الأحد، 14 يوليو 2019

الذئب المُعلِّم

          الذئب المُعلِّم         

إحسان الفقيه
عن أبي سعيد الخدري قال: “عدا الذئب على شاة، فأخذها، فطلبه الراعي، فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي، فقال: يا عجبي ذئب مُقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ 
محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب، يخبر الناس بأنباء ما قد سبق!..” 
أخرجه ابن حبان والحاكم على شرط مسلم وصححه الألباني.

عجيبٌ أمر ذلك الذئب، يوم أن أنطقه الله، نطق بالحكمة، واستدعى ما يغيب عن كثير من الناس تصورًا وسلوكًا، وهو الحيوان غير المكلف، لكن أرادها الله عبرةً وعظة لمن يتذكر أو يخشى.


أول طرف الحكمة التي ظهرت في بيان الذئب المعلِّم قوله (ألا تتقي الله)، يعلم إنما ينتهي العبد عن إيذاء العباد والبهائم بوازع التقوى، يذكرنا بقول القرآن على لسان مريم رضي الله عنها لجبريل عليه السلام {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]، جاء في تفسير ابن كثير: “قَالَ أَبُو وَائِلٍ -وَذَكَرَ قِصَّةَ مَرْيَمَ-: قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَة”.
قد علم الذئب أن التقي ذو نهية، وأدرك أن تقوى العباد أمان للخلائق، وأن أثر المعاصي يمتد إلى تلك البهائم التي لا تعقل شيئًا، ولذا تستغفر للعلماء الصالحين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (وإن العالم ليستغفر له من في السموات و من في الأرض و الحيتان في جوف الماء) رواه أحمد وصححه الألباني 

قال الخطابي في معالم السنن: “إن الله قد قيض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعاً من المنافع والمصالح والارفاق فهم الذين بينوا الحكم فيها فيما يحل ويحرم منها وارشدوا إلى المصلحة في بابها وأوصوا بالإحسان إليها ونفي الضرر عنها فألهمها الله الاستغفار للعلماء مجازاة على حسن صنيعهم بها وشفقتهم عليها”.
وقد أورد ابن القيم في الجواب الكافي قول مجاهد: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ، وقول عكرمة: دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حَتَّى الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ، يَقُولُونَ: مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ.
ثم يقول الذئب المعلم (تنزع مني رزقا ساقه الله إليّ)…
لدى ذاك الذئب يقينٌ بأن الرزق من عند الله تعالى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، يدرك منظومة الرزق: يقينٌ بأن له قسمًا ورزقًا كتبه الله، وأخذٌ بأسبابه وتحصيله، وتوكلٌ على من بيده الرزق، ونسبته إلى المنعم به.
كثير من الناس لا ترقى تصوراتهم عن الرزق إلى ذلك الذئب، فهم وإن كانوا يقولون باللسان أن الرزق من عند الله، إلا أن قلوبهم معلقةٌ بالإنسان الذي يدفع إليهم، وبعضهم يتعامل مع من يشاركه ماله سواء بنفقة واجبة أو زكاة مفروضة أو صدقة مستحبة، على أنه ينازعه في رزقه، بل ويتخوف إن تزوج أو صار له أولاد أن يقلّ ماله.
وترى بعضهم يتواكلون ولا يتوكلون، فينتظر الرجل منهم أن تمطره السماء ذهبًا، وهو قابعٌ في مكانه لا يبرح، إما بظنٍ فاسد أن التكسب مشغلةٌ عن طريق الآخرة، وإما بصفات سلبية غالبة عليه كالخمول والكسل.
فإن اتسعت لبعضهم الأرزاق وفتحت عليهم من زينة الدنيا، تلبسوا بالآفة القارونية، ونسبوا المال إلى جهدهم وبذلهم دون المنعم بها سبحانه {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص: 76، 78].
ويستمر الذئب المعلم في بذل العِبر، فيقول : “ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب، يخبر الناس بأنباء ما قد سبق!”.
يعطينا الذئب درسًا في حمل هم الدعوة إلى الله تعالى، فابتداءً يعترضه أمرٌ عظيم يتعلق بالطعام والذي يمثل غريزة حب البقاء لديه، لكنه مع ذلك لم ينشغل به عن استثمار الحدث في الدلالة على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكأنه قرأ في قصة يوسف عليه السلام الذي لم يشغله السجن والقيد عن القيام بوظيفة الدعوة إلى الله تعالى، وأحسن استثمار سؤال صاحبي السجن عن تأويل الرؤيا، فقال قبل أن يجيبهم عنها {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [يوسف: 39، 40].
وهذا الذئب لم ينشغل بأمره وأحسن استثمار تعجب الرجل من ذئبٍ يتكلم، فدله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجلس بين يديه ويتعرف على هذا الدين ويسير في ركب الإيمان.
ثم لا تزال عجائب هذا الذئب المعلم بنا، حتى توقفنا على مهارات الدعوة إلى الله التي أبداها، فمنها: أنه بنى موضوع الدعوة على الحدث الراهن، والذي كان دهشة الرجل العارمة من نطق الحيوان، فسار الذئب على ذات السياق في إبداء ما هو أعجب (محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب، يخبر الناس بأنباء ما قد سبق!)، فليت بعض الدعاة يقتربون في دعوتهم من واقع الناس وينطلقون من أزماتهم ومشكلاتهم وأحوالهم، ويربطون واقعهم بالدين، فأما الخطاب الإسلامي الذي ينفصل عن واقع الناس فهو أبعد ما يكون عن التأثير.
ومنها: عنصر التشويق الذي رعاه الذئب في الدعوة، فقال أولا (ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟)، فمن ذا الذي لا يود معرفة ما يفوق تكلُّمَ الحيوان دهشةً؟ ففتح ذهن الرجل وقلبه لقبول الكلام، وهذا عين ما فعله هدهد سليمان عندما تأخر إليه فسعى لتسكين غضبه وإنصاته للحديث من خلال تشويقه بمعرفة أمر لم يحط به علمًا، فقال لنبي الله سليمان {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22]، فأي شيء يعرفه ذلك الهدهد ولا يعرفه سليمان الذي عُلم منطق الطير وغاص له الجن في البحار وبنوا له ما يشاء؟
بعض الدعاة كأنهم لا هم لهم إلا إفراغ ما بصدرهم بمجرد البلاغ إعذارًا إلى الله، ولا يتخيرون الوسيلة الجاذبة لآذان المدعو والتي تفتح صدره لقبول حديث الداعية.
وفي قول الذئب (في يثرب) عظة في استيفاء الفوائد الممكنة، فلم يتركه للبحث عن مكان ذلك النبي الذي يحدث الناس بأخبار السابقين، وإنما دله على ما يفيده ليتوجه مباشرة إلى حيث النبي.
والمتأمل في مسلك النبي صلى الله عليه وسلم سيجد ذلك بوضوح، فلم يكن يكتفي بالجواب على السائل، بل كان يزيده من الفوائد، فيٌسأل صلى الله عليه وسلم (أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني.
وأخيرًا هل كان يدرك الذئب أهمية قراءة التاريخ والاعتبار بالأمم السابقة حين قال (يخبر الناس بأنباء ما قد سبق)؟
إن الرجوع إلى الماضي والوقوف عنده تدبرًا وفهمًا واعتبارًا وأخذًا منه للحاضر والمستقبل هو هدف من أهداف القرآن الكريم {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، فليست القصة للتسلية وإرضاء متطلبات النفس البشرية، وإنما هي للعبرة وربطها بالواقع والاستفادة منها، وما أحوج الأمة إلى الرجوع إلى الماضي ودراسته ليس هروبًا من مرارة الواقع والبكاء على أعتابه، إنما هي شعلة تُقتبس لإضاءة الطريق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق