عام في القصر: أسرار تنشر لأول مرة عن الرئيس مرسي
[الحلقة الخامسة]
دخلَ الرّئيسُ مُحمّد مُرسِي القصرَ الرئاسيَّ، أَو القصرَ الجمهوريَّ!
تقرير: سليم عزوز
وكَمَا ناورَ المجلسُ العسكريُّ حتَّى لَا يُجرِي الانتخاباتِ الرئاسيّةَ، فقدْ ناورَ حتَّى لَا يُعلِنَ نتيجةَ الانتخاباتِ، لكنَّهُ فِي الحالتَينِ تعرَّضَ لضغوطٍ، دفعتْهُ فِي المرّةِ الأُولَى لتحديدِ موعدِ إجرائِها، وفِي الثّانيةِ كانَ إعلانُ النّتيجةِ كَمَا هِي بفوزِ الدّكتورِ مُحمّد مُرسِي عيسَى العيّاط، وإلَى الآنَ، لَا يعرفُ أحدٌ مَا دارَ فِي مُفاوضاتِ مرحلةِ أَو "أيّامِ الشكِّ"، والّتي شاركَ فِيها الدّكتورُ مُحمّد البرادْعِي كوسيطٍ، لكنْ مِنَ الْواضحِ أنَّها لمْ تُناقشْ طلبَ تنازلاتٍ مِنَ الرّئيسِ المُنتَخَب لصالحِ المجلسِ العسكريِّ، فَمَا يُريدُه تحصَّلَ عليهِ بـ "الإعلانِ الدّستوريِّ المُكمِّلِ"، أَو "المُكبِّلِ" كَمَا كانَ الثّوارُ يطلقُونَ عليهِ، وأصبحَ المجلسُ شريكاً فِي الحُكمِ، وجارَ علَى صلاحيّاتِ رئيسِ الدّولةِ بقوَّةِ الأمرِ الواقعِ!
لَمْ يصطحبِ الرّئيسُ معهُ للقصرِ سِوى أفرادِ حملتِهِ الانتخابيّةِ، وبعدَ ذلكَ عيّنَ مجموعةً مِنَ المُستشارينَ مِنْ توجّهاتٍ مُختلفةٍ، وعدداً مِنَ المُساعدينَ، فقدْ كانَ يتحسّسُ موضعَ قدمَيهِ، وهُو يدخلُ علَى الدّولةِ العميقةِ فِي عقرِ دارِها، لكنْ لا أحدَ كانَ هُناكَ!
كانَ القصرُ فِي عهدِ الرّئيسِ مُبارك مَبْنًى بلا مَعْنًى، ومِنْ حيثُ كونُهُ مبنًى، فهُو قصرٌ تاريخيٌّ أنشأهُ الخديويُّ عبّاس حلمي فِي عامِ 1908، بهدفِ أنْ يكونَ فندقاً كبيراً يحملُ اسمَ "هيلوبوليس بالاس"، وذلكَ فِي ضاحيةِ هيليوبوليس (مِصْر الجديدة).
وقدْ كلّفَ الخديويُّ عبّاس حلمي مُهندساً بلجيكيّاً يُدعى "أرنست جاسبار" بوضعِ التّصميمِ الهندسيِّ والمعماريِّ لَهُ، والّذِي تمَّ افتتاحُهُ فِي ديسمبر عام 1910.
ومَعَ انْدلاعِ الحربِ العالميّةِ الأُولى، فِي سنة 1914، تحوّلَ إلَى مُستشفَى عسكريٍّ بريطانيٍّ للجنودِ البريطانيّينَ وحلفائِهِم، والأمرُ ذاتُهُ أثناءَ الحربِ العالميّةِ الثّانية فِي عامِ 1939.
وتحوَّلَ في سنة 1958 فِي عهدِ عبدِ الناصرِ إلَى مقرٍّ لعدّةِ إداراتٍ ووزاراتٍ حكوميّةٍ، وفِي عهدِ السّاداتِ وفِي يناير 1972 تحوّلَ إلَى مقرٍّ لِمَا سُمِّي باتّحادِ الجمهوريّاتِ العربيّةِ، الّذي ضمَّ مصرَ وسوريا وليبيا، وعُرفَ - لهذَا- باسمِهِ الحالي "قصر الاتّحاديّة"، وقدْ تحوّلَ فِي عهدِ مُبارك إلَى قصرٍ رئاسيٍّ "يُداومُ" فيهِ الرّئيسُ.
يتكوّنُ القصرُ مِنْ طابقٍ أرضيٍّ وثلاثةِ أدوارٍ عُلويّةٍ، ويضمُّ 400 حجرةٍ مفروشةٍ بأثاثٍ منْ طرازِ لويس الرّابع عشر ولويس الخامس عشر، هذَا بجانبِ 55 شقّةً خاصةً، ويحتوِي - كذلكَ - عَلَى قُبّةٍ يصلُ ارتفاعُها إلَى 55 متراً، وبَهْوٍ رئيسيٍّ تبلغُ مساحتُهُ 539 متراً، ويحتوِي القصرُ عَلَى مجموعةِ قاعاتٍ أُخرَى تبلغُ مساحةُ القاعةِ الكُبرَى 589 متراً مربّعاً، بجانبِ قاعةِ طعامٍ تكفِي لـ 150 مقعداً، وأخرى للبلياردو.
ومَعَ هذَا قالُوا إنَّهُ لا يتّسعُ لإقامةِ الرّئيسِ، وقالتْ هيئةُ الآثارِ بعدمِ جوازِ هذَا، ولمْ يكترثِ الرئيسُ بكلِّ هذَا، فقدْ عقدَ العزمَ علَى الاستمرارِ فِي شقّتِهِ بالتجمُّعِ الخامسِ، وهِيَ شقّةٌ بإيجارٍ حديثٍ (مُحدّد المُدّة).
أمّا أنّهُ بلَا مَعْنًى، فَلأنَّهُ قصرٌ شبهُ مهجورٍ، ليسَ فقطْ لقيامِ المجلسِ العسكريِّ بإغلاقِهِ بعْدَ تنحِّي مُبارك، فِي رسالةٍ لنائبِ رئيسِ الجمهوريّةِ اللواءِ عُمرَ سُليمان، بأنَّ المُهمةَ انتهتْ وأنَّهُ صارَ شخصاً غيرَ مرغوبٍ فيهِ رغمَ عدمِ صدورِ قرارٍ بعزلِهِ أَو إقالتِهِ، ولكنْ لأنَّ مُبارك كانَ فِي سنواتِ حُكمِهِ الأخيرةِ، قدْ زهدَ فِيهِ، وانتقلَ للإقامةِ فِي شرمِ الشّيخِ بشكلٍ شبهِ كاملٍ، وعندَمَا كانَ يعودُ للقاهرةِ، فقدْ كانَ مُكتفِياً بعددٍ قليلٍ مِنَ الْمُوظّفينَ فيهِ، فلمْ يُعرفْ عنهُ مفهومُ "مُؤسّسة الرّئاسة"، فلمْ يكُنْ لأحدٍ مِنْ كبارِ مُستشاريهِ مكتبٌ فيهِ، بمنْ فيهِم زكريّا عزمي رئيسُ الديوانِ، فقدْ كانَ مكتبُهُ فِي "قَصْر عابْدِين"، وينظّمُ مِنْ هُناكَ مواعيدَ مُقابلاتِ الرّئيسِ، وعندَما يحضرُ، فإنّهُ يكونُ أقربَ لطاقمِ السكرتاريةِ، إلَى أنْ يُغادرَ الرّئيسُ فيغادرَ هُوَ!
وعِندَما دخلَ الرّئيسُ مُحمّد مُرسِي القصرَ اكتشفَ مَنْ مَعَهُ، أنّ هُناكَ غُرَفاً مُغلقةً ولمْ تُفتحْ لسنواتٍ بعيدةٍ، حتّى صدئتْ أقفالُها وتآكلتْ، فقدْ كانَ "خرابةً" فِعلاً!
مُؤامرة زكريّا عزمي:
لمْ يكُنْ مُبارك مُؤهّلاً بحكمِ إمكاناتِهِ الشخصيّةِ المحدودةِ، لإدارةِ الحُكمِ منْ خلالِ مُؤسّسةٍ، ولمْ يكُنْ لدَيهِ قدرةُ الإبقاءِ علَى الشّكلِ المعروفِ لمُؤسّسةِ الرّئاسةِ، إنّهُ الرجلُ الخطأُ الذِي اختارَهُ السّاداتُ نائباً؛ لأنّهُ يفتقدُ الطّموحَ، وعندَما صارَ رئيساً لَمْ يعْبأْ إلّا بمُمارسةِ الاسْتبدادِ علَى النّحْوِ الّذِي يمكّنُهُ مِنَ الاستمرارِ فِي السُّلطةِ، وتساقطتِ الشّخصياتُ الّتِي مِنْ حولِهِ، ولمْ يبقَ فِي إدارتِهِ سِوى مُوظفينَ، وإنِ احْتلوا المواقعَ العُليَا فِي رئاسةِ الجمهوريّة، برئاسة مُوظفٍ كبيرٍ هُو زكريا عزمي، عَمِلَ علَى التخلُّصِ مِنْ كلِّ مَنْ هُمْ حولَ الرّئيسِ مِنْ أصْحابِ الأسماءِ اللامعةِ، فمَنْ لمْ يسقطْ بفعلِ تصرّفاتِهِ مثلَ الدّكتورِ مُصطفى الفقي، رئيسِ مكتبِ الرّئيسِ للمعلوماتِ، سقطَ بدسائسِ عزمي ومُؤامراتِه!
ويكفِي أنْ نعْلمَ بِمَا فعلَهُ مَعَ واحدٍ منْ كبارِ المُستشارينَ بالرّئاسةِ لنقفَ علَى كيفَ كانتْ تُدارُ الأمورُ، فِيمَا يمكنُ أنْ نطلقَ عليهِ تجاوزاً "مُؤسّسةَ الرّئاسةِ"!
لقدْ حرّضَ زكريّا عزمي، صاحبَ صحيفةٍ صفراءَ (وعن طريقِ صفوت الشَّريف وزيرِ الإعلامِ)، فنشرتْ أنَّ هذَا المُستشارَ الرئاسيَّ تزوّجَ مِنْ مُوظفةٍ باتّحادِ الإذاعةِ والتلفزيونِ "عُرفيّاً"، وفِي العددِ التّالِي، الّذِي نَشرتْ فيهِ هذِه الصحيفةُ نفياً مِنَ المَعْنيِّ بالموضوعِ، أعقبتْهُ بتأكيدٍ مِنَ الزّوجةِ، بأنّهما تزوّجَا فعلاً، وأنَّها تنتظرُ حَدَثاً سعيداً.
وفِي صباحِ صدورِ الجريدةِ، كانَ عددُ الصحيفةِ علَى مكتبِ مُبارك، فاسْتدْعَى مُساعدَهُ ليسألَهُ إنْ كانَ تزوّجَ مِنَ الْمُوظّفةِ فعلاً، أمْ لَا؟ فلمّا اعْترفَ بأنّه زواجٌ عرفيٌّ، أمرَهُ بأنْ يعقدَ قرانَهُ بشكلٍ رسميٍّ.
وقدْ جَمعنِي لقاءٌ مَعَ صاحبِ الجريدةِ الصّفراءِ، فسألتُهُ كيفَ واتتْهُ الشّجاعةُ لنشرِ خبرٍ يخصُ هذَا المسؤولَ الكبيرَ، وهُو آمنٌ مِنَ العقابِ؟
وعندَمَا تأتيهِ الفرصةُ لإبراءِ ساحتِهِ إنْ كانَ النّشرُ تمَّ بدونِ نفْيِ المسؤولِ يأبَى إلّا أنْ يُصرَّ علَى موقفِهِ، باعترافِ الزّوجةِ وأنّها تنتظرُ حدثاً سعيداً؟
فأخبرنِي أنّهُ كانَ ينفّذُ أمراً، وبِمَا يُوحِي بأنَّهُ في حمايةِ آخرينَ، وهكَذَا كانتْ كثيرٌ مِنَ المعاركِ الصحفيةِ والسياسيّةِ فِي هذِه الفترةِ، وفِي ساعةِ الجِدّ، فإنَّ أحداً لا يحمِي أحداً، فتكونُ هذِه الأدواتُ ليستْ أكثرَ مِنَ العُشبِ الّذي يموتُ عندَما تتصارعُ الفيلةُ، وقدْ دفعَ صاحبُنا ثمنَ معركةٍ أُخرَى خاضَها لصالحِ الغَيرِ، وكانَ الثمنُ باهظاً.
بَيدَ أنَّهُ فِي هذه المعركةِ، لمْ يدفعْ ثمناً، لأنَّ المسؤولَ بالقصرِ الرئاسيِّ تعرّضَ للتهميشِ، وإذَا كانَ مُديرُ مكتبِ مُبارك فِي مرحلةِ حُكمِهِ الأُولى يبدُو مُنافساً إلى حدٍّ كبيرٍ لزكريّا عزمي منْ حيثُ النفوذُ، فقدْ تخلّصَ مِنهُ بضربةٍ واحدةٍ، بعْدَ أنْ تجسّسَ علَى هواتفِهِ، وعلِمَ أنّهُ علَى اتّصالٍ بشخصيّةٍ مَا، فوشَى بِهِ للرّئيسِ، الّذِي رفعَ سمّاعةَ الهاتفِ، وكانَ واضحاً أنّ مُديرَ مكتبِ الرّئيسِ يتحدثُ عَنْ ذاتِهِ بالتّفخيمِ، فهُو ينتظرُ حتَّى يُسافرَ الرّئيسُ لكَي يلتقيَهُ، فالرّئيسُ لا يُمكنُهُ أنْ يستغنِي عنْهُ فِي وجودِهِ بالقاهرةِ، وباعتبارِهِ هُو "الْكُلْ فِي الْكُلْ"، وخرجَ مُبارك مِنْ مكتبِهِ، يركلُهُ ركلةً عظيمةً، خرجَ بعْدَها مِنَ القصرِ بلَا رجعةٍ.
ومنْ عجبٍ أنّني سمعتُ هذَا مِنَ الرَّجلِ نفسِهِ، إذْ كنتُ أؤدِّي واجبَ العزاءِ ذاتَ ليلةٍ بمسجدِ عُمرَ مكرم، وقدْ خرجتُ مَعَ أحدِ المُطربينَ الّذينَ كانُوا مُقرّبينَ مِنَ الرّئيسِ فِي سنواتِ حكمِهِ الأُولى، وكانَ يُدعَى لحضورِ بعضِ سهراتِهِ، فلمّا وقفَ يصافحُهُ، اشْتكَى كلٌّ مِنهُما حالَهُ للآخرِ، ولمْ يجدْ صاحبُنا حرجاً فِي أنْ يروِي تعرّضَه لـ "شلّوت" مِنَ الرّئيسِ بسببِ مَنْ وشَى بِهِ.
حكايةُ مُحمّد ثروت:
حَكَى لِي هذَا الفنّانُ، أنّهُ كانَ يُدركُ دائماً أنّهُ فِي حضْرةِ رئيسِ الدّولةِ، فلمْ يكُنْ يعتبرُ التباسُطَ منهُ لزوم السّهرة، ما يجعلُ الأمورَ تختلطُ فِي ذهنِهِ، فيظنُّ أنَّ الرّؤوسَ تساوتْ مثلاً، أَو أنَّه يجلسُ مَعَ صديقٍ، وروَى مَا جرَى مَعَ المطربِ مُحمّد ثروت، الذي جاءَ للرّئيسِ منْ الخلفِ ووضعَ يدَيه علَى عينَيهِ ثُمّ سألَه: "أنَا مِين؟"، طالباً منهُ التخمينَ، لكنّ مُبارك رفَعَ يدَهُ برفقٍ، وهُو يقولُ بعدمِ اكتراثٍ "اقْعُدْ يَا مَحمّد"، وكانتْ هذِهِ هِيَ المرّةَ الأخيرةَ لحضورِهِ.
بعدَها توقفتْ هَذِهِ السّهراتُ، فقدْ قامَ زكريّا عزمي بتأميمِ مُبارك، وكانَ هُو دائرتَهُ الضّيقةَ، وهُناكَ دائرةٌ أُخرَى، تشملُ شخصياتٍ بعينِها مُكلّفةً بمهامَّ بعينِها، مثلَ حبيب العادلي وزيرِ الدّاخليّةِ، وصفوت الشّريف، وبدرجةٍ أَو بأُخرَى وزيرِ العدلِ الراحلِ فاروق سَيف النّصر، ثُمّ فتحي سرور رئيسِ مجلسِ الشّعبِ، وهذِه الدائرةُ اهتمّتْ بألّا يخترقَ أحدٌ غَيرهَا الجدارَ العازلَ، ولأنّهُ أمكنَ لوزيرِ الأوقافِ مُحمّد علي محجوب أنْ يخترقَ هذِهِ الدّائرةَ، لشعورِ مُبارك بأنّهُ حقّقَ لَه فتوحاتٍ عُظمَى، مِنْ خلالِ اسْتدعاءِ كبارِ العلماءِ مِنْ كلِّ أنحاءِ العالمِ الإسلاميِّ فِي مُؤتمراتٍ دينيّةٍ، فِي الفترةِ الّتي كانَ يُواجهُ فِيها الجماعاتِ الدينيّةَ المُسلّحةَ، فقدْ قادُوا الدّسائسَ مِنْ أجلِ عزلِهِ، ونجحُوا فِي هذَا، وجاءَ وزيرُ الأوقافِ الجديدُ، وهُو يُدركُ أنَّهُ ليسَ أكثرَ مِنْ مُوظفٍ، وليسَ لَهُ أنْ يلعبَ أدواراً سياسيّةً، فألْغَى هذِه المُؤتمراتِ!
والّذينَ كانُوا يقومُونَ بأدوارٍ وظيفيّةٍ، مثلَ فتحي سرور، كانُوا لا يتعدّونَ حدودَهُم، وذاتَ مرةٍ ذكرَ لِي أحدُ الضبّاطِ الأحرارِ أبو الفضل الجيزاوي، وكانَ نائباً فِي البرلمانِ، أنَّه طلبَ مِنْ فتحي سرور أنْ يُحدِّثَ الرئيسَ فِي ضرورةِ تعديلِ الدستورِ ليسمحَ بانتخاباتٍ رئاسيّةٍ تعدُّديةٍ، وكانَ هذَا فِي وقتٍ مُبكّرٍ، فضربَ سرور علَى صدرِه كَمَا تفعلُ نساءُ الحَوَارِي عندَ اسْتشعارِ أمرٍ جللٍ، وهُو يقولُ لَهُ هلْ تعتقدُ أنّنا نجلسُ مَعَ الرّئيسِ فننصحَهُ ونتحاورَ معَهُ؟، نحنُ عندَما نلتقيهِ نقفُ لنتلقّى التعليماتِ وفقطْ!
مِنْ داخلِ القصرِ:
كانَ مُبارك شخصاً ملُولاً لَا يحبُّ وجعَ الرأْسِ وهِي السّمةُ الّتي استغلَّها زكريّا عزمي، فِي تأميمِهِ، وعندَمَا دخلَ الرّئيسُ مُحمّد مُرسِي القصرَ الرئاسيَّ ومعَهُ فريقُهُ، لمْ يعثرُوا فِي القصرِ علَى أرشيفٍ، أَو تقريرٍ، أَو ورقةٍ، فَهلْ قامَ المجلسُ العسكريُّ بتفريغِهِ مِنْ كلِّ هذَا؟ يجوزُ، لكنَّ المُؤكّدَ أنَّ التقاريرَ الأمنيّةَ لمْ تكُنْ تأتِي للرّئيسِ، وكانتْ تذهبُ لزكريّا عزمي ليطالعَها مَعَ قرينةِ الرّئيسِ السيدةِ سوزان مُبارك، فلمْ يكُنْ يملكُ الجَلدَ اللازمَ لـ "وجعِ القلبِ"، فإنْ كانَ ولابدَّ فلينقلْ الأمرَ إليهِ شفاهية.
فِي مكتبِ الدّكتورِ حُسين كامل وزيرِ التّعليمِ، أشارَ إلَى أحدِ الأشخاصِ كانَ قدْ أطلعَهُ علَى بعضِ الأوراقِ، فِي ملفٍّ طلبَ منهُ الوزيرُ أنْ يتركَهُ ويغادرَ، قبلَ أنْ يخبرنِي بأنَّ هذَا الشابَّ كانَ يعملُ فِي "القصرِ الجمهوريِّ"، وكانت وظيفتُه الوحيدةُ، أنْ يطالعَ صحفَ الصّباحِ، ويقفَ بجوارِ الرّئيسِ الجالسِ يحتسِي قهوتَهُ، فيعطيهُ تقريراً شفاهيّاً سريعاً عمّا نشرتْهُ صحفُ اليومِ، وعندَ آخرِ رشفةٍ مِنَ الفنجانِ، يتوقفُ وإنْ لمْ يكُنْ قدْ انتهَى مِنْ تقريرِهِ.
ذاتَ صباحٍ، وقفَ الشابُّ مُنحنياً بجوارِهِ: صحيفةُ كذَا نشرتْ كذَا، وصحيفةُ كذَا قالتْ كذَا، وعادل حُسين كتبَ مقالاً يُهاجمُ فيهِ الحكومةَ ويتهمُّها بالفشلِ، وهُنا كانَ مُبارك يُلقِي بفنجانِ القهوةِ فِي الهواءِ، فِي حالةِ غضبٍ، مِنْ هذَا الشابِّ الّذِي "يَصْطَبِح "كلَّ يومٍ بوجهِهِ "الفَقْرِي"، والّذِي يستهدفُ أنْ ينكّدَ عَليهِ، ثمَّ هتفَ: لَا أريدُ أنْ أَرَاه مرّةً ثانيةً هُنا، ثمَّ صاحَ صيحةً أُخرى "هَاتُولِي عادل حِسين" "بُكْرَهْ الصُّبحْ يِكُونْ عِندِي"!
وتمَّ الاتّصالُ بعادل حُسين وتحديدُ موعدٍ لهُ معَ الرّئيسِ، وكانَ الجوُّ حارّاً، ولمْ يكنْ الرجلُ يجدُ راحتَهُ فِي الملابسِ الرسميّةِ، "البذْلة وربْطة العُنق"، فاضْطُرَّ لذلكَ، وكانَ مِنَ الواضحِ أنَّ مُبارك نَسِي الموضوعُ، فاكتفَى بأنْ يصافحَه "عَلَى الوَاقِف" وهُو يقولُ لهُ "بطّلْ يَا عادَلْ تِهَاجِمْنا"، ثُمَّ أنهَى المُقابلةَ، وغادرَ عادل حُسين إلَى مكتبِهِ بجريدةِ الشّعبِ، وهُو فِي قمّةِ الغضبِ لهذِه المُقابلةِ لَا يستوعبُ معْناهَا، وكانَ غضبُه أكثرَ؛ لأنَّه اضْطُرَّ لأنْ يرتدِي ملابسَهُ الرسميةَ، وهُو الّذِي يذهبُ لعملِهِ وللمؤتمراتِ بالملابسِ "الْكَاجْوَل"، ربَّما ظنَّ أنَّ مُبارك استدعاهُ ليناقشَ معَهُ كتابَه فائقَ القيمةِ: "الاقْتصاد المصريّ مِنَ الاستقلالِ إلَى التبعيّة"!
وعَلَى الجانبِ الآخرِ كانَ مُبارك يهتمُّ بالحكاياتِ و"الْحَوَادِيتِ"، ويمكنُ أنْ يجلسَ ساعاتٍ مُستمعاً ومُناقشاً، وكانَ يطلبُ شخصياتٍ بعينِها، لكنّ زكريّا عزمي حاصرَ هذِه الرّغبةَ لديهِ، بِما لَا يسمحُ بآخرينَ أنْ يتواصُلُوا معَهُ بشكلٍ مُباشرٍ، وبطريقتِهِ المعهودةِ الّتي لا يغيّرُها.
وعندِي حكايتانِ هُنا؛ الأُولَى كانتْ فِي سنةِ 1987، والثّانيةُ بعدَ ذلكَ بسنواتٍ قليلةٍ.
بطلُ الحكايةِ الأُولَى، هُو ممدوح قِناوي المُحامِي، وعضوُ مجلسِ الشّورَى بعدَ ذلكَ، والقيادِيُّ حينذاكَ بحزبِ العملِ، كانتْ قدْ أُثيرتْ أزمةُ الترشيحِ فِي قوائمِ مَا سُمِّي فِي انتخاباتِ هذَا العامِ "التّحالف الإسلاميّ" الّذِي يضمُّ حزبَي العملِ والأحرارِ وجماعةَ الإخوانِ المُسلمينَ، كانَ قِناوي يطمعُ فِي الترشّحِ عَلَى رأسِ القائمةِ بمُحافظةِ سُوهاج، باعتبارِهِ أمينَ الحزبِ بالمُحافظةِ، وفِي المُقابلِ كانَ حزبُ الأحرارِ يصرُّ عَلَى أنْ يكونَ علَى رأسِ القائمةِ عبدُ الرحيم حمد لله، أمينُ الحزبِ فِي المُحافظةِ، وسافرَ أمينُ تنظيمِ حزبِ العملِ عبدُ الحميد بركات، لرأبِ الصدعِ، والتقَى بالمُتنافسَينَ علَى رأسِ القائمةِ، قِناوي فِي مكتبِهِ بسُوهاج وعبدِ الرحيم حمد لله فِي فيلته بطَهْطَا، لكنّه عادَ باقتراحٍ لمْ يكُنْ علَى البالِ أَو علَى الخاطرِ، لقدْ نزلَ إلى جُهَينةَ لزيارةِ مُرشحِ العملِ "فهمي بخيت دياب"، فشاهدَ حضوراً جماهيريّاً كبيراً، نتيجةَ الاحتشادِ القَبليِّ، وهُو ليسَ موجوداً عندَ المُرشحَينِ الآخرَينِ لأنَّهما في "الْبَنْدَرْ"!
فاقْترحَ فِي تقريرِهِ أنْ يكونَ "دياب" علَى رأسِ القائمةِ، وغضِبَ ممدوح قِناوي، وأعلنَ الحربَ على تحالفِ الحزبِ مَعَ جماعةِ الإخوانِ، ولمْ يكنْ هذَا هُو الموضوعَ، ولمْ يكُنْ فِي البدايةِ مُعترِضاً عَلَى التّحالفِ!
قلقُ مُبارك مِنَ التّحالفِ الإسلاميِّ:
وكانَ مُبارك يستشعرُ قلقاً منَ التحالفِ معَ الإخوانِ، ولهُ تجْرِبةٌ قبلَ ثلاثِ سنواتٍ لفكِّ التحالفِ بينَ "الوفدِ" و"الإخوانِ" باءتْ بالفشلِ، وطلبَ دعوةَ "قِناوي" ليلتقِيَ بِهِ فِي الرّئاسةِ ليناقشَ معَهُ تفاصيلَ التّحالفِ، وإمكانيةَ تفكيكِهِ.
عندَمَا وصلَ قِناوي للرّئاسةِ استقبلَهُ زكريّا عزمي وطلبَ منهُ ألّا يزيدَ اللقاءُ عَنْ خمسِ دقائقَ، لأنَّ "الرّيِّسْ" مُرتبطٌ بمواعيدَ مُهمّةٍ، وبلقاءاتٍ معَ سفراءَ أجانبَ، ولأنَّ ممدوح قِناوي حكّاءٌ فقَدْ كانَ مُبارك يسمعُهُ باهتمامٍ، لكنَّ زكريّا عزمي كانَ أمامَه خارجَ البابِ المفتوحِ، يغدُو ويروحُ، ويشيرُ إليهِ بعصبيةٍ وينظرُ فِي ساعتِهِ فِي قلقٍ، فقطعَ بذكاءٍ (كَمَا روى لِي) الحديثَ فجأةً ووقفَ فجأةً وطلبَ مِنَ الرّئيسِ السماحَ لهُ بالانْصرافِ لأنَّ "زكريّا بِيهْ" نبَّهَ علَيهِ بألّا يبقَى لأكثرَ مِنْ خَمسِ دقائقَ، لأنَّ حضرتَكَ مُرتبطٌ بمواعيدَ، وهَاهُوَ "يُخايلني" فِي الخارجِ!، وقالَ مُبارك إنّهُ ليسَ مُرتبطاً بشيءٍ، ونادَى علَى عزمي بغضبٍ، وأمرَه أنْ يُغلقَ البابَ، ليستمرَّ اللقاءُ ثلاثَ ساعاتٍ مُتصلةٍ فِي "حَوَادِيت" و"حِكَايَات"! وأسبابِ الضّعفِ التاريخيِّ لإبراهيمَ بِكْ شُكري رئيسِ حزبِ العملِ، معَ آلِ حُسين.. وحكاياتٍ مِنْ هذَا النّوعِ!
الحكايةُ الثانيةُ خاصةٌ بالدكتورِ مُحمد إسماعيل علي، أستاذِ القانونِ الدوليِّ بجامعةِ الأزهرِ، والّذِي عمِلَ كاتباً فِي "الأهرام" بضعَ سنينَ فِي عهدِ الساداتِ وباقتراحٍ مِنَ الرّئيسِ، وبعدَ وفاةِ الساداتِ سافرَ إلَى السّعوديةِ للعملِ فِي إحْدَى جامعاتِها، وقدْ تقدّمَ للعملِ بعدَ نشرِ إعلانٍ قالَ لِي إنَّهُ كانَ يبدُو لَهُ أنّهُ مُفصلٌ عليهِ خِصّيصَا وهُناكَ عرَفَ السّببَ!
لقدْ نسِيَ أنَّه هاجمَ الحُكمَ السّعوديَّ فِي "الأهرام" انحيازاً للسّاداتِ، وهُناكَ زجُّوا بِهِ فِي السِّجْنِ بُحجِّة أنَّه أهانَ طالباً مِنَ العائلةِ الحاكمةِ، وسرّبَ الامتحانَ لطالبةٍ، وفِي السِّجنِ أطلعُوهُ علَى أرشيفِهِ ضدَّهم!
كانَ الطّرفانِ: المصريُّ والسعوديُّ، يُحاولانِ بدْءَ علاقةٍ جديدةٍ بعدَ القطيعةِ فِي عهدِ الساداتِ، ولمْ يكنْ مِنَ المُناسبِ أنْ تُثارَ فِي مِصرَ قضيةُ سَجنِ الدكتورِ مُحمد إسماعيل علي، وفِي السِّجنِ طلبُوا منهُ كتابةَ مقالٍ عنِ الضّرورةِ فِي عودةِ العلاقاتِ المِصريّةِ السعوديّةِ، فكتبَ، وأرسلُوا هُم المقالَ نيابةً عنهُ لـ "الأهرام" فنُشرَ!
قبلَ سفرِه ذهبَ لـ "الأهرام" ليحصلَ على إجازةٍ، ففُوجِئَ بالردّ، أنتَ لمْ تُعيّنْ لكَي تحصلَ علَى إجازةٍ، وقالَ لي إنّه لمْ يهتمَّ بالتأكُّدِ منْ إجراءاتِ التّعيينِ فِي وقتِهِ، لأنّ الرّئيسَ ساعتَها قالَ لرئيسِ مجلسِ إدارةِ الأهرامِ عَيِّنْ "إسماعيل" كاتباً. وكانَ الكُتّابُ فِي الأهرامِ يُعيّنُونَ بقرارٍ شبهِ رئاسيِّ، أَو باقتراحٍ مِنْ رئيسِ المُؤسسةِ وعدمِ مُمانعةِ الرّئاسةِ فِي ذلكَ.
وعندَمَا انقلبَ صلاح عيسى عضوُ مجلسِ نقابةِ الصّحفيّينَ علَى إبراهيمَ نافع فِي واحدةٍ مِنَ الأزماتِ، كانَ نافِع كمنْ يحدثُ نفسَهُ وهُو يقُولُ هُو يعلمُ أنَّ ما يريدُهُ مِنِّي ليسَ بيَدِي وكرّرَ عبارةَ "مِشْ بِإِيدِي" أكثرَ مِنْ مرّةٍ!
سافرَ مُحمّد إسماعيل علي وعادَ، ولمْ يجدْ مكاناً ينشرُ لهُ، وبعدَ سنواتٍ كانَ حزبُ "الأحرار" قدْ أصدرَ صحيفةً أسبوعيةً صغيرةً اسمُها "العروبة" بدأَ كتابةَ مقالٍ فِيها، عندَما طلبَهُ الرئيسُ للحضورِ للرئاسةِ والّذي سألَه أنُّه منذُ أكثرَ منْ شهرٍ لمْ يطالعْ لهُ مقالاً منشوراً، (كانتْ عقدةُ مُبارك أنّهُ يعلمُ أنّ كثيرينَ يعرفونَ أنّهُ لَا يقرأُ)، ولمْ يعلمْ أنُّه متوقّفٌ عنِ الكتابةِ منذُ عشرِ سنواتٍ، أمّا فِي هذَا الشهرِ فقدْ بدأَ الكتابةَ في صحيفةٍ لم يتّصلْ عِلمُ الرئيسِ بِهَا.
قبلَ دخولِهِ عَلَى مُبارك، قالَ لَهُ زكريّا عزمي إنَّ الوقتَ لَا يمتدّ لأكثرَ مِنْ ثلاثِ دقائقَ، وألَا يتطرّقَ لموضوعاتٍ تحتاجُ لوقتٍ طويلٍ، فالرّئيسُ مشغولٌ، ومنْ أوّلِ لحظةٍ بدأ يغدُو ويروحُ وينظرُ فِي ساعتِهِ فِي قلقٍ، وكانَ لقاءً سريعاً هِي المدةُ الّتِي قطعَها الرئيسُ فِي اتصالَين هاتفيَّين؛ الأوّلِ يطلبُ منْ إبراهيمَ نافع أنْ يعودَ "إسماعيل علي" بمقالِهِ للأهرام، والثّاني يأمرُ الشريفَ بأنْ يخصّصَ لهُ بَرْنَامَجاً فِي التّلفزيونِ.
إبراهيمُ نافع قالَ يكتبُ مقالاً كلَّ أسبوعَينِ، ومِنْ منزلِهِ؛ لأنَّهُ ليسَ هُناكَ مكاتبُ زائدةٌ عنِ الْحاجةِ فِي الأهرامِ، وقالَ مُبارك: تَخْلِقْ لَهُ مَكْتبْ، قَبلَ أنْ يستدركَ سائلاً: "أَنَا مِشْ عارِفْ أنتَ قَارِشْ مِلْحِتُهْ لِيهْ" وهُو كلامٌ مصريٌّ تعبيراً عنِ الكراهيةِ بدونِ مبررٍ. ثمَّ طلبَ مِنهُ قبلَ أنْ ينصرفَ أنْ يحصلَ علَى رقْم هاتفِهِ الخاصِّ مِنْ زكريّا، ليتّصلَ بِهِ وقتَمَا يريدُ، وإذَا تعرَّضَ لمعوّقاتٍ مِنْ قبلِ صفوت الشّريف أَو إبراهيم نافع، وعندَمَا طلبَ رقْمَ هاتفِ الرّئيسِ مِنْ زكريّا عزمي، قالَ لَهُ فِي ضجرٍ اتّصلْ بِي أَنَا وسأعرضُ عَليهِ مَا تريدُ. (قالَ لِي الدكتورُ مُحّمد إسماعيل إنّهُ كانَ مُرشّحاً وزيراً للإعلامِ فِي وزارةٍ جديدةٍ سيشكّلُها السّاداتُ بعدَ احتفالاتِ أكتوبر إلّا أنّهُ اغتِيلَ ولمْ يتمَّ تشكيلُ الحكومةِ).
كنتُ فِي مكتبِهِ فِي اليومِ الثّالثِ لهذَا اللقاءِ، وكانَ يقولُ لِي إنَّ زكريّا عزمي بطبيعةِ الحالِ، لنْ يكونَ جهةَ تمكينٍ بالاتّصالِ بالرّئيسِ ولكنّهُ جهةُ منعٍ، وتحسّرَ لأنَّه ساعدَه فِي إعدادِهِ لرسالةِ الماجستيرِ، وربّما الدكتُورَاه، ومَعَ هذَا يتعاملُ معَهُ الآنَ عَلَى هذَا النّحوِ.. إنّه إنسانٌ ليسَ جيّداً!
وحدثتِ المعوّقاتُ فِي التلفزيونِ وفِي الأهرامِ، ولمْ يتصلْ بالرّئيسِ، ولمْ يكُنْ هُناكَ معنَى مِنَ الاتّصالِ بزكريّا عزمي، الّذِي عزلَ مُبارك عَنِ الْعالمِ، وتقدّمَ هُو وقدْ حازَ ثقةَ "الهَانِم"، فكأنَّما حِيزتْ لهُ الدُّنْيَا بحذافِيرِها.
"الخرابةُ":
إنَّ شخصاً كمُبارك ليسَ مُهيّأً لبناءِ مُؤسّسةٍ، فكانتِ "الخرابةُ" الّتي دخلَها الرئيسُ مُحمّد مُرسِي، وإذَا كُنّا نأخذُ علَيهِ أنَّهُ دخلَ علَى الدّولةِ العميقةِ بهذَا العددِ القليلِ منَ المُستشارينَ والمُساعدينَ والمُوظّفينَ، فِي الوقتِ الّذِي دخلَ فيه ترمب البيتَ الأبيضَ بثلاثِمئةِ مُوظّفٍ، فلأنَّ الرئيسَ دخلَ القصرَ الرئاسيَّ مُحاطاً بالاتّهامِ بأنّهُ يُؤَخْوِنُ الدّولةَ، ثمَّ أنَّهُ لمْ يكُنْ يواجهُ قوةً داخلَ القصرِ فِي أعدادِ المُوظّفينَ، لقدْ كانُوا قلةً لتسييرِ الأعمالِ، لا يشغلُهُم سِوى الهيبةِ الشكليّةِ باستخدامِ الورقِ المُذهّبِ فِي المُكاتباتِ، حتّى لَو كانتْ مُكاتباتٍ تدخلُ للرّئيسِ قدْ لَا يطالعُها وينتهِي بَها الأمرُ إلَى الفرْمِ فِي نفسِ اليومِ.
فالصادرُ والواردُ كانَا بالنّظامِ القديمِ فِي المصالحِ الحكوميّةِ الذي لمْ يتغيّرْ!
والقصرُ لمْ يكُنْ فيهِ شبكةُ إنْترنتْ، وكانَ دخولُ الّلَابْ تُوبْ إليهِ مِنَ المُحرّماتِ، فكيفَ يمكنُ لجهازٍ غريبٍ كهذَا أنَ يدخلَ القصرَ، ثمَّ يشْعرَ القومُ بعدَها بالأمانِ؟!
وفِي مكتبِ مُبارك كانَ هُناكَ 14 مُوظّفاً لا يوجدُ بينَهم واحدٌ حاصلٌ علَى مُؤهلٍ جامعيٍ، وبحسبِ أحدِ المصادرِ أنّهم كانُوا ينزعجُونَ مِنْ أيِّ أحدٍ حاصلٍ علَى مُؤهلٍ عالٍ، ولا يوجدُ فِي القصرِ مسيحيٌّ واحدٌ.
وكانتِ الأخطاءُ فِي المكاتباتِ أمراً عاديّاً، فكتبُوا ذاتَ مرّةٍ اسمَ السّفيرةِ الأمريكيّةِ خطأً، فكانتِ التعليماتُ فِي العهدِ الجديدِ هِي أن تكونَ نسبةُ الأخطاءِ صفراً، ليس مسموحاً بتجاوزِ هذِه النّسبةِ.
أسْعد الشيخة، نائبُ رئيسِ الديوانِ فِي عهد مُرسِي، قامَ بالاسْتغناءِ عَنْ خِدماتِ عاملِ البُوفِيه؛ لأنّهُ شاهدَه يتحركُ وفِي يدِه سكّينةُ مطبخٍ فِي الطرقةِ خارجَ دوائرِ الرّئيسِ فِي قصرِ عابْدِين، حيثُ ديوانُ رئيسِ الجمهوريّةِ، فلمْ يكُنْ لدَى أحدٍ إحساسٌ أنّه مكانٌ مُهمٌّ!
والمُشكلةُ أنَّ الحدودَ الفاصلةَ بين مَبْنى رئاسةِ الجمهوريّةِ والرأيِ العامِّ، هِيَ الّتي دفعتْ للتصوُّرِ، أنَّ النزلاءَ الجددَ أهانُوا المكانَ، وقدْ جاءَ معظمُهم مِنَ الفلّاحينَ، وبعضُ الإخوانِ جاؤوا يبالغُونَ فِي إظهارِ التّواضعِ، فقالُوا إنَّهم كانُوا يجلبُونَ "علبَ الكُشَرِي" مِنَ الخارجِ، ولمْ يكُنْ هذَا صحيحاً فالمُوظفينَ الّذينَ كانَتْ تأتِيهِم الوجباتُ مِنْ مطاعمِ الجيشِ كَمَا الحرسُ، لكنْ هذِه المقولاتُ استُخدمتْ فِي الإيعازِ بأنَّ القومَ أهانُوا القصرَ ومقامَ الرّئاسةِ!
وعندَما جاءَ رؤساءُ تحريرِ الصّحفِ، فِي أولِ اجتماعٍ (وآخرِ اجتماعٍ) لهُم معَ الدكتورِ مُحمّد مُرسِي رئيسِ الجمهوريّةِ، وظلُّوا لساعتَينِ يطلبُون "شَاي"، وعندَما جاءَهم المددُ كانَ فِي أكوابٍ فِي حَجمِ عُقلةِ الإصبعِ بدونِ سُكّرٍ، اعتبرُوا أنّ الإخوانَ أهانُوا هيبةَ القصرِ، لأنَّ تصوّراتِهم عَنِ القصرِ هِيَ تصوّراتٌ وهْميةٌ، لقدْ كانَ أقربَ إلى القصرِ المهجورِ أيّامَ مُبارك، أَو "خَرَابة"، بحسبِ وصفِ أحدِ مصادرِي ممّنْ كانُوا فِي الرئاسةِ فِي سنةِ حُكمِ الرّئيسِ مُحمّد مُرسي.
فلمْ يكُنْ أصحابُ التصوّراتِ الوهْميةِ عنِ القصرِ الرئاسيِّ، يُدركونَ الجديدَ، فمعظمُهم دخلَ القصرَ لأوّلِ مرّةٍ، ثمَّ إنَّ مَنْ دخلُوه قبلَ ذلكَ، لابدَّ أن يكونُوا قدْ شعرُوا بالفرْقِ، الذِي أحدثتْهُ الثّورةُ، هُنا الآنَ يتحدثُونَ بحريّةٍ، ويخرجُونَ منَ القاعاتِ إلى الطّرقاتِ، وكأنَّهم في صحفِهم، فقطْ لم تشغلْهم "الهيبةُ" التقليديةُ إلّا عندَ ذكرِ الطرفِ الآخرِ، هذَا الوافدِ الجديدِ علَى القصرِ، ولمْ يكُنِ الوافدُونَ السّابقونَ، أبناءً لإقطاعيّينَ أَو باشواتٍ، أَو حتَّى مِنَ العائلاتِ المُهمةِ في مُحيطِها، ومِنْ أوّل الرؤساءِ ومساعدِيهم، وانتهاءً بالمُوظفينَ، ومنْ أولِ عبدِ النّاصر، إلى حُسني مُبارك ومروراً بالسادات، فكلُّهم أبناءُ فلّاحينَ بسطاءَ ومِنَ السُّلّمِ الاجتماعيِّ الأدْنَى. لكنّها طبقةٌ تشكّلتْ بالوظيفةِ، وليسَ بالمكانةِ التقليديّةِ.
وأعْلم أنَّ مِنَ المصريّينَ مَنْ يشغلُهم الشكلُ عَنِ المضمونِ، ولمْ يكُنِ الرئيسُ مُحمّد مُرسي يملكُ كاريزما الشّكلِ، وإنْ امتلكَ بعدَ ذلكَ كاريزما الإرادةِ، لكنّه لمْ يكُنْ مشغولاً بالهيبةِ الفارغةِ؛ لإدراكِهِ أنّه واحدٌ مِنْ أبْناءِ الشّعبِ المِصريِّ، وابنُ فلّاحٍ بسيطٍ، بلْ إنّه لمْ يتعالَ ولَو بتعليمِهِ الراقِي، وتعاملَ على أنَّه فلّاحٌ!
الباعةُ الجائلونَ حولَ القصرِ:
ومِنْ هذا البابِ دخلَ الشيطانُ، ففِي اليومَ التالِي لدخولِهِ القصرَ الجمهوريَّ، احتشدَ أصحابُ المظالمِ، حولَ القصرِ الجمهوريِّ، ما جرحَ هيبتَه الشكليّةَ، وتحوّلَ إلَى مرتعٍ للباعةِ الجائلينَ، وهذَا المشهدُ الّذِي رأيناهُ بعْدَ تنحِّي مُبارك منْ خلالِ مَا عُرفَ بمظاهراتِ أصحابِ المطالبِ الفئويّةِ، وبحضورِ الباعةِ الجائلينَ بعدَ ذلكَ في تجلّياتِ الثورةِ كنّا نُدركُ أنّهم مدفوعونَ منْ قِبلِ الأجهزةِ الأمنيةِ، وكانَ العقلُ الثوريُ يُجمِعُ علَى أنَّ الطرفَ الثالثَ يريدُ أنْ يُفسدَ علَى المصريّينَ فرحتَهم بالثورةِ، بتحقيقِ الفوضَى.
أنشأَ الرئيسُ سريعاً وفِي الأسبوعِ الأوّلِ لهُ فِي القصرِ "ديوان عام المظالم" لكنّ المظاهراتِ حولَ القصرِ لمْ تتوقّفْ، وقالَ لِي زميلٌ يعملُ مُحرّراً بالرّئاسةِ، إنّه فِي لقاءٍ للرئيسِ معَ ضيفٍ أجنبيٍّ، كانتْ أصواتُ المُتظاهرينَ تقتحمُ اللقاءَ، وتشوّشُ علَى المُباحثاتِ!
وكانَ الرئيسُ أمامَ أمرَينِ أحلاهُما مُرٌّ:
أنْ يأمرَ بفضِّ المُظاهراتِ وعندئذٍ يُستخدمُ هذَا فِي التشهيرِ بهِ. ولا أظنُّ أنَّه فكّرَ فِي هذَا مُطلقاً، والثّاني أنْ يتركَهُم، وهذَا مَا حدثَ، فيسقطون الهيبةَ الاعتباريّةَ للقصرِ!
ولمْ تكُنِ المُشكلةُ فِي المُوظّفينَ العاديّينَ، فلمْ يمثّلُوا مُشكلةً، فالدّولةُ العميقةُ كانَ يمثّلُها ضبّاطُ الحرسِ الجمهوريِّ، وهُم مَنْ كانُوا يتأذّونَ مِنْ هذا المشهدِ، وقدْ تشكلتْ قيمتُهم بالوظيفةِ، فهُم يعملونَ فِي القصرِ الجمهوريِّ، الّذِي لا يسمحُ للهواءِ أن يدخلَه بدونِ إذنٍ، ولا يمكنُ لأحدٍ أنْ يتوقفَ بسيارتِهِ فِي الشّارعِ الّذِي يقعُ فيهِ، وذاتَ مرّةٍ كانتْ سيارةٌ تقتحمُ القصرَ، فلمْ يتمَّ توقيفُها وهذا سهلٌ، ولكنْ تمَّ إطلاقُ وابلٍ مِنَ الرّصاصِ علَيها، فماتَ مَنْ بِها فِي الحالِ، ليتبينَ أنّهُ ابنُ قاضٍ، معَ أنَّ السيارةَ كانتْ معروفةً بأرقامِها وأنّها تابعةٌ لمباحثِ أمنِ الدولةِ، ولهذَا الاقتحامِ قصةٌ ليسَ هذَا مجالَها، لكنّ القاضِي كُوفِئَ بعدَ ذلكَ عوضاً عنْ فقدِ ابنِهِ، ولمْ يتمَّ التحقيقُ فِي الجريمةِ ولو بشكلٍ صوريٍ!
كانَ الحرسُ يرونَ أنَّ هيبتَهم قدْ زالتْ بهذِهِ الاستباحةِ، ومنْ الطبيعيِّ ألّا ينحازُوا للثّورةِ، أُو إلَى الوافدِ الجديدِ، وكانَ بعضُ الضباطِ يتحدثُونَ عَنِ الرّئيسِ بعدمِ احترامٍ، وكانَ زملائِي مِنَ المُحرّرينَ بالرئاسةِ يرْوُونَ لِي جانباً مِنْ هذِهِ الاستهانةِ، أحدُهم سألَ ذاتَ يومٍ أحدَ الضباطِ إنْ كانَ الرئيسُ بالدّاخلِ، فردَّ بعدمِ اهتمامٍ: "أَهُو مَرْزُوعْ جُوَّا".
سألتُ إنْ كانَ رجالُ الدكتورِ مُحمّد مُرسِي بالرئاسةِ يتّصلُ علمُهم بهذِه التصرُّفاتِ، فكانَ اعتقادُهم أنّهم يعْلمونَ!
وهُو اعتقادٌ، مبنيٌّ علَى التخمينِ وليسَ علَى الجزمِ واليقينِ، ولكنْ ماذَا لَو كانُوا يعلمُونَ؟!
قبلَ سفرِ الرئيسِ لباكستانَ، سافرَ وفدٌ صحفيٌّ إلَى هُناكَ، وقامَ أحدُ الدبلوماسيّين بالسفارةِ بدعوتِهم علَى مقهَى هُناكَ، وفُوجِئُوا بلُغةِ الاستهانةِ عندَ الحديثِ عنِ الرئيسِ، وبكلماتٍ مُهينةٍ، فلمّا حضرَ الرّئيسُ والوفدُ المرافقُ لهُ، نقلَ بعضُهم مَا حدثَ منْ هذَا الدبلوماسيِّ للمُتحدّثِ الرسميِّ باسمِ الرّئاسةِ الدكتورِ ياسر علي فماذَا جرَى لهُ؟ لا شيءَ، ولَو بنقلِهِ مِنَ السّفارةِ لديوانِ عامِ الوزارةِ.
ربّما ظنَّ أنّه فِي مقامِ الدعوةِ فاكتفَى بأنْ يقولَ للجاهلينَ فِي نفسِهِ: سلاماً.
كانَ هؤلاءِ هُم الدولةُ العميقةُ، وأقصدُ بِهِم الذينَ صارُوا طبقةً عُليا بالوظيفةِ، فلمّا قامتِ الثورةُ تدعُو للعدالةِ وإلى المُساواةِ، كانَ مِنَ الطبيعيِ أنْ يكونُوا ضدَّها، وإنْ لمْ يستطيعُوا أنْ يعادُوها فِي العلنِ، فليكنْ فِي الجلساتِ الخاصّةِ، وفِي الأخيرِ فإنَّها لمْ تكُنْ ثورةً ذاتَ أنيابٍ تحمِي نفسَها!
فالشائعُ أنَّ العاملينَ فِي دولابِ الدولةِ هُم المشكلةُ، وهذَا ليسَ صحيحاً، ففِي كلِّ مرفقٍ كانُوا يحسنُونَ التقرُّبَ إلَى الإدارةِ الجديدةِ، وإنْ كانَ هذا يتوقّفُ علَى شخصيّةِ المسؤولِ، ولهذَا نجحتْ تجرِبةُ باسم عودة فِي وزارةِ التموينِ، وفشلتْ تجرِبةُ صلاح عبد المقصود فِي وزارةِ الإعلامِ.
فلمْ يجدِ الوافدونَ مُشكلةً فِي التعاملِ معَ المُوظفينَ فِي الرئاسةِ، بلْ إنَّ بعضَهم بدأَ يطلقُ لحيتَه، مَا أثارَ قلقاً لدَى القياداتِ الأمنيّةِ بالقصرِ.
وسألَ اللواءُ حاتم قِناوي، أمينُ عامِ أوّلِ الرئاسةِ الآنَ، مُوظفاً أطلقَ لحيتَهُ منْ بابِ التصوّفِ:
(لماذَا لمْ تطلقْها قبلَ ذلكَ) فِي استنكارٍ؛ لأنّه فعلها تقرّباً للإخوانِ) فردَّ عليهِ: لأنّه قبلَ ذلكَ كانَ إطلاقُها ممنوعاً.
فعادَ ليسألَه: وِلَمَّا الإخوانْ يِمْشُوا؟!
فردَّ الموظفُ فِي دهشةٍ: وِهُمَّ الإخوانْ هَيمْشُوا؟!
وتبسّم قِناوي ضاحكاً وانصرفَ ولمْ يعقِّبْ!
وكانَ منْ رأي أحمدَ عبد العاطي مُديرِ مكتبِ الرئيسِ مُحمّد مُرسي، أنّ مَنْ لمْ يُكنْ مِنَ المُوظفينَ أطلقَ لحيتَه مِنْ قبلُ، فلا يطلقْها الآنَ.
فلمْ تكُنِ الأزمةُ فِي المُوظّفينَ، بلْ كانتْ فِي الحرسِ، الّذِي هُو حرسُ مُبارك، وكانَ مِنَ الأخطاءِ الجسيمةِ الإبقاءُ عليهِ، وهُم أبناءُ زمانِهم، عندَما كانتْ مكانتُهم مُستمدةً مِنَ الوظيفةِ، ومنْ جبروتِ الرّئيسِ ومَنْ معَهُ، حتَّى وإنْ كانتِ المُعاملةُ صارتْ أكثرَ إنسانيّةً، وأكثرَ رُقيّاً.
لقدْ كانَ زكريّا عزمي يعاملُ ضباطَ الحرسِ بخشونةٍ فِي القَولِ والفعلِ، وتروِي المصادرُ أنّهُ فِي ذاتِ يومٍ ركلَ لواءً بقدمِهِ، فأصيبَ بذبحةٍ صدريةٍ فِي الحالِ.
وهُو تصرّفُ لا يمكنُ أنْ يُقدِمَ عليهِ "ابنُ الأصولِ" السّفيرُ رفاعة الطهطاوي الّذِي عُينَ فِي وظيفةِ زكريّا عزمي.
وتلكَ كانتِ المُشكلةَ.. لكنّها لمْ تكُنِ المُشكلةَ الوحيدةَ.
فإلَى الحلقةِ السّادسةِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق