أفكار للبيع.. قرب يا جدع!
عبدالله الطحاوي
أذكر أنني في جولة بأحد معارض الكتاب -وفي جناح يضم دار نشر معروفة- سألت عن كتب تتعلق بفكر المعتزلة، فبادرني البائع: لماذا؟ قلت له: أفكر في إعداد كتاب عنهم، فرد البائع سريعا: نطبعه لك.. إننا مهتمون جدا بفكر المعتزلة. تعجبت من سرعة الاتفاق الذي تم إبرامه بين كاتب في طور التفكير، ودار نشر مرموقة. شكرت للرجل هذا العرض الكريم، ونظري معلق بعناوين من الكتب المهتمة بالحركات الإسلامية والإرهاب تملأ أرفف الدار.
قفزت في ذهني أفكار ميشيل فوكو المفكر الفرنسي، الذي كان يرى أنه بجانب الانشغال بمادة كتاب أو أي خطاب معرفي، علينا أن ننتبه للوظيفة والمهام المطلوب أن يؤديها، وأنه من المهم فهم الشبكة والقوة التي تدفع به وتنتجه وتروّجه، فربما أدى ذلك الى إعادة النظر في الحقيقة والخلاصة التي انتهى إليها الكتاب: ربما لا تكون الحقيقة حقيقة فعلاً.. ربما تكون شيئا آخر.
سلطان السوق
لأبي منصور الثعالبي لفتة موحية قد تكشف بعض الأسباب التي تدفع بظهور فكرة وغياب أخرى، فقد فسّر الرجل -في كتابه “لطائف المعارف”- سر ذيوع بعض الأفكار وكثافة انتشارها في لحظة زمنية ما بوجود قوة سياسية محركة؛ حيث أرجع انشغالَ الناس بالشعر في زمن عبد الملك بن مروان إلى أنه كان يستحسنه، وعندما أحب الوليد بن عبد الملك العمارة خاض الناس في رصف الأبنية، أما سليمان بن عبد الملك فكان رجلا مرحا، فشاع في عصره العشق، وكذلك أحب الناس الزهد والصيام في زمن عمر بن عبد العزيز، وولعوا بالتجارة في أيام هشام بن عبد الملك. وختم مولانا الثعالبي بمقولته اللافتة: “إن الناس على دين ملوكهم والسلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها”.
الكاتب القديم انتبه لشبكة السلطة التي تسعى لنشر بعض الأفكار، وربطها بين السوق والمعرفة والسلطة، وأن حضور فكرة ما يعني أن هناك قوة وراء صعودها، وعندما تجد طلبًا مرتفعا على سلعة فكرية معينة ويُلَحّ عليها، فقد يكون هذا لاعتبارات سوقية صرفة، ولشيوع نمط استهلاكي لنوع من المعرفة.
ليس شرطًا أن تنتشر فكرة ما لاعتبارات الحقيقة أو الصح والخطأ.. بل قد يكون ذلك لإرادة الحقيقة؛ كما يقول فوكو.
إنها إرادة تفرض حقيقة معينة، إرادة قد تجعل من المعرفة شيئا غير منزه، الحقيقة ربما تكون آخر شيء يفكر فيه سوق البحث والفكر والأدب، خصوصا في العالم العربي حيث تخضع أسواق المعرفة لسيطرة بعض السلطويات والاحتكارات المالية، ومعايير لا تسمح بالتنافسية العادلة بين الأفكار والمعرفة، وقانون الجدل بين السلعة الجيدة والسلعة الرديئة.
خذ مثلا تجديد الخطاب الديني؛ ابن عربي والتصوف والحلاج، الإسلام السياسي، الإرهاب، كلها رؤوس أفكار وسلع معرفية ازداد الطلب عليها بقوة مؤخرًا، وإذا بحثت في الأمر فستجد أن سر هذه الانتعاشة كونها تلعب دورا في مواجهة التيارات الإسلامية.
وقد تلاحظ أن طبع كتب الوهابية والتراث السلفي شهد تطورًا كبيرًا في فترة معينة، والسبب في ذلك إرادة الشبكات والأسواق وقرارها المعرفي.
وعادة لا تكتفي الأسواق فقط بتلقي الإنتاج المعرفي، بل تتدخل مقدمًا في قواعد الكتابة والخلاصة العامة المطلوبة، بل إن صرامة معايير السوق أحيانًا ما تجعل اسم وشخص المؤلف بلا معنى، السوق يُميت المؤلف، والنتائج والخلاصات شبه معروفة ومتوقعة وسابقة التجهيز، الحقيقة والمؤلف يلعبان دور المتحدث الرسمي باسم الشبكة المنتجة للمعرفة، وليس باسم الحقيقة؛ كما يقول فيلسوفنا فوكو.
ابن عربي يواجه سيد قطب
أثناء قراءة لبحث عن ابن عربي الصوفي وجدت الكاتب يتحدث - في مداخل عدة من الدراسة عن بعض أحداث العنف والإرهاب العالمية، وعن سيد قطب، واستشعرت أن الباحث كان واقعا تحت ضغط سوقي يضطره لتقديم خلاصة ما تجعل ابن عربي في مواجهة الجماعات الإسلامية، كان مطلوبا أن يقول إن ابن عربي هو البديل.
وهناك باحثون نوهوا كثيرًا بسطوة السوق، وخاضوا صراعًا من أجل تقديم معايير الحقيقة والنزاهة العلمية على ما عداها من اعتبارات، كتب الباحث المعروف جورج قرم –في مقدمة كتابه “التبعية الاقتصادية” الصادر عام 1980- عن نتائج دراسته التي ختمت بدعوة صريحة إلى إعادة النظر في طرق عمل البنك الدولي، وكذلك المصارف المحلية التي رأى أنها أداة لتعميق التبعية والاستغلال. وذكر أن تلك النتائج لم تعجب المموِّل وهو إحدى هيئات الأمم المتحدة التي طالبته بإعادة النظر في تلك الخلاصات، ولكنه رفض وحاول نشرها في فرنسا فتم رفضها من قبل مؤسسات معنية بشؤون العالم الثالث، وأخبره أحد الناشرين أنه غير ملمّ بقواعد علم التنمية، وأن الدراسة تحمل عداء للغرب.
الكاتب المرموق خرج من شبكة العلم وسوق العالم بسبب أنه امتثل للحقيقة المؤمن بها، ولم يمتثل لمعايير السوق وشبكات المصالح التي شككت في قدرته على إنتاج الحقيقة أو الحقيقة التي يريدونها. وليس كل الباحثين مثل جورج قرم، فكثير من الباحثين لن يتاح لهم العيش والأجر إلا بمسايرة الأسواق المعرفية، وحتى يستمر الواحد منهم في الكتابة عليه أن يراعي قواعد العرض والطلب ورغبات الممول.
يحكي ميشيل فوكو قصة طريفة لعالِم الوراثة غريغور مندل حينما قال الحقيقة واستخدم منهجًا علميًا في التحقق، ولكن نتائجه لم تلق القبول والموافقة لدى السوق أو الأكاديميين من دراسي علوم الأحياء في عصره، فتم استبعادها واعتُمدت نظرية أخرى غير علمية وغير حقيقية وهي نظرية ويليام شليدون، لأنها كانت تندرج في الخطاب البيولوجي وتمثل إرادة السوق في تلك المرحلة. وهكذا تم رفض حقيقة مندل لصالح خرافة شليدن، لأنه لا يكفي إشهار الحقيقة المجردة في حال اصطدامها مع السوق.
ولا توجد مشكلة في أن يكون للمعرفة سوق، فالكتابة والطباعة والنشر والمؤتمرات والجوائز كلها تستدعي بالضرورة وجود سوق واقتصاد، هذا ضروري طالما أن قوانين وقواعد السوق المعرفي منضبطة، ولهذا السوق آلياته المتوازنة التي تسمح بالتوازن بين العرض والطلب، وتحارب الاحتكار. لكن هناك خلل حادّ في أسواق المعرفة بالعالم العربي، خلل لا يسمح سوى بإنتاج حقائق معينة قد لا تكون هي الحقيقة، بل قد تكون الحقيقة ممنوعا عليها أن تمرّ داخل السوق والشبكات محكمة الفتح والإغلاق.
مدفع نابليون وأفكار فولتير
هذا الخلل في سوق الأفكار داخل السوق العربي له إرث تاريخي، يمكن ملاحظته في اللقاء الأول بين المعرفة المحلية والمعرفة الوافدة، ولم يكن النزال السوقي بينهما شريفًا؛ فالفكر الوافد لم يدخل الأسواق المحلية إلا عبر القوة المسلحة؛ كما يقول طارق البشري.
حيث دخل الفكر الوافد إلى السوق في مصر مع مقْدم الاستعمار والأساطيل والمدافع، والإلغاء القسري للأنظمة الفكرية والمعرفية القديمة، لم يكن الحوار مع فولتير ولكن أيضًا مع مدفع نابليون.
لم يكن الفكر المستورد يحتمي بالقوة والمدفع وهو يقتحم الأسواق فحسب، بل لجأ أحيانا إلى ممارسة نوع من الغش التجاري والحيل لترويج بضاعته بعيدًا عن الحوار والإقناع. فقد ذكر زكي نجيب محمود أن جماعة من علماء الحملة الفرنسية استدعَوا كبار علماء الأزهر جماعة بعد جماعة ليطلعوهم على عجائب العلوم الجديدة، ومن ذلك مثلاً أن يوقفوهم صفًا مشتبكي الأيدي جارًا مع جاره، ثم يمسوا الواقف بسلك مكهرب فتسري رعدة الكهرباء في جميعهم، فأما علماء الأزهر فيأخذهم العجب، وأما علماء نابليون فيستبد بهم الضحك.
السوق الموازي
ظل هذا النزال غير النزيه بين الوافد والمحلي سمة عامة، طوال العقود الماضية، و لعل ذلك هو الذي جعل السلع المعرفية لكلا الخطابين تلجأ إلى شبكات داعمة، تتيح فقط نشر أفكارها وتمنع الأخرى.
وإذا كان الكثير من الأفكار الوافدة وجد الدعم من الأنظمة الثقافية والمعرفية الرسمية والحكومية العربية، فإن الفكر المحلي تحرك من خلال أسواق موزاية أو سوق سوداء، ومع ظهور الحركات الإسلامية تكونت شبكات داعمة، انطلقت من المساجد والزوايا ودور نشر ووعظ، وكلها تحاول أن تقدم جانبا آخر من الحقيقة الممنوعة، والمراقبة من قبل الأسواق الرسمية، و تحاول مكافحة السوق العلوية، خصوصًا عندما كانت تسعى لإنتاج ما يسمى البديل الاسلامي على صعيد الأدب والفن والفكر، أو إنتاج بديل للحقيقة المروية في الخطاب الرسمي، ولعلها كانت تقصد بديل الحقيقة.
هذا الخلل في سوق الأفكار داخل السوق العربي له إرث تاريخي، يمكن ملاحظته في اللقاء الأول بين المعرفة المحلية والمعرفة الوافدة، ولم يكن النزال السوقي بينهما شريفًا؛ فالفكر الوافد لم يدخل الأسواق المحلية إلا عبر القوة المسلحة؛ كما يقول طارق البشري.
حيث دخل الفكر الوافد إلى السوق في مصر مع مقْدم الاستعمار والأساطيل والمدافع، والإلغاء القسري للأنظمة الفكرية والمعرفية القديمة، لم يكن الحوار مع فولتير ولكن أيضًا مع مدفع نابليون.
لم يكن الفكر المستورد يحتمي بالقوة والمدفع وهو يقتحم الأسواق فحسب، بل لجأ أحيانا إلى ممارسة نوع من الغش التجاري والحيل لترويج بضاعته بعيدًا عن الحوار والإقناع. فقد ذكر زكي نجيب محمود أن جماعة من علماء الحملة الفرنسية استدعَوا كبار علماء الأزهر جماعة بعد جماعة ليطلعوهم على عجائب العلوم الجديدة، ومن ذلك مثلاً أن يوقفوهم صفًا مشتبكي الأيدي جارًا مع جاره، ثم يمسوا الواقف بسلك مكهرب فتسري رعدة الكهرباء في جميعهم، فأما علماء الأزهر فيأخذهم العجب، وأما علماء نابليون فيستبد بهم الضحك.
السوق الموازي
ظل هذا النزال غير النزيه بين الوافد والمحلي سمة عامة، طوال العقود الماضية، و لعل ذلك هو الذي جعل السلع المعرفية لكلا الخطابين تلجأ إلى شبكات داعمة، تتيح فقط نشر أفكارها وتمنع الأخرى.
وإذا كان الكثير من الأفكار الوافدة وجد الدعم من الأنظمة الثقافية والمعرفية الرسمية والحكومية العربية، فإن الفكر المحلي تحرك من خلال أسواق موزاية أو سوق سوداء، ومع ظهور الحركات الإسلامية تكونت شبكات داعمة، انطلقت من المساجد والزوايا ودور نشر ووعظ، وكلها تحاول أن تقدم جانبا آخر من الحقيقة الممنوعة، والمراقبة من قبل الأسواق الرسمية، و تحاول مكافحة السوق العلوية، خصوصًا عندما كانت تسعى لإنتاج ما يسمى البديل الاسلامي على صعيد الأدب والفن والفكر، أو إنتاج بديل للحقيقة المروية في الخطاب الرسمي، ولعلها كانت تقصد بديل الحقيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق