يدعو فيها لإبادة المسلمين بالسلاح النووي.ولم أتصور أن يأتي اليوم الذي يلتقي به ويحتفي به في بلاد الحرمين. يبدو أننا نعيش حالة فرز وانكشاف



11 سبتمبر.. تأملات في الذكرى الرابعة

نشرفي 14-سبتمبر 2005
محمد بن المختار الشنقيطي

- الأميركيون والحرب الدينية الكونية
- مصادر القوة والضعف لدى القاعدة
- خيار مشرَّف وخيار محمد صديق خان
- العراق.. الجهاد الأخير أم الجهاد الأول؟



أربعة أعوام خلت.. ولا يزال اليوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 محفورا في العقول، مسطورا في الضمائر. ولا تزال آثار ذلك اليوم وامتداداته تقذف بالجديد كل يوم، وتفتح أبوابا من التحولات والآلام لن توصد بسرعة, من غزو أفغانستان والعراق، إلى تفجيرات بالي والرياض ومدريد وطابا ولندن وشرم الشيخ.. ويبقى ذلك اليوم الدامي كثيفا في مدلوله، عميقا في أثره، مثيرا للفضول، دافعا إلى التأمل.

الأميركيون والحرب الدينية الكونية


"حملت هجمات سبتمبر/أيلول بذور حرب دينية كونية بين أميركا والعالم الإسلامي, ومن خصائصها أنها رمزية أكثر منها براغماتية، وتخاض ضمن زمان أبدي، وتصور العدو في صورة شيطانية، وتؤمن بوجود ثواب أبدي على التضحيات الدنيوية"يعتقد باحثون أميركيون أن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول تحمل بين جنبيها بذور حرب دينية كونية، بين أميركا والعالم الإسلامي. 

ومن خصائص الحرب الدينية الكونية -طبقا لدراسة لمؤسسة راند الأميركية ممولة من طرف الـسي آي إيه- أنها رمزية أكثر من كونها براغماتية، بمعنى أن المصالح الآنية والأهداف المحدودة ليست من دوافعها. 
وأنها تخاض بطريقة دراماتيكية مثيرة، كما أنها تخاض ضمن زمان أبدي، خلافا للصراعات السياسية التي تخاض ضمن إطار زمني محدود. ومن خصائصها كذلك -طبقا لنفس الدراسة- تصوير العدو في صورة شيطانية، والإيمان بوجود ثواب أبدي على التضحيات الدنيوية.

وقد توصل الباحثون الأميركيون الذين كتبوا تلك الدراسة المعنونة بعنوان "استكشاف الصراع الديني" Exploring Religious Conflict إلى أن "الإسلاميين وشبكات القاعدة في الشرق الأوسط قد وضعوا حربهم ضد العلمانية والهيمنة الغربية، وضد الولايات المتحدة، ضمن سياق كوني". لكن هؤلاء الباحثين ينسون أو يتناسون أن من صاغوا مصطلح "الحرب الكونية" ليسوا قادة القاعدة، بل قادة الولايات المتحدة، وأن صاحب مقولة "من ليس معنا فهو ضدنا" ليس أسامة بن لادن، بل جورج بوش.

بل يمكن القول –إنصافا للرئيس بوش- إن مقولة "من ليس معي فهو ضدي" آية من الإنجيل (إنجيل متى، الإصحاح 12 الآية 30) وليست من نحت الرئيس الأميركي، وقد يكون استمداده لها من الإنجيل لا شعوريا أمرا واردا.

بيد أن الأولى بالرئيس بوش -إذا كان يقبل نصيحة إنجيلية من مسلم- أن يتبنى مقولة أخرى في الإنجيل "من ليس ضدنا فهو معنا" (إنجيل مرقص، الإصحاح 9 الآية 40) فهي أسلم وأحكم في الظرف الإنساني الدقيق الذي نعيشه. ولإنصاف الرئيس بوش أيضا، فإن قادة القاعدة كانت لهم لغة مشابهة، حينما قسموا العالم إلى "فسطاطين" لا ثالث لهما، لكنهم ليسوا وحدهم من تبنوا لغة الحرب الكونية الشاملة على أي حال.
أما تصوير الآخر بصورة شيطان، فلم يسلم منه الأميركيون أيضا. فإذا أرادت أميركا أن تغير صورة "الشيطان الأكبر" التي يحملها بعض المسلمين عنها، فما على قادتها السياسيين والدينيين سوى أن يغيروا تصورهم الشيطاني للإسلام والمسلمين.

أما حينما يصف قائد ديني أميركي ذو شعبية واسعة وصوت جهير النبيَّ محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه "إرهابي"، ويصف آخر لا يقل عنه تابعا ونفوذا الإسلامَ بأنه "ديانة شريرة"، ويدعو عضو في الكونغرس جهارا نهارا إلى قصف الكعبة بالسلاح النووي... فلا غرابة أن يظهر بين الملسمين من يتبنى نفس المنطق الأخرق.

مصادر القوة والضعف لدى القاعدة

"أميركا في طريقها إلى خسارة "الحرب على الإرهاب" من دون ريب، لأن المقدمات التي انطلق منها القادة الأميركيون في تشخيص الداء لن تقود أبدا إلى معرفة الدواء"ويتضح بعد أربعة أعوام من أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الدامية أن مصدر قوة "القاعدة" يكمن في أهدافها التي يؤيدها أغلب المسلمين، وأن مصدر ضعفها يكمن في وسائلها التي يدينها أغلب المسلمين.

فلو أن الأميركيين نظموا استبيانا نزيها في جميع دول العالم الإسلامي حول احتلالهم العراق، ووجود قواعدهم العسكرية في الجزيرة العربية، ودعمهم للاحتلال الإسرائيلي ولحكام القمع.. لوجدوا أكثر المسلمين لا يختلفون عن أسامة بن لادن في الهدف السياسي.

فالأغلبية الساحقة من المسلمين مؤيدة لتحرير العراق، ممتعضة من الوجود العسكري الأميركي، ومن دعم أميركا لإسرائيل ولأنظمة القمع.. لكن استبيانا نزيها حول وسائل القاعدة سيظهر بيسر أن الغالبية الساحقة من المسلمين عبر العالم لا توافق تنظيم القاعدة في وسائله وطرائقه في المنازلة، خصوصا إذا تعلق الأمر بالاستهداف المتعمد للمدنيين.

لكن النخبة السياسية الأميركية غير النزيهة تقدم لشعبها تصورا مغايرا، فهي تصور صراع القاعدة معها في صورة صراع كوني أزلي، وترفض الاعتراف بأن القاعدة ظاهرة سياسية جديدة، ذات أهداف سياسية محدودة، وهي وليدة الاختلال في العلاقات بين العالم الإسلامي وأميركا، وانعدام الخيارات السلمية في التعاطي مع هذا الاختلال.

والذي يقارن ما يصدر عن النخبة السياسية الحاكمة في واشنطن مع ما يكتبه خبراء أميركيون نزهاء يجد المفارقة صارخة. وتكفي مقارنة نتائج التقرير الذي صاغته لجنة الكونغرس حول أحداث 11 سبتمبر/أيلول مع النتائج التي توصل إليها خبير نزيه وهو مايكل شوير، رئيس "وحدة أسامة بن لادن" في السي آي إيه سابقا، لتظهر أبعاد هذه المفارقة ومخاطرها.

فبينما سعت لجنة الكونغرس إلى التهرب من المسؤولية السياسية، وجهدت لتأويل كل شيء بلغة ثقافية دينية، وتوصلت في الصفحة 362 من تقريرها إلى أن تلك الأحداث نتاج لروح التعصب الإسلامي الموروث عن ابن تيمية، وحملت المسؤولية لسيد قطب والإخوان المسلمين والوهابية.. الخ، قدم مايكل شوير في كتابه "أوهام إمبراطورية" Imperial Hubris تأويلا أكثر استنادا إلى الوقائع السياسية، وأكثر ارتباطا بالحقائق على الأرض.

ولم يكن أحد أحسن تأهيلا من مايكل شوير في هذا الشأن، لأنه تتبع ظاهرة القاعدة خطابا وبناء وأداء مدة مديدة، وهو –إلى ذلك- متحرر من طوق النفاق المتحكم في النخبة السياسية الأميركية، فهو مؤهل فنيا وأخلاقيا لتقديم خلاصة دقيقة حول هذا الأمر.

والخلاصة التي ألح عليها مايكل في كتابه، وكررها على طول صفحاته لحد الإملال، هي أن القاعدة لا تقاتل أميركا لأنها مسيحية أو لأنها أرض الحرية –كما توحي بذلك خطابات الرئيس بوش- بل تقاتلها بسبب ما تفعله أميركا في أرض الإسلام. فليس الأمر أمر كفر وإيمان، أو حرية وعبودية، بقدر ما هو إحساس بالقهر والإذلال تمت ترجمته إلى طاقة مدمرة، بعد أن انسدت كل منافذ المدافعة السلمية.

وقد توصل السيد شوير إلى أن أميركا في طريقها إلى خسارة "الحرب على الإرهاب" من دون ريب، لأن المقدمات التي انطلق منها القادة الأميركيون في تشخيص الداء لن تقود أبدا إلى معرفة الدواء، وما لم تعترف أميركا أن مصدر قوة القاعدة وجاذبيتها هو السياسة الأميركية فلا أمل في السلم.

خيار مشرَّف وخيار محمد صديق خان
"الشعوب المسلمة محاصرة اليوم بين نارين: نار المستبدين الذين لا يقيمون لرأيها وزنا، ونار الشباب المتحمس الذي فقد الأمل في أي عمل سلمي أو تغيير إصلاحي فحمل السلاح"ويبقى أمر آخر له قيمته في تفسير أحداث 11 سبتمبر/أيلول، لا يمنحه الساسة الغربيون كثير اهتمام، وهو انعدام الخيارات السلمية الشرعية لدى الشعوب المسلمة، بسبب تحالف الاستبداد القديم والاستعمار الجديد في أوطانها.

ولعل من الأمثلة المعبرة ما حملته إلينا وكالات الأنباء منذ أسبوعين: ففي ذات اليوم نقلت الوكالات خبرين مهمين لهما صلة بباكستان. 
أما الخبر الأول فهو لقاء وزير الخارجية الباكستاني بوزير الخارجية الإسرائيلي في تركيا، مقرونا بنية الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف السفر إلى واشنطن لإلقاء خطاب أمام مؤتمر المنظمات اليهودية الأميركية. وأما الخبر الثاني فهو شريط فيديو يحمل وصية الشاب البريطاني-الباكستاني محمد صديق خان، يعترف فيه بتنفيذ تفجيرات 7/7/2005 في لندن، ويعتبرها ردا على سياسات القادة البريطانيين.

فهذه الصورة الباكستانية الصغيرة تعبر ببلاغة عن صورة أكبر تمتد على مساحة العالم الإسلامي من المغرب إلى إندونيسيا، وهي أن الشعوب المسلمة محاصرة اليوم بين نارين: نار المستبدين الذين لا يقيمون لرأيها وزنا، خدمة لسادتهم الغربيين الذين يستمدون منهم بقاءهم في السلطة، ونار الشباب المتحمس الذي فقد الأمل في أي عمل سلمي أو تغيير إصلاحي، وحمل السلاح وأرواحه في أكفه لا يلوي على شيء.

فالجنرال مشرف يمثل جانب الصورة الأول، ومحمد صديق خان يمثل جانبها الثاني. وما لم تجد الشعوب المسلمة طريقا ثالثا، يضمن لها تقرير المصير وحرية الإرادة بطريقة سلمية شرعية، فإن أحداث 11 سبتمبر/ أيلول ستظل تمتد في الزمان والمكان.

إن مراحل الانتقال في أعمار الأمم مراحل حساسة، وهي قلما تمر دون آلام مخاض عسيرة، أو دون شرر يصل إلى الأمم الأخرى. هكذا وقع مع الثورات الفرنسية والأميركية والروسية.. ولن يكون المخاض الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية اليوم استثناء من ذلك، فهو صائر إلى مآله، شأن كل التحولات التاريخية الكبرى. ويبقى من الحكمة أن يعين الغرب المسلمين في تحقيق حريتهم بأقل ألم ممكن، ويقبل بهم شركاء أحرارا لا قصَّرا محجورا عليهم.

أما الوقوف في وجه سعي الشعوب المسلمة إلى التحرر، من خلال التحالف مع مستبدين تمقتهم شعوبهم، أو محاولة وأْد ذلك التحرر بأحلام القرن التاسع عشر الإمبراطورية، أو مصادرته بديمقراطية الغزو والإذلال –على نحو ما حدث في العراق- فهو حماقة من النخبة السياسية الغربية، والأميركية خصوصا، وهو لن يؤدي إلا إلى مضاعفة الآلام وانتشار الشرر.

العراق.. الجهاد الأخير أم الجهاد الأول؟
"أخطر آثار هجمات سبتمبر/أيلول هو فتحها أبوابا من المواجهة الهوجاء سيدفع الشعب الأميركي والشعوب المسلمة ثمنها فادحا، حتى يسود منطق العقل والإنصاف في النهاية"
وما من ريب أن غزو العراق هو أهم امتداد لهجمات 11 سبتمبر/أيلول، وهو امتداد ستكون له آثار بعيدة المدى، من غير الراجح أن تزول حتى يضمحل معها النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط بأسره.

فقد تكشف غزو العراق عن واقع جديد لم يخطر للمخططين الأميركيين على بال، ولا تصوره أمراء الحرب الذي غذَّوا غزو العراق بالدعاية والتبرير خلال فترة العام ونصف العام التي امتدت بين أحداث 11 سبتمبر/أيلول وبداية الغزو.
في مطلع العام 2003، وضمن التمهيد لغزو العراق، صدرت رواية للكاتب اليهودي الأميركي الشاب "جويل روزنبرغ" تحت عنوان "الجهاد الأخير" the Last Jihad ورغم الشكل الأدبي لهذا العمل فإن صفحاته الثلاثمائة والخمسين تنضح بالدعاية السياسية والدينية، إذ تتألف لُحمة الرواية من عملية اغتيال خيالية للرئيس الأميركي على يد طيار انتحاري شاب بعثه صدام حسين لهذه المهمة، ثم يتصاعد التوتر بين العراق من جانب وبين أميركا وإسرائيل من جانب آخر، فيحاول صدام حسين تدمير إسرائيل بصواريخ "سكود" تحمل رؤوسا نووية، لكن العبقرية الإسرائيلية –وهي عبقرية خارقة دائما في الأدب الأميركي المعاصر- تتمكن من إفشال الضربة.

ثم يعطي رئيس الوزراء الإسرائيلي "المثقل القلب بهذه اللحظة المأساوية من تاريخ الشعب اليهودي" إنذارا للرئيس الأميركي لا لبس فيه "أذبْ بغداد في حجيم نووي في ظرف ساعة، وإلا فسأتولى أنا المهمة".

وبالطبع لا يجد الرئيس الأميركي بدّا من الإذعان، ويذيب كلا من بغداد وتكريت في جحيمه النووي. وقد بيعت أكثر من مليون نسخة من رواية "الجهاد الأخير"، وتعاقد مؤلفها مع هوليود لتحويلها فيلما.

ومثل هذا الأدب الدعائي ذي النفَس الديني واسع الانتشار في الولايات المتحدة، خصوصا خلال الأعوام الأربعة الأخيرة. ولذلك لا عجب أن كانت سلسلة روايات "المتروكون" the Left Behind هي أوسع الكتب انتشارا وأوفرها قراء في الولايات المتحدة اليوم، حيث بيعت منها أكثر من ستين مليون نسخة.

وهي قصص دينية تتحدث عن ظهور الدجال وعودة المسيح. لكن الغريب فيها أنها تجعل بغداد عاصمة الدجال الذي سينزل المسيح لتدميره، كما تجعل غاية عودة المسيح إلى الأرض هي إنقاذ إسرائيل من أعدائها. فمكانة العراق في الأدب الديني الأميركي اليوم أمر يستحق الدراسة والاهتمام بحق.

ومهما يكن من أمر، فإن مؤلف "الجهاد الأخير" أخطأ –كما أخطأ المخططون الأميركيون- في اعتبار غزو العراق هو الجهاد الأخير.

ولعل العكس هو الصحيح، وهو أن غزو العراق قد فتح الباب أمام "الجهاد الأول" ضد الولايات المتحدة، في منطقة طالما سيطرت عليها بهدوء وبثمن بخس. فأخطر آثار 11 سبتمبر/أيلول هو فتحه أبوابا من المواجهة الهوجاء، سيدفع الشعب الأميركي والشعوب المسلمة ثمنها فادحا، حتى يسود منطق العقل والإنصاف في النهاية.
ــــــــــــــ
كاتب موريتاني

المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق