ما في الجبة إلا السلطان !
عبدالله الطحاوي
اعتدت حينما كان الإمام يدعو في مسجدنا بقوله: اللهم وفِّق ولاة أمورنا وكن معهم؛ أن أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لديَّ اعتقاد أن حاكمًا يحكُم ومعه الشرطة والجيش والقضاء والإعلام والإستخبارات؛ ليس في حاجة أن يكون الله بجانبه، الشعوب هي الأكثر حاجة إلى معونة الله.
حكى ابن العربي قائلًا: “رأيت الزهّاد بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم والكوفة، إذا بلغ الإمام الدعاء للأمراء أو أهل الدنيا قاموا فصلّوا، ويتكلمون مع جلسائهم فيما يحتاجون إليه من أمرهم، أو في علم، ولا يصغون إليهم؛ لأنه لغو”.
وكان إبراهيم النخعي يتكلم والإمام يخطب زمن الحجاج، وكذلك نقل الشاطبي عن العز بن عبد السلام قوله إن “الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة”.
هذه المواقف التراثية المتشددة تجاه أدعية الخطباء للحكام من فوق المنابر كانت تدفعني كثيرًا للتفكير في علاقة علماء الدين ورجاله والسلاطين، لا سيما في عصرنا هذا. لماذا نجد كثيرًا من الدعاة الإسلاميين ورجال الدين المسيحي في عالمنا العربي؛ من أسرع الشرائح سقوطًا في بئر النفاق؟ وبدلًا أن يكون نفاقه على أرضية المبالغات السياسية والإقتصادية، تجده يمدُّ يده إلى جرابه الشرعي فيبدِّد رصيده تحت أقدام الحاكم.
“التوحيد” فكرة غيبية من خارج هذا العالم، وتطلب من الموحد أن يضع الحكام والطبيعة في إطار العبودية، وألّا يُضيع أي جزء من طاقة الخضوع والرهبة من أجل مخلوق.
عندما تتأمل لغة التبجيل والتشبيه بالأنبياء التي تُضفى على الحاكم، والمعجزات التي ترتقب خطواته، وأن ثمة يدًا خفية دفعت به على مسرح الأحداث، وأنه ليس أمرًا طارئًا، ولكن ضرورة جاءت على قدر، كل ذلك يكشف أن شيئًا ما في طاقة الإيمان احتُجز في الأرض.
وأكثر ما يلفت في الأمر أن بلادنا – التي تعج بالأديان والمذاهب – نجد المقدَّس السماوي فيها يفرق بين رجال الدين الإسلامي والمسيحي، لكننا نجد أن المقدَّس الأرضي جمع الكثير منهم في محراب واحد؛ هو محراب الرئيس. فعالِم الدين إذا كان بجوار الحاكم فهو كاهن، وإذا كان بين الناس فهو فقيه.
لفت نظري أن ابن القيم في “القصيدة النونية” قد لاحظ في زمنه نمطًا من المماهاة بين الله والسلطان، حيث خلع البعض من أهل الدين تصوراتهم عن السلاطين – من حشم وحجاب ووسطاء وأبهة – على الله سبحانه، فتصوروا أنه خاضع لتلك التصورات مثل سلاطينهم. كان ابن القيم يقصد تنزيه الإله وتحرير العقائد من السلطان، ولكنه في العمق كان يقصد أيضًا تحرير السياسة من نزعات التقديس الإلهي.
إذا كان التوحيد ليس من عمل الإنسان فإن الوثنية من عمل يده، وهي لا تظهر بقرار علوي بل تنشأ من أسفل (أي من إرادة الناس).
وهذا التماثل الذي ينعقد في ذهن البعض بين الله والسلطان ربما يحدث بلا وعي حقيقي، فيصوِّر علاقات الإنسان بالله، التي قوامها المحبة والخوف والرجاء والعمل الصالح، لتصبح محايثة لعلاقة الإنسان بالسلطة والرؤساء؛ تقوم على الإكراهات والجبر والرياء.
وقد يكون ذلك سببًا حقيقيًا في تعميق التسلّط الديني والسياسي معًا، وطريقًا مؤديًا لخلق نموذج من الإله السياسي يسيطر على ذهن العابد والمواطن في آنٍ واحد، ليس هو الله سبحانه المنزَّه، وليس هو السلطان البشري المدنَّس.
لماذا ينهزم التوحيد؟
برأي بعض الفلاسفة ليس الإنسان حرًا في أن يؤمن ويتخذ له دينًا أو مثالًا أعلى قد يكون هواه؛ كما يقول القرآن. الدِّين قدر الإنسان، ولكن التوحيد الإلهي في تجربة الأديان قام بتأدية رسالة محددة: أن على الإنسان ألّا يخون ذلك القدَر، وألّا يبدِّد طاقة الإيمان والخشوع والجلال التي يفترض أن يمتلئ بها المؤمن أمام الله، ويذهب بها إلى أصنام أرضية أو إلى رؤساء وحكام وأحزاب ومشاهير.
عالِم النفس الشهير “أريك فروم” – وهو ألماني عايش الحربين العالميتين – استوقفته ظواهر امتلاء الجماهير بالقداسة والإعجاب من شخصيات مثل هتلر وستالين، وكذلك ظهور أفكار أقرب للديانات مثل النازية والستالينية والشيوعية وغيرها، وتوصَّل إلى أن هذا السقوط وراءه إيمانٌ مغترب، وديانات أرضية، حلَّت محل التوحيد.
يقول فروم: “إن الأوثان يمكن أن تكون تمثالًا لإله، دولةً، كنيسةً، شخصًا، أو ملكية. إن الوثنية تبدل موضوعاتها”.
أريك فروم ملحد لا يحكم على الناس حكمًا دينيًا بالإيمان والكفر، لكنه يُحلِّل جذور الإستبداد من منظور عِلم النفس، ويحاول أن يشرح لماذا تسقط شعوب ما صريعة تقديس الحكام، وتمتنع أخرى؟
ملكية الأشياء يجب أن تكون بيد الإنسان لا في قلبه، لأنها إذا دخلت القلب سيطرت عليه وتسيَّدت، وحينئذ تكون الأشياء أكبر من الإنسان.
في رأي “فروم” أن ثمة عودة للوثنية القديمة في صورة سياسية، والوثنيات تعلو عندما يتيه التوحيد، ثم يُحلِّل فكرة الوثنية تحليلًا عبقريًا، فهي ليست التعدد الإلهي -أي الشرك- ولكن الوثنية هي أن يصنع الإنسان من عمل يديه أشياء يقوم بعبادتها.. “أتعبدون ما تنحتون؟!”، أشياء على الطريق كالحجارة نهَبُها كل أحلامنا وعواطفنا وقوانا، ثم نعبدها بعد أن نكون قد أفلسنا تمامًا من أي معنى أو قيمة داخلية. كان عمر بن الخطاب يضحك على تمثال العجوة الذي كان يصنعه ثم يعبُده؛ وإذا جاع أكله.
وتزداد لذة الشعوب بالعبودية كلما تمادى الحاكم في الأحدية والفردانية المطلقة، وأطاح بحكم الدستور والقانون، وانتحل صفات الله ليتخلق بالقوة والجبروت والعظمة، وهذه صفات عندما تتجسَّد تنزع من الشعب قوى التعبد والتبتّل، وتصرفها في مجاري الإستبداد.
تحب الجماهير أن ترى زعيمها عظيمًا، مهابًا في مواكبه، في ملابسه، في الشِعر والتراتيل والألحان، فيما يخلع عليه من أوصاف العظمة، في شبحه الذي يحتجز الصور والميادين، هي متعة العبودية، ولذة الطاعة.
كان “هيجل” يرى أن هذه النزعة التأليهية للحكام تجعل الإيمان بالله يفقد جدواه.
وإذا كان التوحيد ليس من عمل الإنسان فإن الوثنية من عمل يده، وهي لا تظهر بقرار علوي بل تنشأ من أسفل (أي من إرادة الناس)، ولعلَّ هذا سر غزارة الإنتاج الإسلامي الذي يتجه إلى الجوهر الإنساني، فيدور حول الإخلاص، والتحذير من الشرك الخفي وعبادة المال والشهرة والسلطة، وكذلك ملكية الأشياء التي يجب أن تكون بيده لا في قلبه، لأنها إذا دخلت القلب سيطرت عليه وتسيَّدت، وحينئذ تكون الأشياء أكبر من الإنسان. ويصبح الإيمان -الذي كان وسيلة الإنسان للتحرر من الأشياء- هو نفسه طريقًا للوقوع في عبوديتها.
لماذا نجد كثيرًا من الدعاة الإسلاميين ورجال الدين المسيحي في عالمنا العربي؛ من أسرع الشرائح سقوطًا في بئر النفاق؟
قصة انتكاسة التوحيد إلى الوثنية السياسية مشهورة في الكتب المقدسة. ويحكي القرآن عن بني إسرائيل، الذين خرجوا مع موسى من أسْرِ عبودية فرعون، حيث حررهم الله، ولكنهم لم يتحملوا عبء التوحيد، ولا أفكار الأحدية الغيبية التي أنقذتهم من عبادة الفرعون.
تحدث القرآن أن وثن الزعيم لم يَمُتْ في الضمير، وأن الدِّين البدائي اختلط بدمهم، فبعد أن تجاوزوا البحر طلبوا من موسى أن يقيم لهم صنمًا، قال القرآن: ” وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ”، أي أن شيئًا ما وثني كمن في اللاشعور عند بني إسرائيل .
ويوضح “أريك فروم” أن مبدأ التوحيد حرّر الإنسان من أسر الرموز الصنمية، أو الزعامة التي يصنعها ويهتف باسمها؛ لأن التوحيد فكرة غيبية من خارج هذا العالم، وتطلب من الموحد أن يضع الحكام والطبيعة في إطار العبودية، وألّا يُضيع أي جزء من طاقة الخضوع والرهبة من أجل مخلوق، خصوصًا إذا كان من صنع يديه؛ إذ يجب أن ينصرف الإيمان إلى طريقه السماوي.
يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني : “كل من اعتمدت عليه فهو إلهك، وكل من خفته ورجوته فهو إلهك، كل من رأيته في الضر والنفع ولم تر الحق عز وجل مجري ذلك على يديه فهو إله”.
مختارات من كلامه
قال : طِر إلى الحق بجناحى الكتاب والسنة.
وقال: أخرجوا الدنيا من قلوبكم إلى أيديكم فإنها لا تضرُّكم.
وقال : الاسم الأعظم أن تقول الله وليس في قلبك سواه.
وقال : كونوا بوَّابين على باب قلوبكم ، وأدخلوا ما يأمركم الله بإدخاله، وأخرجوا ما يأمركم الله بإخراجه، ولا تُخلوا الهوى قلوبكم فتهلكوا.
وقال : لا تظلموا أحداً ولو بسوء ظنِّكم فإنَّ ربَّكم لا يجاوز ظلم ظالم.
وقال : كلَّما جاهدتَ النفسَ وقتلتها بالطاعات حييت وكلَّما أكرمتها ولم تنهها في مرضاة الله ماتت قال وهذا هو معنى حديث رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.
وقال : ليس الرجل الذي يُسلّم للأقدار، و إنما الرجل الذي يدفع الأقدار بالأقدار.
وقال : اعمل الخير لمن يستحق ولمن لا يستحق و الاجر على الله.
وقال : فتشت الأعمال كلها ، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام ، أود لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع .
وقال : لا تثق بمودة إنسان حتى ترى موقفه منك أيام الشدة .
وقال : ثلاث امور تضيّع بها وقتك: التحسّر على ما فاتك لأنه لن يعود، ومقارنة نفسك بغيرك لأنه لن يفيد، ومحاولة إرضاء كل الناس لأنه لن يكون
وقال : إذا ملأت عقلك بصغائر الأمور فلن يبقى فيه مكان لكبارها فالعقل كالحقل إن لم تتعاهده بالنباتات الجيدة نمت فيه الحشائش الضارة.
وقال : علامة إخلاصك أنك لا تلتفت إلى حمد الخلق ، ولا إلى ذمهم ، ولا تطمع فيما في أيديهم ، بل تعطي الربوبية حقها ، تعمل للمنعم لا للنعمة ، للمالك لا للملك ، للحق لا للباطل .
وقال : إن الطيور لا تطير الا في سرب يشبهها ، فابحث دائماً عن سربك حتى تطير بحرية ، فمن كان مثلك سيحملك إن كسر جانحك ، أما من ليس من سربك فسيأكلك إن رآك ضعيف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق