الأحد، 21 يوليو 2019

سعي تركيا إلى الزعامة الدينية: كيف يستخدم “حزب العدالة والتنمية” القوة الإسلامية الناعمة

سعي تركيا إلى الزعامة الدينية: كيف يستخدم “حزب العدالة والتنمية” القوة الإسلامية الناعمة



للكاتبة غونول تول Gonul Tol
هي المدير المؤسس لمركز الدراسات التركية التابع لمعهد الشرق الأوسط. وهي أيضًا أستاذة مساعدة في معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة جورج واشنطن. 
نشر المقال في صحيفة فورن أفيرز بتاريخ: ١٠/ يناير/ ٢٠١٩ وترجمه الموقع.

أصبح الدين في عهد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وحزبه، “العدالة والتنمية” ذي الجذور الإسلامية، أداةً حاسمة في سياسة تركيا الخارجية.  ففي بلدان تمتد من أميركا اللاتينية إلى إفريقيا جنوب الصحراء، تبني تركيا المساجد، وتمول التعليم الديني، وتستعيد التراث العثماني –وتروج على الدرب لنسختها الفريدة من الزعامة الإسلامية.
وبمزجها الإسلام السني بالقومية التركية، تشجع مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني القائمة على الدعوة الدينية في البلاد اللغة والثقافة التركيتين، إلى جانب المناهج الدينية، وترفع العلم التركي فوق مواقع المشاريع الجديدة. في أذهان أولئك القائمين على تنفيذ هذه السياسة تبقى تركيا، بوصفها وريثة الإمبراطورية العثمانية، حصن الإسلام الأخير والقائد الطبيعي لإحياء الحضارة الاسلامية
بيد أن تركيا ليست القوة الإقليمية الوحيدة التي تستخدم الإسلام في سعيها إلى الهيمنة. إيران والعربية السعودية أيضاً تنشران نسختيهما الخاصتين من الإسلام عبر تمويل منظمات وبناء مساجد. تركيا تحاول تقديم نسختها كبديل سني أكثر تسامحاً وأقل تطرفاً من الوهابية السعودية –وبالتالي أكثر ملاءمةً للزعامة الإقليمية.  فالمذهب الحنفي السائد في تركيا، على النقيض من المذهب الحنبلي المحافظ الذي يشكل أساس الوهابية، يعد نسبياً أكثر ليبرالية ويوفر مساحةً أكبر بكثير لتأويل الشريعة.          
لكن المسحة القومية لدبلوماسية تركيا الدينية قد تشكل عائقاً أمام نجاحها. فهي تزعج للتو الدول الأوروبية التي ترى التصرفات التركية استقطابية ومسيئة لدمج المهاجرين الأتراك، كما تزعج دول الشرق الأوسط التي ترى تركيا من منظورٍ استعماري. لقد أوصل حزب العدالة والتنمية الدعوة الدينية التركية إلى مستويات غير مسبوقة، لكن التشكيك بنواياها في هذا السياق الدولي قد يحد من آفاق نجاحها.
دبلوماسية المسجد
أحد أوضح السبل التي تقدم تركيا من خلالها أوراق اعتمادها الدينية بناء مساجد ضخمة حول العالم. دشن إردوغان أحدها في تيرانا عاصمة ألبانيا عام 2015. وفي ربيع عام 2016، حضر حفل افتتاح “مركز ديانات أميركا”، وهو مسجد ومركز ثقافي في ميريلاند يقدم نفسه على أنه الحرم الإسلامي الأكبر في نصف الكرة الأرضية الغربي. وفي أيلول/سبتمبر افتتح واحداً من أكبر مساجد أوروبا في مدينة كولون الألمانية التي تأوي جالية تركية كبيرة. ولديه خطط لإنشاء عددٍ من المساجد في كوبا ورومانيا وفنزويلا.

تدعم الدولة التركية هذه المشاريع عبر “وقف الديانة التركي” الذي يعمل تحت مظلة رئاسة الشؤون الدينية (ديانت). تأسست “ديانت” عام 1924 للترويج لنسخة علمانية من الإسلام مع تفكك الإمبراطورية العثمانية وولادة الدولة التركية الحديثة. وتقوم “ديانت”، بالإضافة إلى إنشاء المساجد وصيانتها داخل تركيا، بتوظف أئمة المساجد، وتقدم التعليم الديني للعامة، وتفسر الأعراف الإسلامية، وتكتب الخطب التي تقرأ كل أسبوع في مساجد البلاد. لم تلعب “ديانت” دوراً بارزا خارج حدود تركيا حتى ثمانينيات القرن الماضي. لكن بعد الانقلاب العسكري عام 1980، والشتات الذي نجم عنه، ازداد نفوذ المنظمات الإسلامية واليسارية على حد سواء بين مجتمعات المهاجرين الأتراك في أوروبا الغربية. نظرا لحاجتها إلى طريقة تنافس فيها تلك المنظمات ببث رسائلها الخاصة، وسَّعت الحكومة العسكرية التركية دائرة عمليات “ديانت” ليشمل أوروبا. وهناك استخدمتها في الترويج لنسخة علمانية من الإسلام بين المهاجرين الأتراك لمنع تطريفهم.   
وسّع حزب العدالة والتنمية مهمة “ديانت” الدولية، وفي الآن ذاته جعلها بوضوح أكبر أداة لخدمة أجندة الحزب السياسية والإيديولوجية. وقعت المؤسسة التي كانت يوماً شبه مستقلة تحت سيطرة الحكومة تماما بدءا من عام 2010. في ذلك العام، عين الحزب الحاكم رئيساً جديداً “لديانت” كان أكثر إخلاصاً من سلفه في تنفيذ مطالب حزب العدالة والتنمية. وسعت الإصلاحات التشريعية رسالة المنظمة وقوت قدرتها البيروقراطية والإدارية بشكل ملموس –بما في ذلك انخراطها في السياسة الخارجية. الآن، تعمل مؤسسة “ديانة” في أرجاء العالم كافة، من أميركا اللاتينية إلى أوروبا وإفريقيا وآسيا، مقدمةً خدمات دينية للمجتمعات المسلمة: تنظيم رحلات الحج، وتدريس الوعاظ، ونشر الكتب، وترجمة القرآن إلى اللغات المحلية. كما توفر المؤسسة منحاً لطلاب من إفريقيا، والبلقان، وآسيا الوسطى، وأميركا اللاتينية، بهدف دراسة الدين في تركيا.   
ليست مؤسسة “ديانت” الذراع الوحيد للقوة الدينية الناعمة لتركيا. فقد وسعت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق، المؤسسة الأخرى التابعة للدولة التركية، حضورها الدولي بشكلٍ ملموس تحت حكم حزب العدالة والتنمية. فلقد كانت الوكالة مسؤولة عن ترميم مواقع التراث العثماني حول العالم، بما في ذلك العديد من النصب في دول البلقان، والضريح التاريخي لغول بابا، وهو محارب عثماني وشاعر مشهور في هنغاريا، وبازار في كركوك العراقية، ومبنى القنصلية في إثيوبيا.
زادت المنظمات غير الحكومية العاملة في المجال الإنساني وذات التوجه الإسلامي من الترويج للتأثير التركي في أجزاء من الشرق الأوسط وأفريقيا التي كانت يوماً خاضعةً للإمبراطورية العثمانية. تقدم هذه المجموعات المساعدات الطبية والغذائية، كما تساعد في تنمية البنى التحتية كالآبار، ودور الأيتام، والمدارس. ومنذ وصوله إلى السلطة قبل 16 عاماً، خفف حزب العدالة والتنمية من القيود البيروقراطية المفروضة على هذه المنظمات غير الحكومية سامحاً لها بالحصول على المزيد من التبرعات وبتوسيع نطاق عملها خارج البلاد. يملك العديد من كبار المسؤولين في حزب العدالة والتنمية روابط وثقى مع المنظمات الإنسانية، وبدورهم، يعتبر مدراء هذه المنظمات غير الحكومية أنفسهم لاعبين مهمين في السياسة الخارجية لتركيا. وهم غالباً ما يستشهدون بمسؤولية تركيا تجاه الأراضي العثمانية السابقة ودورها كزعيمة للحضارة الإسلامية.
ما من مكان ظهرت فيه فعالية الدبلوماسية التركية الدينية أكثر من الصومال. ففي خضم مجاعة مدمرة ضربت البلاد في آب/أغسطس 2011، وتجاهلها الإعلام الغربي إلى حدٍ بعيد، قاد إردوغان وفداً من كبار وزراء حكومته، ومسؤولي المنظمات غير الحكومية، ورجال الأعمال، والصحافيين، والمشاهير، في زيارة إلى مخيم مليء بالأطفال المتضورين جوعاً في مقديشو. جرت تلك الزيارة خلال شهر رمضان الكريم، وجاءت رسالة إردوغان واضحة من خلالها: سوف لن تتخلى تركيا عن أخوتها المسلمين وأخواتها المسلمات. ومنذ ذلك الحين صرفت تركيا أكثر من مليار دولار على المساعدات في الصومال. وفيما تدير شركة تركية مطار مقديشو، تعد الخطوط الجوية التركية الناقل الدولي الوحيد الذي يصل ذلك المطار. تدير مؤسسة “ديانة” ومنظمات غير حكومية إسلامية أخرى المدارس، وأطلق اسم أردوغان على إحدى المستشفيات في الصومال كما أن وكالة العون التركية هي المسؤولة عن جمع النفايات. يثق الصوماليون بالمنظمات الإسلامية التركية أكثر من ثقتهم بالمنظمات الغربية. وربما كترجمة لهذه الثقة، تشهد التجارة بين البلدين نمواً متسارعاً، وقد أسست تركيا قاعدتها العسكرية الأكبر خارج الأراضي التركية في الصومال.

يلقى التعليم الديني على الطريقة التركية شعبيةً في أجزاء أخرى من أفريقيا، كالتشاد، وإثيوبيا، وغانا، والنيجر، ونيجيريا. تدير المنظمات الإسلامية كمؤسسة هداية، وسليمان جيلار، مدارس دينية تدعى بمدارس “إمام خطيب،” وهي تدمج التعليم العلمي مع الديني ويعد إردوغان واحداً من أهم خريجي تلك المدارس. نمت شعبية تلك المدارس منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر بسبب اعتبار العديد من البلدان الإسلامية للإسلام التركي بديلاً عن التيارات الأكثر تشدداً. ولقد عبرت السلطات في كل من أفغانستان، والتشاد، والنيجر، وباكستان، والصومال، عن اهتمامها بتبني النموذج التعليمي الإسلامي التركي التي تقدمه مدارس “إمام خطيب” لذلك السبب.
تستقدم تركيا أيضاً الطلاب من البلاد الأخرى بهدف تقديم التعليم الديني لهم في مدراس “إمام خطيب” الدولية في كل من إسطنبول، وقيصرية، وقونية، حيث درس أكثر من 1,000 تلميذ من 76 بلد في هذه المدارس في العامين 2014 و2015. ولقد لعبت جمعية تابعة للدولة تدعى مؤسسة معارف دوراً فاعلاً في الترويج للتعليم الديني على النمط التركي في الخارج عبر تقديمها المنح الدراسية، وبناء المدارس ومهاجع الطلبة، وتدريب المدرسين.
وبسبب العداوات التاريخية بين تركيا ودول الشرق الأوسط، كانت تلك الأخيرة أقل تقبلاً لانتشار نشاطات تركيا الدينية مقارنة مع الدول الإفريقية. هنالك العديد من البلدان العربية التي حكمتها الإمبراطورية العثمانية يوماً ممن ما تزال ترى في تركيا قوة إمبريالية. وبدورهم، يرى العديد من الأتراك في البلدان العربية خونة تحالفوا مع البريطانيين ضد الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
ولكن، ومنذ صعود حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية إلى السلطة في 2002، بدأت تلك العداوة بالاضمحلال تدريجياً مفسحة المجال أمام التقارب الثقافي. وبهدف تحسين قوته الناعمة في الشرق الأوسط قام حزب العدالة والتنمية بشكل رئيس بالاعتماد على روابطه مع تنظيم الإخوان المسلمين الذي ليس لديه أي فرع في تركيا ولكنه منحاز إيديولوجياً إلى حزب العدالة والتنمية. لقد كان لنجم الدين أربكان، مؤسس سلف حزب العدالة والتنمية والأب الفكري للحزب إلى حد كبير، علاقات قوية مع قادة الإخوان المسلمين عبر كامل المنطقة. كما تابعت المنظمات غير الحكومية التابعة لحزب العدالة والتنمية في بداية القرن الواحد والعشرين بناء تلك الروابط، مستضيفة في إسطنبول مؤتمرات ومنتديات دولية حول مستقبل العالم الإسلامي، مما حول المدينة إلى مركز هام لتنظيم الإخوان. ساعدت قناة الجزيرة القطرية أيضاً، وهي شبكة الأخبار الأكبر في الشرق الأوسط، على تقديم صورة تركيا كنموذج للبلد الإسلامي.
ولكن، وعقب الانتفاضات العربية، ربما أصبح الشرق الأوسط الأكثر شكاً في الإقليم حيال الزعامة التركية. لقد عمل تورط تركيا المدمر في سوريا بالإضافة للتحول السلطوي في عهد إردوغان على تمزيق صورة البلاد لدى جيرانها. بالإضافة لهذا، فإن تنظيم الإخوان المسلمين الذي تعتمد عليه تركيا كثيراً في تحقيق أهدافها أصبح اليوم معبراً عن الفشل لدى العديد من المسلمين، وهو قد صنف كتنظيم إرهابي في مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ويؤدي خطاب تركيا المفعم بالقومية والإشارات المتكررة إلى الماضي العثماني إلى إثارة سخط الأنظمة في مصر والإمارات العربية المتحدة التي ترى أجندة إمبريالية تقبع خلف دبلوماسية تركيا الدينية.
بدأت البلدان الأوروبية أيضاً بالتبرم من توسع تركيا بنشاطاتها الدينية. فقد امتلك الرئيس إردوغان من خلال “ديانة” القدرة على توسيع نفوذه ضمن مجتمعات الشتات التركي عبر أوروبا. تدفع “ديانة” رواتب الأئمة الذين ترسلهم تركيا، وهي تحكم السيطرة على الرسائل التي يوصلونها في خطبهم، حيث تكون خطب صلاة الجمعة الأسبوعية هي نفسها التي يتلوها الأئمة في تركيا والتي تصدر عن مقر “ديانة” الرئيسي في أنقرة. أقلق هذا الواقع المسؤولين الأوروبيين كثيراً وهم يحاجّون أن تدخل تركيا في حياة المهاجرين الدينية تمنع اندماجهم بنجاح في أوروبا.
تصدير القومية التركية
من وجهة نظر عالمية، أعطى تمدد تركيا الديني نتائج مختلطة. في الصومال الممزقة بالحرب على سبيل المثال، يقدر كلا النخبة السياسية وعامة الشعب جهود تركيا التي ساهمت ببناء الثقة ومهدت الطريق لتعاون مستقبلي بين البلدين. وفي البلقان، لعب استدعاء التراث العثماني وتصوير تركيا على أنها حامية المسلمين دوراً جيداً كما هو متوقع وسط المجتمعات المسلمة، ولكن لم يكن له وقع جيد في المجتمعات غير المسلمة. لقد عثرت تركيا على القليل ممن تقبلوا دورها في جمهوريات وسط آسيا التركمانية التي هي دول علمانية إلى حد كبير.
في الشرق الأوسط وأوروبا، قوبلت محاولات تركيا للتقرب بشك متزايد. تبدي أحزاب اليمين المتطرف التي تكسب الأرض في أوروبا موقفاً عدائياً تجاه توسع تركيا الديني، وفي الشرق الأوسط يستمر مزج الإسلام مع القومية التركية في استحضار ذكريات سيئة ترجع لأيام الإمبراطورية العثمانية. وطالما أن تركيا يحكمها حزب ذو جذور إسلامية فإنها ستستمر في ممارسة سياسة خارجية يعد الدين جزءاً لا يتجزأ منها. ولكن فيما تكسب التوجهات القومية أراضٍ حول العالم، فإن نموذج تركيا للتوسع الديني قد يصبح سلعة صعبة البيع. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق