الثلاثاء، 16 يوليو 2019

شبح سيربينتشا السورية الذي يطارد العالم


شبح سيربينتشا السورية الذي يطارد العالم 
رفيق هودزيتش
صحفي بوسني
الحملات اللإنسانية التي يواجهها المهجرين السوريين تشبه بشكل كبير تلك التي سببت بالإبادة الجماعية للبوسنيين. على نطاق واسع يتم متابعة اللاجئين لاعتقالهم وإعادتهم بشكل قسري نحو مناطق النظام، بعد أن فروا منه بأنفسهم هرباً من الموت والتعذيب والتنكيل، الذرائع التي يتم ملاحقتهم على خلفيتها انتقائية وغير عادلة، تبدأ من زريعة مخالفتهم للقوانين المحلية لتتجه نحو اتهامهم بالتطرف أو ارتكاب الجرائم في بعض الحالات. رجال، نساء وأطفال، مهندسين، مدرسين، عمال، فلاحين وكذلك الناشطين، الجميع يتم ترحيلهم بشكل قسري من قبل الأمن ويتم الإبلاغ عنهم من قبل الناس العاديين على أساس المظهر أو اللهجة.

لقد تم اختراق المخيمات من قبل مواليين للنظام أو حلفائه المحليين وهؤلاء يتنافسون فيما بينهم لتحديد الأسماء التي يجب العمل على ترحيلها من المخيمات ليواجهوا صنوف العذاب والاعتقال وحتى الاختفاء أو الموت، يتم استهداف هؤلاء تارة مع أسرهم وتارة أخرى بشكل منفرد لإعادتهم قسراً، في وضح النهار أو في جنح الليل أو مع ساعات الصباح الأولى. هذه الحكومة تقوم بمهمة "وطنية" وهي حجة قوية في مواجهة صرخات المعذبين أو نداءات الناشطين أو الحقوقيين القليلين الذين يحاولون التحذير من هذه الممارسات، خاصة أن الجمهور يؤيد أعمال ماتقوم به أجهزة الأمن في ظل تغطية من أجهزة الإعلام التي تروجه على أنه حملات في سبيل "رفاهنا ودولتنا" إنها صورة فاقعة من التجريد الإنساني لقضية اللاجئين وترويج واسع لخطاب الكراهية دون أي حسابات للثمن، لتصبح مسألة اللاجئين "معضلة" يجب حلها، ويصير المشهد معقداً لينخرط فيه حتى أولائك الذين يعرفون الأسباب الحقيقية والجوهرية وراء هذه الحملات محاولين تجنب الحملة المستعرة في مواجهتهم وامتصاص غضب الناس.

الهدف الواضح من وراء هذه الحملة هو تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى مناطق النظام إما من خلال طردهم بالقوة أو من خلال جعل ظروف حياتهم كارثية بحيث بحيث يرون أن العودة هي الحل الوحيد المتبقي
وبما أن من يتم اعتقاله من الرجال يتم تسليمه على الفور لقوات النظام، فهذا يعني أن الرجال بين 16 وحتى 60 عاماً لن يرهم أحد مجدداً وسيختفون للأبد في انتصار واضح لخطاب الكراهية والتحريض المدّبر على خطاب القانون والإنسانية ودعاويهما. من يقرأ المقدمة أعلاه ربما يستغرب لماذا لم يتم تحديد اللاجئين على أنهم "سوريون" ولماذا لم يتم تحديد البلد الذي يقوم بهذه الممارسات ضدهم على أنه "لبنان" وكذلك النظام على أنه "نظام الأسد"!، والحقيقة أن الفقرات أعلاه مأخوذة من كتاب: "الحرية القاتلة" “Fatal Freedom” للصحفي المشهور "شيكي رادونيتش" من الجبل الأسود، والذي قام بتوثيق دقيق لعملية جمع اللاجئين البوسنيين الذين تم تسليمهم لقوات النظام الصربي في البوسنة والذي كان يقوده في ذلك الوقت "رادوفان كارديزتش" وهم التي تمت إدانته في وقت لاحق بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية.

لقد وصف الصحفي شيكي رادونيتش حملة تجريد البوسنيين من إنسانيتهم وخطاب الكراهية الممارس ضدهم والذي على أساسه تمت إعادتهم قسراً، وصفه من خلال اقتباس العناوين العريضة في الصحف والمجلات المحلية حيث اقتبس هؤلاء مقولات مخزية مثل: "تنتشر رائحة الأتراك المنتنة عبر الجبل الأسود" كذلك " إزالة الطاعون -في إشارة للبوسنيين- من وسطنا". لقد مرت هذه الحادثة، ومضى عليها ثلاث عقود تقريباً، إلا أن أمر الرجال والشباب الذين تمت إعادتهم قسراً لا يزال مجهولاً حتى هذه اللحظة، حيث سجل معظمهم في قائمة المختفين، وعثر على بقايا البعض الأخر في قاع بحيرة اصطناعية بالقرب من حدود صربيا مع الجبل الأسود بعد أن تم تجفيفها في العام 2010، بل ربما يظل المصير مجهولاً للأبد. الأمر الأخر الذي كرسته هذه الممارسات هي أنها أصلت لخطاب كراهية ضد الإسلام تمت عولمته في وقت لاحق ولعله يتجسد بوضوح في خطاب أمثال "أندريس بريفيك" و"برنتون تارانت" اليوم.

كشخص بوسني عايش كل تلك الظروف التي مر بها شعبي، كنت أمل أن أرى إعلانات الإلتزام بحماية الفئات الأكثر ضعفاً والتي أصدرتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وتعهدت الدول المتحضرة بالتزامها أكثر من مجرد حبر على ورق. لقد تمت صياغة إطار حقوق الإنسان على مر سبعين عاماً وتطور من طور إلى أخر، وقد تمت إضافة آليات لحماية المهجرين والمدنيين في فترات الصراع ولكنني أرى أن ما حصل في البوسنة يتكرر اليوم في مناطق مختلفة مما يدفعني للتساؤل حول مدى الإلتزام بما تم تطويره من قوانين وحقوق في السنوات الماضية، المزيد من المهجرين يتم إعادتهم إلى نظام فروا منه سابقاً باستخدام أسلوب التجريد من الإنسانية والتحريض ضدهم دون أي إدراك للعواقب طويلة الأمد الذي سيؤديه تجاهل ما تم تطويره من قوانين وما يتم ممارسته من تطبيقات على أرض الواقع.

يستضيف لبنان ما يزيد عن مليون لاجئ وهذا بالتأكيد يؤثر على الاقتصاد اللبناني وعلى العلاقات الهشة والمعقدة بين الطوائف اللبنانية، علاوة على ذلك يعتبر "حزب الله" أحد أهم حلفاء نظام الأسد في المنطقة وهو لاعب بارز في الساحة اللبنانية وهذا سيجعل من قضية اللاجئين أكثر تعقيداً بدون شك، ومن الواضح أن لبنان يحتاج للدعم الدولي في مسألة اللاجئين السوريين ريثما يتم حل المسألة السورية مما يضمن لهؤلاء المهجرين حقوق العودة الطوعية والأمنة والكريمة وبكل تأكيد لا يجب أن يتم جعل الشعب اللبناني يعاني بسبب كرمه في استضافة اللاجئين السوريين بأعداد تفوق العدد الذي تستضيفه كل الدول الغربية مجتمعة.

ولكن هذا لا يبرر بأي حال من الأحوال الحملة الشرسة واللا إنسانية التي يقوم بها بعض السياسين والمنظمات اللبنانية ضد الاجئين السوريين، وإن حملة الكراهية والتجريد من الإنسانية يمكن أن يكون لها أثار خطرة للغاية في وقت لاحق بعيداً عن حدود لبنان. إنه أسلوب مألوف بالنسبة للمطلعين على المسألة البوسنية ولكنه بكل تأكيد مؤلم، كون الأمر يتم تصويره على أنه عمل وطني يتم من خلال تجسيد اللاجئين السوريين بأنهم دون البشر مستخدمين أسلوباً خبيثاً يهدف إلى تطبيع الكراهية وقبولها لدى الجميع لتصير مسألة عادية تصب في مصلحة الوطن. الهدف الواضح من وراء هذه الحملة هو تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى مناطق النظام إما من خلال طردهم بالقوة أو من خلال جعل ظروف حياتهم كارثية بحيث بحيث يرون أن العودة هي الحل الوحيد المتبقي ضمن سلة خياراتهم، وهذه الممارسات لا تشكل انتهاكاً للمعايير الإنسانية فحسب بل قد تؤدي إلى إيصال المزيد من اللاجئين إلى شواطئ أوروبا بحثاً عن الأمن وهرباً من الموت.

الرابطة السورية لكرامة المواطن (SACD) وهي حركة من المهجرين السوريين الذين يدافعون عن شروط الحد الأدنى اللازمة للعودة، حذرت من مثل هذه الممارسات التي تودي إلى الهلاك بالنسبة لغالبية من يعودون إلى مناطق النظام، كذلك أقرت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أكثر من مرة بأنها لا تستطيع الوصول إلى مناطق النظام السوري وهي غير قادرة بالتالي على التأكد من أوضاع العائدين إلى تلك المناطق، والشهادات التي أتت من العائدين إلى مناطق النظام سواءاً من مخيم ركبان أو من لبنان أو حتى أولائك الذين قاموا بتسويات "بضمانات" روسية كلهم يتحدثون عن خطف واعتقالات وتحرش وتعذيب وضرب وفي أقل الحالات التجنيد الإجباري ليزج بهم على جبهات القتال وفي أخطر الأماكن.

إن إجبار اللاجئين اليوم على العودة إلى سورية بهذه الطريقة ودون توفير شروط للحد الأدنى اللازم لمثل هذه العودة بضمانات دولية لحياة كريمة وأمنة هذا يعني أنهم سيواجهون حتماً مصير البوسنيين الذين تم تسليمهم إلى كاردازتش في تلك الفترة. إن معظم من أعرفه من السوريين مقتنعون بأن غالبية الاجئين السوريين في لبنان يرجحون المخاطرة بحياتهم للوصول إلى أوروبا بأي طريق على العودة إلى ديارهم ومحاولة البقاء على قيد الحياة في ظل نظام الأسد، الأمر الذي سيسبب زلزال أكيد في أوروبا، حيث ستصل أعداد ضخمة من المهجرين، إضافة إلى أن خطاب الكراهية الممارس ضدهم في لبنان سيخلق فرصاً أكبر لمواجهته عبر التطرف مما سيشكل تهديد لكل من أوروبا ولبنان في المستقبل، لذا فإن اتخاذ الإجراءات السريعة لوقف حملة التحريض والكراهية لن يكون ضرورة أخلاقية فحسب للاتحاد الأوروبي وبقية أعضاء المجتمع الدولي ولكن ضرورة سياسية أيضاً.

في الوقت الذي تحتفل فيه البوسنة بذكرى سنوية جديدة لمذبحة سيبرينيتشا التي ارتكبتها القوات الصربية في مدينة محمية من قبل الأمم المتحدة وسط تنامي النزعة لكراهية اللاجئين واستمرار عدم الاستقرار، يعني أن ما يعاني منه البوسنيين والسوريين اليوم يأتي في إطار حملة تجريد من الإنسانية لا تزال مستمرة. لقد ساهمت حملات التجريد من الإنسانية وتحقير المهجرين من تمكن كارديزتش من المذبحة والإبادة الجماعية التي قام بها، وكذلك غذت نفس الحملة شعور اللامبالاة للمجتمع الدولي لتمرير تلك المذبحة في ذلك الوقت، الأمر الذي ترك أثره على شكل البوسنة اليوم وتكوين المجتمع البوسني، ومن غير شك أن استمرار مثل هذه الحملات في لبنان -ومؤخراً في تركيا - سيترك أثره العميق في التاريخ المعاصر وسيلاحقنا جميعاً لأجيال قادمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق