سليم عزوز
في مثل هذا اليوم، ومنذ ثلاث سنوات، كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، والتي مثلت هزيمتها نهاية للانقلابات العسكرية، وأعادت ترتيب الأمور داخل الجيش بما ينهي هذه المرحلة في تاريخ هذا البلد. فقد صار الجيش من مؤسسات الدولة، وليس دولة فوق الدولة؛ يتصرف في البلاد تصرف المالك في ما يملك.
كنت قد علمت بأمر الانقلاب مبكراً، ومن خلال ما كان يكتبه أحد الصحفيين العرب، ممن يعملون في قناة "الرائد" الليبية، والتي كانت وقتئذ تبث إرسالها من إسطنبول، حيث كان زميلنا يكتب على صفحته على "الفيسبوك"، متسائلاً: ماذا يحدث؟ وقال إنه يشاهد وجوداً للجيش والشرطة في وقت واحد في الشوارع، وأنهما في حالة تنمر، على النحو الذي لا يمكن له فهمه.
على الفور تواصلت مع أصدقاء مصريين يقيمون في إسطنبول، فلم يلفت انتباههم شيء. أحدهم استدرك: إنه لأول مرة يشاهد مدرعات الجيش في الشوارع، لكنه لا يعتقد أن هناك أمراً غريباً.
هناك إشارات بدأت تصدر تشير إلى أن الأمر ليس طبيعياً، وأن هذا النزول إنما يؤكد أن تركيا تستقبل انقلاباً عسكرياً جديداً، وعندئذ اتصلت بزميلنا الكاتب السوري الراحل عبد الله عبد اللي، وكان يومئذ في أنقرة، وإذ أكد أنه الانقلاب، فقد سلم بأنه عاصر انقلابات سابقة في هذا البلد، ويستطيع القول إنه لا انقلاب يفشل هنا.
عندما علمت بنزول الجماهير، وقبل رسالة أردوغان، كان بداخلي إحساس بأن احتمال فشله قائم
مشهد مصري متكرر:
ومع ذلك، فعندما علمت بنزول الجماهير، وقبل رسالة أردوغان، كان بداخلي إحساس بأن احتمال فشله قائم. صحيح أنه مشهد شاهدناه في مصر بعد الانقلاب العسكري، لدرجة أن محافظات كاملة لم يعد فيها وجوداً للشرطة ولأجهزة الأمن، حتى في أقسام الشرطة ومديريات الأمن، إلا أنني كنت على يقين بأن الأمر مختلف في الحالة التركية، فليس هناك تنظيم يتدخل في اللحظة الحاسمة للسيطرة على أداء الناس، الذي يضعف بالتوجيه، ويفشل بالأوامر التنظيمية!
في مثل هذا اليوم وبعد اثني عشر يوما من وقوع الانقلاب العسكري في مصر، جاءت حشود من الصعيد إلى القاهرة، فلم تذهب بعيداً، وإنما اعتصمت في ميدان رمسيس، بالشكل الذي من شأنه أن يشل الحركة، فالمكان هو "صرة البلد"، لكن التعليمات صدرت لهم بالقدوم إلى ميدان رابعة العدوية، فيسهل استهدافهم في يوم الفض!
كان الإعلام هو أقوى ما في مشهد الإعلام التركي، ففي وقت واحد انطلقت الآلة الإعلامية لتقود الإعلام الآخر، وتفيد بأن الانقلاب قد وقع، وكانت القيادة في هذه الليلة لقناة "العربية" و"سكاي نيوز عربية"، وفي السوشيال ميديا كان هناك على خط النار؛ من يروجون لنفس الرسالة من شخصيات معروفة بانحيازها ضد تركيا وولائها للمحور الإقليمي للثورة المضادة: مأمون فندي نموذجا.
كان الإعلام هو أقوى ما في مشهد الإعلام التركي، ففي وقت واحد انطلقت الآلة الإعلامية لتقود الإعلام الآخر، وتفيد بأن الانقلاب قد وقع
ولم يكن أداء قناة الجزيرة مختلفاً، فقد بدا لي أن مراسلها يقبع في مكتبه يشاهد قناة "العربية"، و"سكاي نيوز"، وأقر المذيع "الآن وقد نجح الانقلاب العسكري"، فقد كانت حالة من التسليم الكامل، ربما سببها هي الهزيمة التي لحقت بنا في مصر، فلم يكن لدى أحد القدرة على استرداد العزيمة الخائرة!
ترويج المخدرات:
كنت أكتب أن القصة لم تتم فصولاً، فيكون الرد ليس من المعسكر الإماراتي والسعودي، ومن أنصار عبد الفتاح السيسي في مصر، ولكن ممن هم معنا في معسكر رفض الانقلاب، الذين كانوا يطلبون مني ألا أروج للمخدرات، وألا أبعث الأمل الكاذب في النفوس، خوفاً على المشاعر الرقيقة لمعسكرنا، الذي بعنا له الوهم بالقول بأن الانقلاب يترنح، فإذا به يستمر!
لم أكن أنا من قال إن الانقلاب في مصر يترنح، لكني مع هذا لست ضد هذه المقولة المنسوبة للدكتور محمد الجوادي، فكيف لمن رأى الملايين في الشوارع ألا يستقر في وجدانه أن الانقلاب يترنح، وأن هناك خطة لها موعد محدد لساعة الحسم؟ لكن تكمن المشكلة أن القائل لا يدرك طبيعة من يوجهون حركة الجماهير، فبعد إرهاقها في الخروج المتكرر، انتهى الأمر إلى لا شيء، ليس لقوة الانقلاب، ولكن لضعف خصومه.
لم أكن أنا من قال إن الانقلاب في مصر يترنح، لكني مع هذا لست ضد هذه المقولة المنسوبة للدكتور محمد الجوادي، فكيف لمن رأى الملايين في الشوارع ألا يستقر في وجدانه أن الانقلاب يترنح
كان أردوغان مختفياً، وكانت الآلة الإعلامية تروج أنه يطلب اللجوء إلى ألمانيا، بحسب مصدر عسكري أمريكي، هكذا أذاعت قناة "العربية" و"سكاي نيوز عربية"، لكن بظهور أردوغان في رسالته عبر الهاتف الجوال، وهو معلق في طائرته بين السماء والأرض ويطلب من الجماهير أن تواجه كل مدرعات الجيش في الشارع، وأن يزحفوا إلى المطار لأنه سيكون هناك، تغير كل شيء، رغم أن الرسالة استخدمت للسخرية من جانب الإعلام المعادي!
وعلى إثر هذا انتقلت الجزيرة للشارع، ليرى العالم حشود الأتراك الذين نزلوا ليواجهوا هذا الانقلاب، عندئذ ساد اليقين بأن الشعب قادر على دحر الانقلاب، رغم أن القضاء عليه لم يتم ليلتها، وظلت هناك جيوباً تشتبك معها الجماهير لليوم التالي.
إلى الآن لا تزال هناك أسرار لم يتم سبر أغوارها، هي الخاصة بالارتباطات الخارجية لقادة الجيش الذي قاموا بهذا الانقلاب، فهل كان من المنطق أن يحتشد إعلام الثورة المضادة في الإمارات على قلب رجل واحد في وقت واحد، ومعهم مغردون على مواقع التواصل الاجتماعي، يبثون رسالة واحدة ويسيرون في اتجاه واحد؟!
هل كان من المنطق أن يحتشد إعلام الثورة المضادة في الإمارات على قلب رجل واحد في وقت واحد، ومعهم مغردون على مواقع التواصل الاجتماعي، يبثون رسالة واحدة ويسيرون في اتجاه واحد
"والذي زاد وغطى" هو أداء وكالة عريقة بحجم "رويترز" في هذه الليلة، التي كانت تبث أخباراً منسوبة لقادة في الجيش التركي، دون أن تسميهم، فمن هم هؤلاء القادة وأين التقى بهم مراسلها الهمام؟!
لقد بثت "العربية" و"سكاي نيوز" بيان الانقلاب، الذي لم يثبت إلى الآن أنه أصدر بيانات صحفية، والأمر ليس له إلا تفسير واحد، هو أن هذه البيانات صدرت بالنيابة عنه من إعلام الثورة المضادة، أو أنها أعدت في وقت سابق من قبل جماعة الانقلاب لحين إذاعتها في هذا التوقيت، بما يشير إلى أن الانقلاب قد نجح، وفي الحالتين فإن الأمر يمثل قرينة بأن هذه الفضائيات جزء من الانقلاب، وأنه تم بتخطيط من ملاكها.
ولا ضير، فما هو محل رويترز من الإعراب هنا وقد نشرت معلومات منسوبة لمصادر عسكرية، في الوقت الذي كان فيه الانقلابيون يطارَدون في الشوارع؟ وإذا كان القنوات الأخرى تخلصت من أرشيفها، فلماذا لم تعتذر هذه الوكالة العالمية حفاظاً على مصداقيتها؟!
إن الانقلابيين من العسكر، وجماعة فتح الله غولن، ليسوا أكثر من الجيفة الطافية على سطح الماء، لكن إلى الآن لا نعرف باليقين ارتباطات الانقلاب الدولية والإقليمية.
ومهما يكن فقد كانت محاولة انقلابية طوت بها تركيا صفحة الانقلابات العسكرية تماما.
فلا نامت أعين الجبناء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق