الأحد، 14 يوليو 2019

وطنية زائفة في وطن ضائع



وطنية زائفة في وطن ضائع

انتقلت الوطنية إلى تشجيع الفرق الرياضية لتحقيق انتصارات وهمية ينتفخ بها جنرالات الحكم، فخرا بانتصارات وإنجازات هيكلية تحمل داخلها وطن بائس وشعب ضائع
 كنت أنوي اقتباس العنوان من حكمة طبيب الفلاسفة: "ماذا يفيد التعليم في وطن ضائع؟!"، ليكون "ماذا تفيد الوطنية في وطن ضائع؟!"، لكني خشيت أن أحمل عبء العمق الذي يطرحه طبيب الفلاسفة في أفكاره وكلماته، فأنا أبسط من ذلك، فكان العنوان الموجود الآن.
 مقالي اليوم هو جدل مفتوح مع النفس، مقتبس من حال الأمة وحواراتها المكتومة وتساؤلاتها، أو هو حديث تلقائي في أمور تلقائية يومية، يصفه المصريون بـ "الكلام من على البساط الأحمدي".
منذ أسابيع، ارتفعت حالة الاستنفار الوطني استعدادًا لخوض مسابقة كأس الأمم الأفريقية في كرة القدم، وكانت حدة الاستنفار تفوق بمراحل حدة الاستنفار فترة المواجهة مع إسرائيل في الفترة ما بعد هزيمة يونيو 1967 وأكتوبر 1973، وشمل الاستنفار تحذيرات ووعيد لكل من يخون الوطن، ويشاهد البطولة على القناة صاحبة الحق في إذاعتها حصريا، لأنها قناة مملوكة لأعداء الوطن القطريين!
 المنطق الأعوج ضرب الوطن، فتقاتل الأشقاء وتحالف الغرماء، والبسطاء من أبناء الوطن يسيرون منقادين في الركب، ينتقلون ما بين ضفاف الوطنية والخيانة دون إرادة أو حتى استيعاب للأحداث، ولا عجب، فهم المأسورون بالكد من أجل توفير لقمة العيش، والسعي وراء المعايش، والرغبة الفطرية في البقاء، ولو بالحدود الدنيا.
ومن حماية السيادة على أراضي الوطن الواقعة تحت السلب والنهب اليومي لحساب أجانب وبتسهيلات خائنة ممن استحلوا مص دماء شعوبهم والارتماء في أحضان الأعداء، انتقلت الوطنية إلى تشجيع الفرق الرياضية لتحقيق انتصارات وهمية ينتفخ بها جنرالات الحكم فخرا بانتصارات وإنجازات هيكلية تحمل داخلها وطن بائس وشعب ضائع مريض حائر ..
انتقلت الوطنية إلى تخوين المعارضين للحكم الفاشي في الداخل، واستعداء الأشقاء العرب في الخارج، وتدمير صمام الأمان، الذي كان يحمي حدود الوطن، بخلق حالة من الكراهية للوحدة العربية، في مقابل استقواء الحكام الفاشيين بمظلة الصهيونية والمطامع الاستعمارية الغربية، مقدمين عرق شعوبهم ودمائهم قربانا لهذه العلاقة غير الشرعية!
محددات وطنية:
نشأنا في مرحلة الطفولة والصبا على محددات وطنية واضحة المعالم وتستند على مبررات منطقية، وكيف أن الخطر الصهيوني ليس فقط على حدودنا الشرقية، وإنما هو خطر محيط بنا، ما دام يمس أيًا من بقاع الأمة العربية، فالقاعدة الأساسية، التي كانت سائدة آنذاك، أن المنطقة العربية وطن واحد تحكمه وحدة المصير، وعندما أخطأ تلميذ في المرحلة الإعدادية، ووضع نجمة داوود الصهيونية على كراسته، اجتمعت لجنة من المدرسين وزملائه ووالده يشرحون له معنى هذا الرسم ودلالته في محاضرة وطنية جماعية، ولم يصرخ أحد مزايدًا ويتهمه هو وأهله بالخيانة، ولم يتصل أحد بالأمن، مثلما يفعل الإعلاميون الحكوميون الآن مع المعارضين، فالأداء الصادق يختلف في أدواته عن أداء المنتفعين.
 يقف إعلامي الأنظمة المشهور ليصرخ متشنجًا داعيًا المصريين إلى تشجيع الفريق القومي، كأنه يدعوهم إلى التطوع في حرب مقدسة، ويهددهم لو تعاونوا مع القنوات الفضائية التابعة لدول عربية، يرى فيها أعداء لجنراله، وبالتالي فهم أعداء للوطن، في حين يرتمي هو وجنراله ونظام حكمه في حضن التحالف الصهيوأمريكي، ولم يدرك الإعلامي الجاهل تاريخ هذه الأمة، التي كانت تنبذ الخلافات اليومية في سبيل التوحد في مواجهة الأخطار الحقيقية المحيطة بها، وفي مقدمتها الخطر الصهيوني، حيث اختلف الرؤساء مع بعضهم البعض، ولم تختلف الشعوب، تجاوز جمال عبد الناصر مع ملك السعودية، فلم ينقل الرجل الخلاف إلى العلاقات بين الدولتين، ولم يلجأ أحدهما للاستقواء بالعدو الخارجي كما يحدث الآن، وحدثت أمور متشابهة مع العديد من الدول العربية، وتم تجاوزها واستيعابها داخل عقيدة وطنية واعية متكاملة، وليس وطنية زائفة مثل كرة القدم وحفلات الترفيه.
ما تعرض له أبو تريكة:
 كان كثير من الفنانين والرياضيين يحملون أفكارا ويتبنون مواقف قد تختلف مع مواقف النظام والسلطة، فلم يتعرضوا لضغوط أو حصار أو تشويه مثلما تعرض اللاعب المحترف محمد أبو تريكة، ما يؤكد زيف الوطنية الوهمية التي يمارسونها في الفضائيات، والصراخ والعويل في المباريات الرياضية، وكأنهم يخوضون حربا لتحرير الوطن.
الوطنية الحقيقية هي أن تقدم مصلحة الوطن وقضاياه على القضايا الشخصية وموضوعات المصالح والتمكين، مثلما يحدث الآن من التركيز على تثبيت قواعد الحكم والحاكم ولو على حساب استقلال الوطن ونهوضه، مصلحة الحاكم أهم من مصلحة المحكومين، هذه هي المعادلة الآن.
في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، حشر نظام عبد الناصر مئات الشيوعيين داخل السجون، وعانوا فيها أشد معاناة، ومات منهم عدد بفعل التعذيب وسوء المعاملة، ورغم ذلك استمرت الحوارات بينهم داخل المعتقلات حول طبيعة السلطة ..
قليل منهم أصدر حكمه متأثرًا بما يعانيه داخل السجن فوصفها بالسلطة الخائنة التي يجب إسقاطها، والغالبية حكمت طبقا لمعيار سياسي، وهو مدى تناقض هذه السلطة مع الإمبريالية، ولما كان الصراع محتدما بين نظام ناصر والإمبريالية في ذلك الوقت، رأت هذه المجموعة أنها "سلطة وطنية" يمكن التعامل معها، ووصفها جزء منهم بأنها "مجموعة اشتراكية" في الحكم ..
وهنا كان حكم الشيوعيين على طبيعة السلطة يتعلق بمصلحة الوطن أكثر من ارتباطه بموقفها منهم، أعلنوا هذا وهم يموتون ويعذبون داخل السجون، لكن المفارقة أن موقف السلطة منهم لم يستند إلى نفس المعيار، وقدم مصلحة الحكم المؤرقة من جماعات المعارضة على مصلحة الوطن حتى في أكثر لحظات المواجهة حرجًا مع عدو خارجي..
وبدا المشهد بين الشيوعيين والنظام الحاكم مرتبكًا وحرجًا وكأنه حب من طرف واحد، لكن بقى شيء واحد حقق التوازن المجتمعي والسياسي آنذاك، وهو الاتفاق على عدو واحد، هو الصهيونية والإمبريالية، وإن كان هذا التوزان قد اضمحل وزال واندثر بعد ذلك بفعل ديكتاتورية الحكم والاستخفاف بحق الشعب في الممارسة الديمقراطية التي تضمن حماية المكتسبات الوطنية، فانهارت كل المكتسبات، وانهزم الوطن.     
تمييع الوطنية:
 الحقيقة أن حالة التمييع الحالية للمسألة الوطنية، والاستخفاف بها في مصر، ليست وليدة جهل أو مصادفة، إنما هي مخطط متعمد في إطار مخطط أكبر لتغييب الشعب المصري وتجهيله والقضاء على ريادته في الثقافة والفن والعلم لضمان تمرير المصالح الصهيوأمريكية، بمباركة حلفائها من الخونة، وفي مقدمتها ما هو معروف بمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يستهدف تحويل الشعوب العربية بكل طاقتها إلى محطة إنتاج للخيرات المجانية للدول الكبرى، أو هي عملية بيع وطن على يد نخاسين فقدوا وطنيتهم وضمائرهم بل ودينهم، وأصبح ولاؤهم للعدو الصهيوني أكبر من ولائهم لأوطانهم.
  ولو طبقنا منهج المقارنة بين السيئ والأسوأ، لأدركنا أننا نعيش أردأ أنواع الحكم الفاشي في مصر، الذي لم تطل نيران غبائه واستبداده وفاشيته الحقوق المدنية والسياسية والديمقراطية للشعب فقط، بل تجاوزتها إلى التفريط في السيادة على الأرض، والتبعية للصهيونية والإمبريالية، ما يلزم قوى المعارضة بمختلف اتجاهاتها بأن تعيد النظر في طبيعة السلطة القائمة، وتتوحد حول موقف واحد منها لإنقاذ الوطن، بعيدًا عن أي تباينات أيديولوجية أو فكرية، وإلا ستواجه الفناء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق