الدرة
(( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ ))
الامام الشافعي
الجمعة، 19 يوليو 2019
الأسر
الخميس 5 ربيع الأول 1434هـ
الأسر
د. سلمان العودة
وسرد الرجل قصته في الثكنات البديلة، حيث يحتجز في أحدها أكثر من ألف وخمسمائة بوسني في المعسكرات الصربية التي يديرها الرفاق من الصرب، تحت رعاية الأمم المتحدة، لحين إيجاد ما يسمى بحق اللجوء السياسي لهم، وقضى غالبيتهم زمناً في معسكرات الاعتقال الكبيرة، قبل أن تطلق سراحهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ونُقلوا في قافلة مكونة من إحدى وثلاثين حافلة، حيث كانوا أول مجموعة كبيرة من السجناء الذين أطلق سراحهم بموجب شروط اتفاق بين المجموعات البوسنية المتحاربة، وهم أول من استطاعوا أن يتحدثوا بحرية عن التجربة المرة التي شاهدوها في معسكرات الاعتقال، إنهم يصفون جحيم المعسكر في منطقة الأرخبيل البوسنية التي يسيطر عليها الصرب، والتي كان يتم فيها التعذيب والإعدام، حتى أصبحت من المظاهر اليومية، وبالرغم من صعوبة أخذ روايات مستقلة، إلا أنها تعطي أغلب التفاصيل للدليل الذي يؤيد الاتهامات المنتشرة، عن أن القوات الصربية متورطة في أعمال وحشية ضد المعتقلين في المعسكرات، وغالبهم من الرجال الذين تسمح أعمارهم لهم بالانضمام إلى الجيش البوسني، بمعنى أنهم يتمكنون من القتال، وقد اعتقلوا لمنعهم من المقاومة ضد الميلشيا الصربية.
يقول أحد المسجونين: إن المعسكرات هي أماكن لا يتورع الحارس فيها عن أن يقتلك من أجل ساعة في معصمك، وإن الأماكن التي يجبر فيها المسجونون لجمع الموتى لا يستطيعون فيها الوقوف على الأرض؛ لشدة لزوجتها بفعل الدماء المتخثرة من جراح المسلمين.
ومنذ وصول الرجال المفرج عنهم إلى هنا في الأسبوع الماضي أصبحت الثكنات تعج بالمشاهد المبكية لالتقاء أفراد الأسر، ولكنها أيضاً كانت مدوية بالصرخات المفجعة للأقارب الذين علموا للتو أن أبناءهم وأزواجهم وآباءهم قد لقوا حتفهم.
في إحدى المرات وقعت مجزرة جماعية في معسكر في أحد السجون الذي يديره الصرب شمال غرب البوسنة، ليلة الرابع والعشرين من يوليو حسب رواية صانع أقفالٍ مسلم، ذكر أنه كان بداخل الغرفة في تلك الليلة، وقال: إنه بعد إطفاء الأنوار مباشرة قام الحراس الصرب بقتل عدد لا حصر له من المسلمين بأسلحة أوتوماتيكية، حيث كانوا مقيدين داخل حظيرة خانقة تعرف بالغرفة رقم ثلاثة، وأضاف الرجل قائلاً: إن الحراس كانوا يشتمون، ويمشون على أجسادنا ويجلسون على الرءوس ويخنقون كل من يتحرك، لقد مات أكثر من مائة وستين رجلاً في تلك الليلة.
فيما قال: ثلاثة من المسلمين الذين كانوا محتجزين في الغرفة المحاذية: إن خمسين آخرين من السجناء قد قتلوا في صباح اليوم التالي، بعد أن دخلت دورية جديدة من الحراس الصرب إلى الغرفة ثلاثة، للبحث عن الذين ما زالوا على قيد الحياة، وقد اختفى عشرة سجناء آخرين، ولم يرجعوا أبداً بعد أن أجبروا على حمل الجثث في الشاحنة، وغادروا المعسكر برفقة هذه الشاحنة المليئة بالجثث.
وقال صانع الأقفال المسلم: إن القتل استمر على الحائط الخارجي لعدة ليال، وأضاف: في الصباح يقومون بجمع بقايا القتلى من المخ والدماء وقطع اللحم في عربة يدوية يدفع بها جندي صربي، وفي كلا المعسكرين فإن أكثر من أربعمائة من السجناء يحشرون سوياً في غرفة خانقة، ويعتبر الضرب من المناظر اليومية كما يقول السجناء الذين أطلق سراحهم، ويقوم بالضرب في أوقات مختلفة أفراد من الشرطة الصربية ورجال مجهولون يتخفون في بزات للتمويه، ومدنيين صرب جاءوا من القرى المجاورة للمشاركة في عملية الانتقام.
ويروي شاب يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاماً في مدينة برجيدو البوسنية الشمالية: كانوا يضربوننا لحوالي نصف ساعة حتى يبدأ الواحد منا في نزيف الدماء، وكانوا يكسرون أضلعنا وأيادينا، ويقطعون الآذان والأنوف، وقال بعض السجناء في أومارسكا : إن الضرب يبدأ عندما ينتصف النهار وبعد أن يؤمروا بتناول طعامهم، وهو عبارة عن قدح من الأرز الفاسد، في زمن لا يقل عن ثلاث دقائق، يجبرون بعد ذلك على الرجوع إلى الصالة المزدحمة بالسجناء والمليئة بهم، والواقفين بين صفين من الحراس الذين يقومون بالضرب بعصي غليظة، ومواسير من الحديد، وخراطيم معدنية، وقالوا: إن أحد الحراس استخدم فأساً جبلياً لضرب السجناء بعنف أثناء مرورهم.
نعم هذا ما يفعله النصارى في زمن يسمونه زمن الحرية، وزمن الحضارة، وزمن المحافظة على حقوق الإنسان، وزمن العالم الذي أصبح قرية صغيرة يتسامع بكل حدث في أي مكان من العالم، وعلى مرأى ومسمع من الدول التي تتشدق بهذه الشعارات، وتتكلم عن حقوق الإنسان، فإن صحيفة غربية، لا يمكن أن تتهم بأنها محايدة، فضلاً عن أن تتهم بأنها متعاطفة مع المسلمين، بل إن عاطفتها مع النصارى ولابد، إن صحيفة غربية تنقل مثل هذه الحقائق، إذاً ماذا تتصور أن تكون الحقائق القائمة على سطح الواقع؟ لابد أنها أخطر من ذلك بكثير، هذا نموذج من جوانب المأساة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق