جلجامش العصر الحديث سلاح جديد يستهدف المسلمين
مُدونةً على اثني عشر لوحًا طينيًا، عبرت ملحمة جلجامش العصور والأزمنة منذ أن دُونت قبل أربعة آلاف عام وحتى يومنا هذا. ملحمة جلجامش هي ملحمة سومريّة يُعود تاريخ اكتشافها لعام 1853 في موقعٍ أثري بمدينة نينوى العراقية، حيث عثر على الألواح التي دُونت عليها الملحمة مكتوبةً باللغة الآكادية. وتُعد جلجامش أقدم قصّة كتبها الإنسان، ومن روائع الأدب، حيث أنها أكبر الملاحم التي عرفتها حضارات الشرق القديم. تُرجمت جلجامش إلى معظم اللغات الحيّة، فتعددت واختلفت ترجماتها بين طبعات اللغة الواحدة. تلك كانت جلجامش التاريخ، وهي بالتأكيد ليست ما يدور حوله تقريري هنا.
محرقة العصر الحديث
ما نحن بصدد الحديث عنه هي جلجامش أخرى، أو بإمكاننا تسميتها «جلجامش العصر الحديث»، ملحمتنا الحديثة لم تُدوَّن على ألواح طينية، وإنما صُنعّت في مصانع سييرا نيفادا، نعم! الشركة الأمريكية المتخصصة في صناعة الأجهزة الإلكترونية، والتي تعمل جنبًا إلى جنب مع وكالة الأمن القومي الأمريكية لكتابة ملحمة العصر الحديث، أو إن صحّت تسميتها «محرقة العصر الحديث».
تستخدم وكالة الأمن القومي الأمريكية نظام مراقبة حمل اسم “جلجامش” في الوثائق التي قام بتسريبها إدوارد سنودن وغيرها من الوثائق، وتستخدم الوكالة النظام كطريقة أساسية لتحديد الأهداف القادمة التي ستستهدفها ضربات الطائرات بدون طيار “الدرونز” التي تستخدمها الوكالة لتنفيذ عمليات الاغتيال للأهداف عالية القيمة التي تشكّل خطرًا -وفقًا لرؤية الوكالة- في اليمن، والصومال، وأفغانستان، وأماكن أخرى.
تحمل الدرونز الأجهزة التي تُمثّل النظام وتقوم بالطيران فوق المناطق المستهدفة، ويقوم الجهاز بتحديد الموقع الجغرافي الذي تتواجد به الهواتف المحمولة للمشتبه بهم بناءً على اعتراض النشاط الذي يقوم به الهاتف من اتصالات ومراسلات وغيرها، ثم يقوم الجهاز بتحديد بطاقات SIM التي تقوم بالنشاط المشبوه وتتبعها جغرافيًا وفقًا لنتيجة تحليل هذه البيانات، وذلك لضمان استهداف المشتبه بهم، حتى إذا قاموا جميعًا بإزالة هذه البطاقات من هواتفهم ووضعها في هواتف أخرى، حيث يعمل النظام على تحديد الموقع الجغرافي التي تعمل به بطاقة الـSIM الخاصة بالمشتبه بهم وليست الهواتف بذاتها.
وبعد تحديد البطاقات المستهدفة، تتمكن الوكالة من تنفيذ عمليات الاغتيال بغارات ليلية تشنها الدرونز على المكان الجغرافي الذي تتواجد فيه البطاقة التي تم تحديدها وتتبع نشاطها مسبقًا.
بشهادتهم: أنظمة اغتيال جماعية لا أداة قتل فردية
يقول براندون براينت، وهو جندي سابق في القوات الجوية الأمريكية وشارك في العديد من العمليات في العراق وأفغانستان واليمن إن هذا النظام تحوّل من أداة تستخدم لقتل “الإرهابيين” الذين يستهدفون القوات الأمريكية إلى أداة لقتل الكثير من الأبرياء نظرًا لاعتماده على النشاط الخاص ببطاقات الـSIM في فترة ما فقط، وليس على هوية الحامل الفعلي للهاتف الذي يحوي هذه البطاقة وقت تنفيذ الغارة!كما ألمح براينت إلى تمكّن بعض القادة في تنظيم طالبان من التحايل على نظام جلجامش عن طريق توزيع بطاقات SIMبشكل عشوائي على الوحدات، ومن ثم تبديلها بين بعضهم البعض، وبالتالي تصعب مهمة القوات على استهداف القادة من المستويات العليا نظرًا لتبديل البطاقات بشكل مستمر.وانتقد براينت إصرار إدارة باراك أوباما على أن برامج وأنظمة الاغتيال التي تشنها القوات تُنفّذ بأقصى درجات الدقة، على الرغم من التقارير التي أصدرها مكتب الصحافة الاستقصائية الفيدرالي، والذي قدّر أعداد المدنيين الذين راحوا ضحايا لهجمات الدرونز في باكستان واليمن والصومال وأفغانستان بالمئات إبان فترة حكم أوباما.
ويقول إنّه تقدّم باستقالته لأنه يشعر بالألم نتيجة العمليات التي قام بها سربه، والتي حصدت أرواح المئات من الأبرياء. ويرى أنه من الواجب عليه أن يكشف الستار عن عيوب الأنظمة التي تتبناها القوات الأمريكية في حربها على “الإرهاب”. وذكر أن اعتراض الاتصالات من وإلى أبراج الهواتف المحمولة ليس الوسيلة الوحيدة لتحديد بطاقات وهواتف المشتبه بهم، بل تُزوّد الطائرات أيضًا بمعدات تُمكنها من إنشاء أبراج هواتف مُزيفّة تُجبر الهواتف في محيط عمل البرج على قطع اتصاله بالبرج الأساسي والاتصال بالبرج المُزيف التي تتحكم به وكالة الأمن القومي، وهو ما يسمح بدوره للوكالة بتتبع الهواتف وبطاقات الـSIM في نطاق يُقدّر بـ30 قدمًا من موقعه الفعلي، وإمداد الوحدات بمعلومات وقتيّة أثناء قيامهم بعمليات الاغتيال.قضى براينت ست سنوات من العمل في الوحدات المتحكمة في الدرونز وعملياتها، حيث ذكر أنّه بحلول عام 2011، وهو العام الذي تقدم فيه باستقالته من سلاح الجو، كانت وحدته المكوّنة من طاقم صغير من الجنود قد قامت باغتيال أكثر من 1626 هدفًا.
ما الذي تخبرنا به الوثائق؟
تتحدث إحدى الوثائق التي سربها إدوارد سنودن عن عملية قامت بها وكالة الأمن القومي الأمريكي في شهر مارس عام 2012، حملت العملية اسم VICTORYDANCE، وكان هدفها إقامة قاعدة جوية لطائرات الدرونز على أرض سلطنة عمان، ثم انطلاقها إلى اليمن ورصد وتتبع أجهزة الاتصالات وإشارات الهواتف التي يستخدمها تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية. وذكرت الوثيقة أن العملية استمرت لمدة ستة أشهر قامت فيها القوات بأكثر من 43 رحلة جوية من القاعدة الجوية بسلطنة عمان إلى الأجواء اليمنية، وأنه بنهاية العملية تمكنّت القوات من الحصول على البصمات الرقمية لجميع الشبكات اللاسلكية “WiFi Fingerprints” في جميع المدن اليمنية، بالإضافة إلى مهام أخرى.
كما تؤكد وثيقة أخرى تُصنّف من الوثائق “السرية للغاية” أن أنظمة وبرامج الوكالة لعبت دورًا رئيسيًا في الغارة التي قامت بها طائرات الدرونز في سبتمبر عام 2011 لاغتيال الشيخ أنور العولقي ومرافقه سمير سمير، حيث كان كلاهما من حاملي الجنسية الأمريكية قبل انضمامهما لتنظيم القاعدة في شبه الجزيرة، حيث ذكرت الوثيقة أن الغارة تمت بعد عملية مشتركة بين وكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات المركزية، قامتا فيها بتتبع العولقي لثلاثة أسابيع ثم اغتياله، بعد أن فشلت الأخيرة -بمفردها- في اغتياله بعملية مشابهة في ربيع ذات العام.
وحوشًا جائعة لمزيد من الأهداف
الطفلة نوار العولقي التي اغتالتها الطائرات بدون طيار الأمريكية
عقّب براينت على عملية اغتيال العولقي قائلًا إنها كانت عملية متسرّعة، وإن أنظمة وبرامج الاغتيال التي يتبناها الجيش الأمريكي تتسبب في أخطاء غير قابلة للتصحيح وإنها أضحت وحوشًا جائعة لمزيد من الأهداف، وبالتالي لمزيد من الضحايا الأبرياء. بل وحمّل نفسه مسؤوليةً كاملة عن اغتيال العولقي وابنه “عبد الرحمن” في عملية مشابهة بعد اغتيال العولقي بأسبوعين، حيث يقول براينت إن عبد الرحمن -الابن الأصغر للعولقي- كان قد هرب من منزلهم بالولايات المتحدة وقدم إلى اليمن للبحث عن والده الذي لم يره منذ ثلاث سنوات، حيث اغتيل العولقي قبل أن يجده عبد الرحمن، واغتيل عبد الرحمن رفقة ابن عمه وبعض أصدقائهما أثناء تناولهم العشاء في أحد المنازل في عملية لم تُقدِّم الإدارة الأمريكية أي سبب لتنفيذها.
استهدفت العمليات عائلة العولقي مرة أخرى أثناء فترة حكم دونالد ترامب، حيث افتتح فترة إدارته بالعملية التي استهدفت منزلًا وسط اليمن كانت تقيم به نورا ابنة العولقي ذات الثمانية أعوام رفقة عدد من النساء والأطفال، حيث تسببت الغارة بمقتل جميع من كانوا بالمنزل.
اختتم براينت حديثه قائلًا إنه لا يعتقد أن صور أبناء العولقي الصغار ستغيب عن عقله، وحمّل إدارة باراك أوباما المسؤولية عن الاستخدام الخاطئ لبرامج الاغتيال من قبل وكالات الأمن الأمريكية. ويقول إنه لا يعرف ما إذا كان الرئيس أوباما مرتاحًا أثناء تصديقه بالموافقة على عمليات الدرونز مع علمه بالأخطاء التي ترتكبها.
وعلى النقيض، أوضح مستشارو أوباما في مناسبات عدة أنه يشرف بنفسه على العمليات، ويتحمل المسؤولية الكاملة عنها، وأنه أبلغ مستشاريه ذات مرة “أنه لم يكن يعلم أنه جيد لهذه الدرجة في اغتيال البشر”.
وعلى النقيض، أوضح مستشارو أوباما في مناسبات عدة أنه يشرف بنفسه على العمليات، ويتحمل المسؤولية الكاملة عنها، وأنه أبلغ مستشاريه ذات مرة “أنه لم يكن يعلم أنه جيد لهذه الدرجة في اغتيال البشر”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق