الثلاثاء، 16 يوليو 2019

أسئلة السيد المسيح في قصر باكنغهام

أسئلة السيد المسيح في قصر باكنغهام


مهنا الحبيل

نظّم معرض باكنغهام الملكي هذا العام متحف لوحات ليوناردو دافينشي، التي تمتلكها الخزانة الملكية، وأخرى استحضرت عبر العالم. 
أطلق على دافينشي لقب الموسوعي، ويتم استنساخ هذا الاسم بحسب استعراض سيرته التي تناولت علوماً شتى، تجمع تفوقه في فن الرسم المذهل، ولوحاته التي تصدّرت العالم، واهتمامه بالتشريح والجيولوجيا وعلم النبات والموسيقى، ويتكئ هذا الوصف على قضية انتماء دافينشي إلى عصر النهضة في العلوم. غير أن حركة إبداعه ظلت متداخلة بعمق بروحه المسيحية، وفي رحلة معاناته تبرز قضية مهمة، وهي أنه خضع لعملية استرزاق مالي صعب، في ظروف فقرٍ شديد، وكانت صناعته الفنية تمتهن هذا المجال بين القادة العسكريين والسياسيين، وبين أساقفة الكنيسة، وكانت الأخيرة بالفعل هي محطة تعاقداته التي كانت مدخلاً للتعويض المالي، وهذا لا يلغي أن دافينشي كان مؤمناً برسالته الفكرية التي يبعثها هذا الفن.
هذا الاستدعاء الملكي للوحات المسيحية، والروح المعمدانية التي ظلت قائمةً بين عصر التخلف والنهضة الأوروبي، يشيران إلى مسار مهم، لفهم التاريخ المسيحي الاجتماعي لأوروبا المعاصرة، وامتدادها في أميركا الشمالية، ثم كل رحلات الاستيطان الكبرى التي حاربت السكان الأصليين، وكانت منذ ذلك التاريخ دلالة كبرى على روح الغزو الديني المسيحي للعالم  
(المتخلف)، أو هبة الله للمؤمنين في أراضي الأغيار في اعتقاد الغربيْن، القديم والجديد.
تحمل كل هذه الجغرافيا التاريخية الممتدة اليوم، في كل ركن عتيق من رحلة المستوطنين الأوائل، أو جغرافيا أوروبا التاريخية، تأكيداً على العمق المسيحي الذي صاحب هذا التاريخ الاجتماعي، وهو يَظهر من خلال أنّ أقدم المعالم وأكثرها حضوراً من إنكلترا إلى كندا هي الكنائس، على الرغم من أن المرجعية المسيحية بذاتها لم تحقق السلامين؛ الروحي والجسدي، للطوائف المسيحية، إذ اشتعلت الحرب الدينية الكبرى بين أضلع أتباع الديانة، وظلت إشكالية الانتماء المذهبي داخل الطوائف، عنصر صراع دموي مروّع.
وعلى مدى تاريخ الرحلة الكنسية، وخصوصاً في القرون الوسطى، التي تحتفظ بها أوروبا اليوم بشدة، وباعتزاز متواصل، لم تضعفه روحها العلمانية الوجودية أو الساخرة، ولم تغب في ضمير الفرد الغربي حالة الاستلهام العام لخريطة هويته. وكان من البارز، في كل هذه الرحلة، استدعاء الكنيسة الخطاب الوجداني العاطفي المشحون بروح تضحية السيد المسيح وقصة مريم العذراء، والابتعاد عن أي جدل عقلي تنويري، يبحث معالم الرسالة والخَلْق، وكيف تفهم دلائل الإعجاز الكوني للإيمان بالخالق.
لم يطلق على دافينشي لقب فيلسوف، مع أن رحلته تشير إلى جدّيته في البحث الذي لم يكتمل، غير أن وصيته متصلة برسوماته التي تحسم روحه المتديّنة، وهي نوعٌ من التعلق بالفقراء مربوطة بالإرث الكنسي عن السيد المسيح، وتبدو هنا ثنائية متناقضة، كمفصل مهم لدراسة التاريخ الأوروبي الديني والمعرفي، من خارج أسوار العالم الغربي، فهنا العلوم وتحريرات العقل، في تشريح الإنسان لدافينشي، تقف عند حد رسوماته، ثم يستمر الخط الروحي بلا أي ربط، وهي التي بنيت عليها نظرية الفصل الكبرى للدين والحياة، والزعم أنه ليس له مصداقية عقلية، حتى في دلالات الوجود الكبرى للخلق.
هنا تتوقف الحالة المسيحية، ويستغرقها التاريخ الذي يُعاد إلى العالم الجديد اليوم، من دون 

 تحرير السؤال الكبير: ماذا عن إيمان السيد المسيح، ما هي دعوته، وما هو مفهوم أنه المخلّص العظيم لذلك الزمن؟ من أهم اللوحات ذات الأبعاد الدينية، وهي منظومة مبدعة، جَسَّدت برسوماتها الحضور، مع طفولة السيد المسيح وحالة الدهشة الكبرى التي تشير لها كصدمة لا يمكن أن تخطئها العين، هي لوحته "عشق المجوس". لوحة لم يكملها دافينشي من دون توضيح لماذا تركها، وهل كان لخلاف تعاقدي مع الراهب أوغسطينييس في فلورنسا، غير أنها استكملت حديثاً، بقدراتٍ راقيةٍ وحضرت في معرض باكنغهام.
تشير اللوحة إلى طفل حيوي ملهم، يحتشد عنده وعند أمه الرهط، وكأنهم يتعجّبون من نطقه، أو إشارته، وهو هنا السيد المسيح عليه السلام. تشير اللوحة المهجورة من دافينشي إلى ما بعد الميلاد. وعلى الرغم من أن صورة المسيح الرضيع والسيدة العذراء تتكرّر في لوحات دافينشي الأخرى، إلّا أن هذه اللحظة والإشارة إلى خطاب الطفل الذي ولدته السيدة العذراء تتطابقان مع بلاغ القرآن الكريم.
هناك قصة قرآنية متكاملة لرحلة المسيح، وتثبيتاً لمعاناته من المنحرفين من بني إسرائيل ومن الطغاة، وكونه بالفعل مخلصاً لذلك الزمان، وداعية إنسانية ضد الظلم، وأن إفراد العبودية  

التوحيدية هي ضمن مفهوم المساواة بين البشر، هذا التسلسل في توثيق نبوّة المسيح وتعظيمها، ورحلته الإنسانية، أحد أهم المسارات التي جاءت بها الرسالة الإسلامية، فهي دلالة بناء ووحدة تجمع الصحيح الذي ثبت عن الرسالات. ولكن هذه ليست القصة، ولسنا اليوم في معرض حوار ديني مشروع، وإنما السؤال الكبير هو لماذا اختارت أوروبا بقاء التناقض؟ وما هو الفرق الذي حملته رحلة التنوير الإسلامي التي حددها المستشرق البريطاني، هاملتون جب، وقوله إن الغرب مدينٌ للتنوير الإسلامي بأصل النهضة، وإن تجاوزت أوروبا مسار الشرق.
هنا نعرض مدخلاً مهماً، وهو كيف أن فلاسفة الروح العلمية التنويرية التي انتشرت في الشرق المسلم كانوا يجمعون بين دلالة الإيمان العقلي والروح العلمية المبتكرة، وأن ذلك النبوغ التاريخي الذي فتح الأبواب العلمية، أو ساهم فيها للعالم الحديث، منسجم الروح والعقل، بل إنه يُعطي دلالاتٍ فلسفيةً متسقة لحياة الإنسان ودعوة النبوات، غير أن كون الرسالة الإسلامية خاتمة قد فتح أبواباً كبرى حملها النص الإسلامي لفلسفة الحياة، تمنح الاجتهاد الزماني والمكاني فضاءً واسعاً، لا يُسقط معادلة الروح والعقل الجامعة. وهنا من الخطأ الفلسفي والعلمي بمكان أن تفهم هذه الفلسفة بناءً على مأزق العقل والكنيسة الغربيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق