الأربعاء، 4 مارس 2020

سيد قطب.. هل كان مجددًا؟!

سيد قطب.. هل كان مجددًا؟!

محمد جلال القصاص

أريد أن أشير إلى أن فكرة النواة الصلبة مثَّلت منطلقًا لعامة الإسلاميين بعدها. استعذبوها ودخلوا فيها دون أن يتأملوها: من أين جاءت.. كيف تكونت؟، وما مآلاتها؟، مع أنهم يدَّعون التدبر ويدعون إليه!!

في حسِّ كثيرين يبدو الأستاذ سيد قطب-رحمه الله- عاليًا عطرًا بهيًا، وحين تبحث عن سبب ذلك تجد عددًا من الأسباب:
 منها: التصاقه بالقرآن الكريم، فقد تفيء سيد قطب ظلال القرآن فأصابه وابل من بركته. والقرآن الكريم روح من الله ( {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} ) ( [الشورى:52] )، كل من قاربه دبت فيه الروح، والقرآن الكريم- كما وصفه الله في أربع مواضع من كتابه- مباركٌ فكل من ورد القرآنَ أصابتُه بركته.

ومنها: أنه تحدث إلى المهزومين والمستضعفين عن العزة والاستعلاء بالإيمان، وحديث العزة والاستعلاء حديث شجي يطرب من يسمعه. يأخذه من واقعه شديد المهانة إلى رياض عطرة كأحلام اليقظة للمعتقلين في الزنازين الفردية، مع أنه عمليًا يتحول إلى حالة من الهروب والاغتراب خارج سياق الزمان والمكان، والعزلة الشعورية قد تتطو إلى نفاق مجتمعي وقد تتطور إلى عزلة مكانية، ما يعني الانسحاب من الواقع وتخليته للرافعين للباطل الدافعين له في وجه أهل الإيمان.
ومنها: السياق الزمني الذي خرج فيه الأستاذ سيد قطب فقد ظهر في سياقٍ من الصراع متعدد المستويات بين الدول العربية حديثة النشوء، وكانت مصر-التي تضطهده- في صراع مع عددٍ من دول الجوار العربي والتي بدورها دعمت الأستاذ كأحد أدوات الشجب على النظام الناصري الذي تصارعه، ومما يدلل على صحة ذلك أن واحدة من هذه الدول (السعودية) كانت تطبع وتوزع بالمجان كتب الأستاذ سيد؛ بل وتدرسها في مدارسها وجامعاتها ضمن مادة الثقافة الإسلامية، وبعد أن انتهت فترة الصراع بين الدول القومية حديثة النشوء واستقرت الحدود الجغرافية واستقرت الحدود الافتراضية نسبيًا غيروا رأيهم وأحضروا من تطاول على الأستاذ وأساء الأدب في حقه. وهو السياسي المعاصر لا يمكن أن يكون متدينًا ولا يثق في متدينٍ، بل يرى المتدين مصارعًا على السلطة بأداة الدين، وهي السياسة المعاصرة لا تعرف التدين إلا أحد أدوات الصراع على السلطة والنفوذ الاجتماعي وإلى الآن لم يخرج التدين عن هذا المجال إلا قليلًا.
 ومنها: أن الأستاذ سيد قطب-رحمه الله- تحدث بخطاب عام يصلح للجميع ولم يتحدث عن قضية تفصيلية تختص بنطاق جغرافي ضيق أو موضوعٍ فرعي. والتميز-كما يبدو لي- يحدده أمران: منطقة العمل والإمكانات الشخصية لمن يعمل، فمن يعالج قضية تفصيلية تتعلق بمساحة ضيقة جغرافيًا ليس كمن يتحدث للأمة كلها في قضايا تهم الجميع، ومن يتحدث من على منبر مصر في الستينات ليس كمن يتحدث عن منبر في دولة أفريقية نائية في ذات الفترة.
 ومنها اتباع الأسلوب الأدبي شديد الرقي لا الأسلوب الأكاديمي المتعالي المعقد، والأدب يطرب ويحمل المعاني إلى الأعماق بهدوء ويسر، بخلاف العبوس المتغطرسة (اللغة الأكاديمية) التي تستفز من يقرأ وتنفره.
 ومنها: حالة التغيير التي كانت تمر بها المجتمعات المسلمة في مرحلة ما بعد الخلافة.. مرحلة تكون الدولة القومية ومحاولة عرقلتها لاستعادة الخلافة مرة أخرى، وفي مراحل التغيير يحتشد الناس وتسود حالة من الحماسة، بمعنى أن الكل حضور حول خطاب التغيير ويتجهون أكثر لمن يحدثهم عن العزة والكرام وقرب النصر.
ومنها: صمود الأستاذ سيد في وجه سلطةٍ جائرة، فنصف الناس أعداء من يحكمهم كما قال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، والناس تعظم من يعاند وتتخذه مثلًا وإن كان كافرًا كجيفارا مثلًا. وشرك العوام شركٌ حسي.. يريدون قائدهم وكبيرهم ومتبوعهم (إلههم) ماثلًا بين أيديهم.. قريبًا مكانًا منهم، ولذا يميلون إلى تمثيل الإله في (طوطم) أو صنم أو بيت أو قبرٍ أو شخص، وجلهم يأتي الشرك فمقل ومكثر. وترميز بعض الأفراد وجعلهم متبوعين في كل حال.. وجعل كلامهم صواب كله نوع شرك. ويلجأ سدنة الأنساق المغلقة وقادة المجتمعات في واقعنا المعاصر إلى الترميز كوسيلة سهلة لقيادة الناس، فالترميز (التصنيم) أحد أهم الأدوات التي يتبعها الجميع بوعي أو بدون وعي لقيادة الناس وتوجيههم، وقد أشار سيد قطب نفسه إلى هذا المعنى في الظلال أكثر من مرة. وهذه الوسيلة حاضرة بقوة في الأنساق المغلقة (الجماعات الإسلامية) ولك أن تتدبر حال صغار السن والعقل مع شيوخهم والقيادات التاريخية وحال الشيوخ معهم وهم لا ينهونهم!!
 وأهم ما يمكن أن يفسر ظاهرة سيد قطب التي انتشرت في الفترة الماضية هو وجود جماعات منظمة أو شبه منظمة (أنساق مغلقة) تدعمه؛ فقد كان ثمة من ينتظر كلماته ليحملها هنا وهناك بين آلاف من الذين أوقفوا أنفسهم على نشر وعي ديني وسياسي في المجتمعات المسلمة. بمعنى أنه حدث تبادل ضمني للمنفعة بين سيد قطب وهذه المجموعات الدعوية التي تأخذ شكل أنساق مغلقة (تنظيمات وشبه تنظيمات): هو زوَّد القائمين على الأنساق المغلقة بوقودٍ فكري يناسب شهيتهم في تجنيد الأعضاء وحثِّهم على البذل والتضحية من أجل الأفكار التي يتبناها النسق المغلق (الجماعة) الذي ينتمون إليه وزوَّدهم-أيضًا- بنموذج عملي للصمود في وجه السلطة الجائرة؛ وهم وفروا لكلماته انتشارًا. ولذا حين انتشر كتاب معالم في الطريق بعد طباعته بأيام استدل عبد الناصر بسرعة الانتشار على وجود تنظيم بجوار سيد قطب عمل على نشر الكتاب بهذه السرعة؛ نعم الجماعات الداعمة لها دور كبير في صناعة الرموز وخاصة في هذه الأيام، فكل مشهورٍ منتشر بين الناس يتركب من شيئين: إمكاناته الشخصية والأدوات الإعلامية التي حملت أفكاره إلى الناس، وفي الجملة القوة قوة أدوات وقد أتيت هذا المعنى كثيرًا ولا أريد أن أكرر. فقط أريد أن أقف قليلًا حول العلاقة بين سيد قطب والتنظيمات الإسلامية التي عاصرته ولحقته وأدور حول هذه العلاقة وأعيد النظر فيها مرة بعد مرة، ونلقي عليها الأسئلة نحاول أن نستوضح أهم ما فيها ومساراتها بحثًا عن إجابة على سؤال رئسي: هل كان سيد قطب مجددًا؟
سيد قطب والأنساق المغلقة:
ظهرت الأنساق المغلقة (الجماعات الإسلامية)،  كوسيلة لتكوين كتلة تسعى إلى استعادة الحياة الإسلامية من جديد، وأجهضت التجربة الأولى (الإخوان المسلمين نسخة الأستاذ حسن البنا) مع أول صدام لها مع السلطة، وظلت الجماعة مبعثرة بعد البنا على خلفية اختيار مرشد!! ولم تتجمع إلا بعد انهيار السلطة الحاكمة، ثم اجهضت بأيدي السلطة مرة ثانية (الصدام مع عبد الناصر) وتوارى ذكرها خلف جدران الإهانة والحرمان (السجون)، ولم يثمر إلا الذين لم خرجوا عن النسق المغلق وعملوا منفردين كالشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق ومحب الدين الخطيب وعلماء السلفية، حتى جاء الأستاذ سيد قطب وبلور نظرية جديدة أعادت النسق المغلق فتيًا مرةً ثانية، وهي نظرية الفئة المؤمنة. يقول: مجتمع مسلم في وجه الجاهلية المعاصرة التي تحكم العالم، وأن المجتمع المسلم يبدأ من فئة مؤمنة حق الإيمان، وأن النصر لا يحتاج لأكثر من تصحيح العقيدة، فإن وجدت الفئة المؤمنة حقًا نزل النصر!!

ولا أريد هنا مناقشة الفكرة، ولكن أريد أن أشير إلى أن فكرة النواة الصلبة مثَّلت منطلقًا لعامة الإسلاميين بعدها. استعذبوها ودخلوا فيها دون أن يتأملوها: من أين جاءت.. كيف تكونت؟، وما مآلاتها؟، مع أنهم يدَّعون التدبر ويدعون إليه!!
تحرك بعضهم إلى تكوين (فئة مؤمنة/ نواة صلبة/ جماعة) تأخذ بأسباب النصر التي شخصها وقتها بالاستيلاء على السلطة بالسلاح أو الثورة الشعبية (الجماعات المسلحة)؛ وتحرك بعضهم إلى تطوير الفئة المؤمنة إلى مجتمع مؤمن بعيد عن الجاهلية فدعى إلى تكفير العوام وهجرانهم لتكوين مجتمع مؤمن خارج الواقع المعاصر يزاحمه ويناطحه ثم يبتلعه!! (التكفير والهجرة والسماويون)؛ وتحرك بعضهم إلى تصحيح العقيدة كضرورة من ضروريات تكوين الفئة المؤمنة فتحدث عن التصفية والتخلية ثم غرق في التفاصيل وخرج من سياق الزمان والمكان (السلفية العلمية). وهكذا مثَّلت نظرية سيد قطب متركزًا للذين من بعده..
لماذا راجت فكرة النواة الصلبة؟
لأنها تتفق مع الحالة النفسية التي سيطرت- ولا زالت تسيطر- على الإسلاميين، كان-ولا زال- الكل يتعجل استعادة الحياة الإسلامية/الخلافة الإسلامية سريعًا، ينظرون للواقع المنحرف ويريدون التخلص منه سريعًا. فتكوين فئة مؤمنة لا يحتاج لكلفة من وقت أو جهد، فيستطيع من ينشط أن يكوِّن فئة مؤمنة في سنوات قليلة وخاصة أنه لا يشترط غير تصحيح الاعتقاد كما يراه الداعي إلى الفئة المؤمنة، ويمكن تصحيح الاعتقاد من خلال عدد قليل من جلسات النقاش المعرفي ما يقال له "الدعوة الفردية".

وقد بسطت هذه النظرية الأمور وسهلتها على الجميع فنشط من شاء وكون (فئة مؤمنة) ثم تضخم الأمر وتحولت إلى كتل متصارعة في مستويات شتى: فكرية (اختلاف عقدي)، وعملية (الصراع على المساجد مثلًا). ولك أن تتأمل في رؤوس التكتلات الصحوية التي ظهرت بعد سيد قطب ستجد أنهم جميعًا سادوا قبل أن يتعلموا.. جلهم صنف وأسس كيانًا وهو طالب جامعي، ويفاخر بذلك!
التقيت مرةً أحدهم، وحين عرفني كأنه ظفر بغنيمة.. يريد أن يصحح لي عقيدتي، وراح يتحدث عن ما لا يسع المسلم جهله من أمور الاعتقاد حسب ما يرى، وبعد أن فرغ حدثته باثنتين: الأولى: أن ما يراه هو مسلمات عقدية يختلف معه فيه أقرب الناس إليه من الصحوة عمومًا أو السلفية على وجه الخصوص، ما يعني أنها حالة من التمذهب وليست حالة من (صحة الاعتقاد). والثانية: أن أغلب المنتسبين للصحوة لا يمتلكون شرعية التحدث باسم الدين للعوام ولذا ينحصر خطابهم ضمن فئة قليلة من الناس وينتهي الأمر بحالة من التحزب/ التشيع ثم الصراع بين المتحزبين ولك أن تستحضر الخلاف بين السلفيين أنفسهم على المساجد وغير المساجد فضلًا عن الخلاف مع غيرهم.. !!
نفدت كلمات هذا المقال ونعود في مقالٍ قادم إن شاء الله للحديث عن تطورات نظرية الفئة المؤمنة في حياة الأستاذ سيد قطب وبعده.
محمد جلال القصاص
9 رجب 1440
16 مارس 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق